ملخص
أربعة رجال افتتنوا بساره برنار التي أطلقت عصر النجوم
من جديد إذاً وبعد مئة عام بالتمام والكمال من رحيلها، ها هي نجمة النجوم بل فاتحة عصر عولمة النجوم، الفرنسية سارة برنار تبتسم بسحرها الغامض للمارة الباريسيين وللمتنقلين في المترو، عبر مئات الملصقات الضخمة التي لا تعيد فقط ملامحها المألوفة إلى جدران شوارع كانت قد اعتادت تلك الملامح والنظرة الغامضة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل تعيد معها إلى الساحة العامة الباريسية الفنان نادار الذي التقط لها في ذلك الزمن المبكر صوراً كانت هي المفتتح الحقيقي لعصر نجمات الحسن والجمال في تاريخ البشرية، ولكن إذا كانت ملصقات سارة برنار في زمن نادار وخلال حياتها تعلن عن عروض مسرحية لها فيتدافع الجمهور لشراء البطاقات التي تخوله عيش ساعتين وربما أكثر من عالم السحر والأحلام، فإن ملصقاتها الجديدة التي تزدهي بها باريس هذه الأيام إنما تدعو الناس لمشاهدة المعرض الضخم الذي يقام عن حياتها وأعمالها وكل ما يتعلق بهما في متحف الفنون الجميلة بمدينة باريس بدءاً من 14 أبريل (نيسان) وحتى 27 أغسطس (آب) من هذا العام في مبادرة تذكر الجمهور بعظمة الفن المسرحي لا سيما حين تكون نجمته فنانة من طراز سارة برنار.
جولات عالمية
لم تكن سارة برنار حدثاً عادياً في تاريخ الفن الفرنسي ولا في تاريخ أوروبا هي التي جالت في شتى القارات وقدمت عروضاً بقيت طويلاً في أذهان الناس وذكرياتهم من نيويورك إلى القاهرة والإسكندرية، ومن روما إلى لندن والشمال الأوروبي... الخ، تثير أنى تنقلت العواصف والتصفيق تاركة من كل مكان نجمات يسرن على خطاها وصورها معلقة في البيوت وفي أفئدة الرجال، ترى أفلم نذكر نحن هنا قبل أسابيع قليلة وفي هذه الزاوية بالذات كيف أن سيغموند فرويد، مبتكر التحليل النفسي والعالم الوقور كان يعلق على جدار مكتبه صورة لها، كما كان ذات يوم من شبابه قد قصد باريس ليشهد افتتاح واحد من عروضها وكتب حولها وحول العرض نصاً باهراً منبهراً دون أن تكون كعادة النساء اللواتي أعجب بهن، لا واحدة من "مريضاته" ولا واحدة من تلميذاته، بل حتى دون أن يقيض له أن يلتقيها أبداً! والحال أن فرويد لم يكن متفرداً في موقفه منها. وكذلك، على سبيل المثال، لم تكن نجمة مسرحنا العربية اللبنانية الأصل فاطمة اليوسف التي تحولت في مصر إلى روز اليوسف فكانت نجمة مسرحية ثم صحفية مرموقة، وأما لواحد من كبار الكتاب المصريين، إحسان عبد القدوس، لم تكن بدورها متفردة حين لقبت نفسها بـ"ساره برنارد الشرق" ففي كل بلد في العالم كان فيه مسرح ونجمات مسرح كبيرات، كان ثمة فنانة كبيرة تحمل اللقب نفسه.
نسوية مبكرة
من صورها ومما كتبه أصحاب الذكريات عنها، قد نستشف أنها كانت صاحبة مدرسة في التمثيل لا تضاهى وصاحبة ذوق في اختيار الأدوار وأدائها لا مثيل له، لكننا نستشف أكثر أنها كانت ذات أنوثة طاغية وإصرار على أن تلعب دائماً على الخشبة أدوار نساء قويات صنعن أنفسهن بأنفسهن دون منة من مجتمع أو من رجل، لا سيما أدوار نساء تراجيديا ذوات مصائر استثنائية، ومن المؤكد أن ذلك الإصرار كان يشي بنزعة نسوية مبكرة لم يكن أحد يعرف كيف ينظّر لها، لكنها تبدو دائماً قادرة على التعبير عن تلك الأنوثة التي كانت تتمسك بها حتى لاحقاً وهي في "أرذل العمر". ومع هذا قد يلفت النظر حقاً أن ساره في مسارها الفني الطويل حرصت في بعض المرات على أن تلعب أدوار رجال من مشاهير ذكور التاريخ والعالم. وذلك على العكس مما كان يحدث قبل ذلك في تاريخ المسرح لا سيما في زمن شكسبير في بريطانيا وزمن راسين وكورناي وحتى موليير في فرنسا، كما في مراحل كثيرة من تاريخ المسرح الإسباني، حيث اعتاد ممثلون ذكور على التزيي بثياب النساء ولعب أدوارهن على المسرح.
ومن الواضح أن ساره برنار حين عكست الآية لم تفعل لنزوة ألمت بها ولا لنقص في الممثلين الرجال العاملين معها، بل لمجرد أنها أحبت تلك الأدوار وشاءت أن تشرك جمهورها في ذلك الحب، كان اختياراً فنياً إلى جانب كونه اختياراً نسوياً يحمل كثيراً من التحدي الاجتماعي، ويقيناً أن نجاحها كان كبيراً في المجالين لا سيما بالنسبة إلى أربع مسرحيات لا تنسى قدمتها خلال مسارها الطويل والمتشعب وليس على خشبة "الكوميدي فرانسيز" فقط، بل حتى، بالنسبة إلى دور هاملت في مسرحية شكسبير الخالدة، في مسقط رأس شاعر الإنجليز الأكبر ستراتفورد آبون إيفون، حيث، وإمعاناً في التحدي، أصرت على تقديم مسرحية هاملت... بترجمة فرنسية فراح الناس يصفقون لها بقوة دون أن يفهموا شيئاً من حوارات مسرحية يحفظونها عن ظهر قلب على أية حال، إضافة إلى إدراكهم بسرعة كيف أن ملامح النجمة واستعمالها تعبير لغة الجسد بدت من أفصح ما يكون!
أوفيليا الفاشلة وهاملت المنتصر
إذاً ستكون "هاملت" واحدة من أشهر المسرحيات التي لعبت فيها ساره دوراً رجالياً. وهي علقت على ذلك حينها بتصريح صحافي لمجلة "فن المسرح" قائلة "أنا لا أفضل أن ألعب دور الرجال على وجه الخصوص. لكن عقول الرجال لا سيما عقل هاملت منها، تغريني علماً بأن لعقل هاملت خصوصيته ورهافته وتحمله للعذاب حتى وإن كان يتسم ببساطته المطلقة لكونه يسيره حلم وحيد في كل تصرفاته". والجدير بالذكر هنا أن ساره برنار نفسها كانت قد أخفقت إخفاقاً مريعاً في تقديم سابق للمسرحية نفسها لعبت فيه تلك المرة دور أوفيليا حبيبة هاملت وضحيته! ومن هنا فضلت هذه المرة أن تنطلق من ترجمة جديدة للمسرحية الشكسبيرية قارن بها مارسيل شووب مع أوجين موران لتقوم بدور هاملت فيها، وهو يشبه ما فعلته حين أنتجت مسرحية "النسر الصغير" من تأليف إدمون روستان وقدمتها على خشبة المعرض الباريسي الدولي في ربيع عام 1900، وكانت حينها في الستين تقريباً من عمرها، والطريف في هذه الحكاية التي تدور من حول آلام إبن نابوليون الأول وولي عهده الذي كان يلقب بالنسر الصغير، أن هذا البطل المأسوي مات مريضاً بالسل وهو في الحادية والعشرين، لكن النجمة الكبيرة التي يزيد عمرها ثلاثة أضعاف على عمر الشخصية، أصرت على أداء الدور فكان النجاح الساحق حليفها لتستعاد "النسر الصغير" 237 مرة متتالية!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هكذا تكلم أناتول فرانس
إضافة إلى دوري سارة برنار الخالدين في "هاملت" و"النسر الصغير"، نجدها في عام 1875 تلعب دور "تزيناتو" الشاعر الجوال (التروبادور) في مسرحية "العابر" للكاتب الشعبي الذي كان نجم الكتابة المسرحية للجمهور العريض حينها، فرانسوا كوبيه. والمفارقة أن النجمة التي لم تكن حينها قد أصبحت بعد، "نجمة النجمات" حققت عبر ذلك الدور أول نجاح ضخم في تاريخها الفني في تلك المسرحية ذات الفصل الواحد التي راحت تستعاد وتستعاد وتترجم إلى اللغات الأوروبية وتفتن الجمهور العريض بموضوعها الذي تدور أحداثه في عصر النهضة.
ولنذكر أن نجاح ساره برنار الساحق في أداء دور الشاعر حرك موهبة النحات بول دوبوا فحقق لها منحوتة وهي تؤدي الدور تدافع الألوف لمشاهدتها مدهوشين حين عرضت في "بيت باربيديان" كما أن الأميرة ماتيلدا ابنة عم نابوليون دعت الفنانة لأداء الدور في قصرها في حضور علية القوم والعائلة من كبار الأمراء وتحت رعاية الإمبراطور وزوجته. ويبقى هنا الدور الرابع في المجموعة وهو طبعاً دور لوررانزاتشيو في المسرحية التي يحمل عنوانها اسم تلك الشخصية، وتعد من أشهر مسرحيات ألفريد دي موسيه وأبقاها حتى اليوم. ومن خصائص ذلك التقديم لـ"لورانزاتشيو" أنه شهد التعاون الأول بين ساره والرسام موشا الذي سيتحول بفضلها إلى مجدد كبير في فن الملصق في فرنسا منذ ذلك الحين. أما بالنسبة إلى أداء ساره فيها دور البطولة الذكوري فسيقول أناتول فرانس الذي حضر العرض الافتتاحي نحو عام 1899، إن ساره برنار قد "حققت هنا مأثرة فنية استثنائية وإبداعاً حياً معتمدة على ثقتها بأدائها، وعلى الجمال المأسوي الذي يطبع لغة جسدها ونظراتها (...) في مزيج من الغموض والرعب".