ملخص
تواجه الولايات المتحدة خطراً يتمثل في التخلف عن سداد الديون الفيدرالية للمرة الأولى في التاريخ
بينما يلتقي الرئيس الأميركي جو بايدن مع رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي غداً الثلاثاء في محاولة لمنع تخلف أميركا عن سداد ديونها، يبدو أن الطرفين يشنان حرباً سياسية حزبية، إذ يرفض بايدن التفاوض ولا يريد أن ينظر إليه على أنه يخضع لمطالب الجمهوريين ويقلل من المكاسب التشريعية الليبرالية التي حققها خلال حكمه، في حين يحتاج مكارثي إلى استرضاء أكثر أعضاء حزبه تشدداً، بعدما نجح بصعوبة في تمرير مشروع قانون يرفع سقف الديون لكنه يخفض الإنفاق ويعرقل أجندة بايدن السياسية. لكن أسلوب القيادة القتالية للزعيمين السياسيين يعتبره بعضهم مثيراً للاستقطاب والمعارضة وقصير المدى وغير فعال، مما يخاطر بالتخلف عن سداد الديون ويدفع الولايات المتحدة إلى الركود وربما يؤدي إلى أزمة اقتصادية ومالية عالمية. فما استراتيجيات التفاوض الممكنة؟ وهل تتوافر فرصة للالتفاف حول الأزمة وتنحية الحزبية جانباً واعتماد نهج مختلف؟
ما أصل الأزمة؟
تواجه الولايات المتحدة خطراً مريراً هذه الأيام يتمثل في التخلف عن سداد الديون الفيدرالية للمرة الأولى في التاريخ، إذ يتعين على الحكومة الأميركية والكونغرس التوافق معاً لرفع سقف الدين الأميركي خلال ثلاثة أسابيع من الآن، أي قبل الأول من شهر يونيو (حزيران) المقبل، وهو الموعد الذي حددته وزارة الخزانة هذا الأسبوع لدرء التخلف عن السداد الفيدرالي عندما تنفذ الإجراءات غير العادية التي اتخذتها الوزارة منذ يناير (كانون الثاني) الماضي حينما وصل الدين إلى حده الأقصى وهو 31.4 تريليون دولار.
ووفقاً لما أعلنته وزارة الخزانة عبر موقعها على الإنترنت تمكن المشرعون عبر التاريخ في الكونغرس من زيادة سقف الدين، وهو الحد الأقصى للأموال التي يمكن أن تدين بها وزارة الخزانة لتغطية سندات الدولة، في 78 مناسبة مختلفة على مدى الأعوام الـ63 الماضية، منها 49 حالة في ظل إدارات جمهورية، و29 حالة في ظل إدارات ديمقراطية.
لكن العجز في الموازنة ظل يتزايد خلال العقدين الماضيين بعد ولاية بيل كلينتون التي حققت فائضاً في الموازنة، إذ يتوقع أن يصل عجز الموازنة الفيدرالية إلى 1.4 تريليون دولار في السنة المالية الحالية 2023، وقد يصل متوسط العجز السنوي إلى تريليوني دولار خلال العقد المقبل، بينما يتوقع أن يرتفع الدين الوطني الأميركي الخاضع لحد الاقتراض إلى 52 تريليون دولار عام 2033، وفقاً لتقرير فبراير (شباط) الماضي، الصادر عن مكتب الموازنة بالكونغرس.
ما تداعيات التخلف عن السداد؟
حذر الخبراء والمشرعون من آثار كارثية على الاقتصاد الأميركي والعالمي إذا تخلفت الحكومة الفيدرالية عن السداد. فبينما يتوقع الخبراء أن تشهد الولايات المتحدة ركوداً في وقت لاحق من هذا العام، فإنهم يحذرون من أن التخلف عن السداد الفيدرالي من المحتمل أن يسرع هذا الجدول الزمني، مما يزيد من خطر حدوث تباطؤ حاد في الاقتصاد الأميركي. ويقول مارك غيرتلر أستاذ الاقتصاد في جامعة نيويورك إن ذلك سيؤثر في الإقراض والاقتراض والأسواق المالية، وحينما يجتمع ضعف الاقتراض مع إنفاق أقل فهذا من شأنه أن يؤدي إلى الركود.
ومن المرجح أن تشهد الأمة الأميركية أسعار فائدة أعلى على ديونها في حال التخلف عن السداد، إذ سينظر إلى الولايات المتحدة على أنها مقترض أقل جدارة بالثقة، إذ تعتبر سندات الخزانة الأميركية حالياً من بين الأصول الأكثر أماناً في العالم، مما يمنح الحكومة سمعة باعتبارها مقترضاً موثوقاً به على الساحة العالمية، الأمر الذي يسمح للحكومة باقتراض مزيد من الأموال للوفاء بالتزاماتها المالية.
ومن المحتمل أن يتسبب التخلف عن السداد الفيدرالي في قيام الشركات بتسريح العمال بشكل جماعي، بسبب القلق بشأن الشكل الذي سيبدو عليه الاقتصاد خلال السنوات القليلة المقبلة، بحسب ما تقول ويندي إيدلبيرغ، الخبيرة في معهد "بروكينغز" في واشنطن. كما يمكن بشكل كبير أن يتسبب التخلف عن السداد في حدوث انهيار في الأسواق المالية مع انخفاض قيمة سندات الخزانة الأميركية التي تصل قيمتها إلى تريليونات الدولارات وهي ركيزة أساسية للنظام المالي العالمي، ما قد يتسبب في انهيارات للأسواق المالية حول العالم.
ماذا تفعل واشنطن؟
قدم الجمهوريون والديمقراطيون أفكاراً حول كيفية معالجة عجز الموازنة في المستقبل، لكن كلا الجانبين كانا متباعدين في مقاربتهما، وانتهى الأمر باصطفاف غالبية الجمهوريين في مجلس النواب وراء مشروع قانون، وافق عليه مجلس النواب بصعوبة يوم الـ26 من أبريل (نسيان) الماضي، ووصفه الجمهوريون بأنه مكان لبداية جيدة في محادثات الحد من الديون بين الحزبين، إذ يضع حداً أقصى للإنفاق الحكومي عند مستويات السنة المالية 2022، ويستهدف الحد من نمو الإنفاق إلى واحد في المئة كل عام على مدى العقد المقبل.
لكن الديمقراطيين الذين يرفضون ربط أي تخفيضات في الإنفاق برفع حد الدين أبدوا معارضة قوية للخطة، لأن المقترحات الأخرى الواردة في مشروع القانون تهدد بإلغاء عديد من المزايا الاجتماعية التي تعد جزءاً أصيلاً من أجندة بايدن السياسية، إذ تفرض متطلبات أكثر صرامة لبرامج مثل الرعاية الصحية لمحدودي الدخل "ميديكيد" وبرنامج مساعدة التغذية التكميلية للفقراء، كما تمنع إلغاء قروض الطلاب التي تحاول إدارة بايدن تنفيذها الآن، وهي أجزاء أقرها قانون اقتصادي دعمه الديمقراطيون حينما سيطروا على مجلسي الكونغرس العام الماضي من دون أي دعم جمهوري.
وبدلاً من ذلك ضغط الديمقراطيون من أجل رفع حد الدين من دون شروط، واتهموا الجمهوريين بالنفاق والمكايدة السياسية، لأنهم وافقوا بكل رضا في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب على ثلاث زيادات في حدود الديون، وضغط الديمقراطيون من أجل زيادة الضرائب على الأثرياء لجلب مزيد من الإيرادات للتوجه نحو خفض العجز في الموازنة والمساعدة في تغطية الإنفاق غير الدفاعي. ومع ذلك رسم الجمهوريون خطوطاً حمراء ضد رفع سقف الدين من دون إصلاحات مالية، لتصل الأزمة إلى طريق مسدود يحاول بايدن ومكارثي وعدد من قادة الكونغرس، تجاوزها في اجتماع يوم غد الثلاثاء.
حرب سياسية
وبحسب أستاذة إدارة الأعمال والقيادة في جامعة ديلاوير ويندي سميث، فإن بايدن ومكارثي يبدو أنهما يشنان حرباً سياسية حزبية بدلاً من تحمل مسؤوليتهما في قيادة البلاد، إذ إن بايدن لا يريد أن ينظر إليه على أنه يخضع لمطالب الجمهوريين ويقلل من المكاسب التشريعية الليبرالية التي تعهد بها قبل انتخابه. في حين أن مكارثي يحتاج إلى استرضاء حتى أكثر أعضاء حزبه تشدداً، وهو ما ظهر خلال تمرير مشروع القانون الذي دفع به في مجلس النواب ومرره بأغلبية ضئيلة، الأمر الذي يخاطر بالإبقاء على الأزمة ما لم يتوصل الطرفان إلى أرضية مشتركة ويقدمان تنازلات متوازنة.
وفي حين يبدو أنه من شبه المستحيل في المناخ السياسي الحالي إمكانية التوصل إلى حلول إلا أنه لدى بايدن ومكارثي فرصة للالتفاف حول الأزمة وترك إرث إيجابي ودائم من القيادة الشجاعة، لكن يتعين عليهما تنحية الحزبية جانباً واعتماد نهج مختلف يستفيد من بعض النماذج المدعومة بالأدلة في التاريخ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نهج أكثر شمولية
يخاطر القادة السياسيون أحياناً بأن يصبحوا رهينة في يد أعضاء حزبهم، وهو أمر واجهه مكارثي من قبل الأعضاء المحافظين المتشددين في ائتلافه خلال شهر يناير الماضي، حينما وافق مضطراً إلى أن يصبح رئيساً للمجلس على تعديل في اللائحة يسمح لمشرع واحد بفرض تصويت في مجلس النواب يمكن من خلاله الإطاحة به من منصبه، ولهذا فإن هذه التنازلات للأعضاء الأكثر تطرفاً في حزبه، تمنح قدراً كبيراً من السيطرة على أجندته وتحد من قدرة مكارثي على عقد صفقة تسوية مع الرئيس بايدن.
في المقابل فإن بايدن الذي أعلن الأسبوع الماضي ترشيح نفسه لإعادة انتخابه عام 2024، يراهن على إنجازاته في فترة ولايته الأولى حتى يساعده ذلك في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وقد يكلفه التفاوض على أي شيء يتعلق بالأجزاء الرئيسة من أجندته، خسارة قاعدته الانتخابية.
لكن القيادة التي تملك نظرة قصيرة المدى أحادية الجانب، وتفكر في خيارين فقط هما القبول أو الرفض، تجعل من قراراتها لعبة محصلتها صفر، لأنها تعتبر أن كل شبر تتنازل عنه يمثل خسارة، في حين أن القيادة العظيمة تتضمن تفكيراً أوسع شمولاً يسعى إلى التكامل والوحدة عبر وجهات نظر متعارضة.
دي كليرك وديركسن
ومن بين الأمثلة الساطعة التي تعود إلى ستينيات القرن الماضي أن الرئيس الأميركي ليندون جونسون وزملاءه الديمقراطيين، كانوا يكافحون من أجل الحصول على تصويت في مجلس الشيوخ لإقرار قانون الحقوق المدنية لعام 1964 وكانوا بحاجة إلى دعم الجمهوريين. وعلى رغم معارضة السيناتور الجمهوري المحافظ إيفريت ماكينلي ديركسن زعيم الأقلية آنذاك، إلا أنه قاد زملاءه في تجاوز الخطوط الحزبية والانضمام إلى الديمقراطيين لتمرير التشريع التاريخي.
وظهر مثال آخر عام 1990، عندما أطلق رئيس جنوب أفريقيا آنذاك فريدريك ويليم دي كليرك سراح خصمه نيلسون مانديلا من السجن، بعدما اتفق العدوان السياسيان السابقان على صفقة أنهت الفصل العنصري ومهدت الطريق لحكومة ديمقراطية، أصبح مانديلا بعدها رئيساً للبلاد لمدة أربع سنوات، وفاز مانديلا ودي كليرك بجائزة نوبل للسلام.
ولأن نهج القيادة التكاملي يبدأ بتحول في العقلية يبتعد من رؤية الأطراف المتعارضة على أنها متضاربة، ويقيمها بدلاً من ذلك على أنها مولدة لإمكانات جديدة، فإن القيادة الشاملة في قضية سقف الدين تعني أن بايدن لا ينبغي أن يرفض التفاوض بشأن الإنفاق، بل يمكنه أن يعترف بأن الجمهوريين لديهم وجهة نظر بشأن عبء الديون المتصاعد في البلاد. كما قد يدرك مكارثي وحزبه أنهم لا يستطيعون فقط خفض الإنفاق، بل يمكن أن يحققوا مع الديمقراطيين نجاحاً أكبر من خلال تطوير خطة تكاملية تعمل على خفض التكاليف وزيادة الضرائب ورفع سقف الديون.
رؤية بعيدة المدى
يعتبر الباحثون أن نظرة "المدى القصير" هي لعنة تصيب السياسة الأميركية، حيث يواجه القادة ضغوطاً لإظهار نتائج فورية أمام الناخبين. ولهذا نرى أن لدى بايدن ومكارثي حوافز قوية للتركيز على تحقيق فوز قصير الأمد مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس العام المقبل، غير أن التفكير بعيد المدى يمكن أن يساعد القادة الذين لديهم أجندات متنافسة.
وإذا أراد بايدن ومكارثي تجنب أزمة مالية وترك إرث دائم لهما، فسيستفيدان من التركيز على المدى الطويل الذي يمكن أن يساعد في العثور على نقاط توافق نحو الهدف المشترك طويل الأجل، بدلاً من التأكيد على الاختلافات المهمة حول كيفية الوصول إلى هدف كل منهما قصير الأجل.
خطوات صغيرة لكن فعالة
في كثير من الأحيان يمتدح الناخبون القادة السياسيين الذين يتصرفون بسرعة وثقة وطمأنينة، لا سيما في لحظة عدم اليقين الاقتصادي، ومع ذلك غالباً ما يتطلب الأمر إيجاد حل إبداعي لأكبر التحديات الأميركية بأن يضع القادة جانباً التباهي والعناد، مما يعني أنهم يتخذون خطوات صغيرة للاستماع إلى بعضهم بعضاً وتجربة الحلول وتقييم النتائج، ثم تعديل نهجهم بحسب الحاجة.
ومن خلال الخطوات الصغيرة يمكن بناء علاقات غير متوقعة مع الخصوم السياسيين، وعلى سبيل المثال يصف المستشار التنظيمي آدم كاهانا في كتابه لعام 2017 بعنوان "التعاون مع العدو"، كيف قام بتسهيل ورش عمل لمساعدة الأعداء السابقين في اتخاذ خطوات صغيرة نحو المصالحة، كما حدث في جنوب أفريقيا في نهاية الفصل العنصري وفي كولومبيا وسط حروب المخدرات، حيث ساعدت هذه الجهود جنوب أفريقيا في أن تصبح ديمقراطية ناجحة متعددة الأعراق، كما ساعدت كولومبيا في إنهاء عقود من حرب العصابات.
ويتطلب هذا النوع من القيادة خطوات صغيرة نحو التواصل بدلاً من قفزات سياسية كبيرة، كما يتطلب أن يتخلى الطرفان عن مواقفهما ويفكران في المكان الذي يرغبان في تقديم تنازلات عنده. ولهذا يمكن لبايدن ومكارثي التعلم من اثنين من حكام ولاية تينيسي السابقين، الديمقراطي فيل بريديسن والجمهوري بيل هاسلام، فعلى رغم أنهما يعارضان بعضهما بعضاً في كل القضايا السياسية تقريباً، بما في ذلك قضية الحد من السلاح، إلا أن الحاكمين السابقين أقاما علاقة بناءة على مر السنين، وبدلاً من معالجة القضايا الخلافية الكبيرة بدآ بتحديد النقاط الصغيرة واتفقا مع بعض، مما أدى إلى بناء ثقة أكبر. ولذلك عندما قتل مسلح ستة أشخاص في مدرسة بمدينة ناشفيل أخيراً تمكن الحاكمان السابقان من تجاوز توجيه أصابع الاتهام السياسية، والتركيز على كيفية عمل حزبيهما معاً على إصلاح ذي مغزى للسلاح.
في انتظار نتائج مبدعة
وعلى رغم أن الحزبين السياسيين الرئيسين مستقطبان أكثر من أي وقت مضى، وتستمر الشكوك حول احتمالات تحقيق انفراجة بسرعة، إلا أن الأمر يتعلق بأكثر من سقف الدين، إذ تواجه الولايات المتحدة قائمة طويلة من المشكلات الكبيرة والصغيرة، من التضخم المرتفع والأزمة المصرفية إلى الحرب في أوكرانيا وتغير المناخ، يحتاج الأميركيون قادة يتعاملون مع هذه القضايا من خلال العمل معاً لتحقيق نتائج أكثر إبداعاً.