ملخص
كان رئيس الاستخبارات العراقية برزان التكريتي يتطلع إلى تحقيق الضربة الكبرى وهي اغتيال الخميني نفسه.
كشف ضابط الاستخبارات العراقي سالم الجميلي عن كثير من أسرار المحطات الخطرة والمثيرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط بداية من منتصف ستينيات القرن الماضي عندما استضاف العراق الخميني وانتهاء بالغزو الأميركي لبغداد في 2003، وكان الجميلي وقتها مديراً لشعبة أميركا في الجهاز، حيث سارع إلى إتلاف ما أمكنه من الأرشيف، لكن القوات الأميركية لم تتأخر في اعتقاله وأمضى في سجونها تسعة أشهر غادر بعدها إلى عمان ثم ابتعد عن الحياة السياسية.
لكن ها هو الجميلي يعود مجدداً ليروي في حواره مع غسان شربل رئيس تحرير صحيفة "الشرق الأوسط" والمنشور اليوم الأربعاء الـ10 من مايو (أيار) الجاري، أسراراً عدة ويجيب فيه عن أسئلة ظلت معلقة على مدى أعوام طويلة بلا إجابات ومنها مثلاً، هل صحيح أن صدام حسين أنقذ الخميني من اقتراح باغتياله خلال إقامته في النجف لأنه "ضيف" العراق؟ وما هي قصة الاتصالات بين نظام صدام وأسامة بن لادن بعد غزو الكويت؟ وهل صحيح أن الاستخبارات فوجئت بإعدام المرجع محمد باقر الصدر بعدما اقترحت على الرئيس حمايته؟
هذه الأسئلة وغيرها ننقل إجاباتها على لسان الجميلي في السطور التالية.
الخميني في العراق
في منتصف الستينيات جاء الخميني إلى العراق ولم يكن ناشطاً في البدايات. بعد ثورة يوليو (تموز) 1968 اتخذ العراق موقفاً معارضاً لقرار الشاه ضم الجزر الإماراتية الثلاث. حرك محمد رضا بهلوي قواته في اتجاه الحدود العراقية بوصفها ورقة ضغط وتهديد. حض الخميني الجنود الإيرانيين على التمرد وعدم الانصياع لأوامر الشاه، معتبراً أنه لا يجوز لمسلم أن يقاتل مسلماً. دعم الشاه المعارضة الكردية في العراق وبدأنا دعم المعارضة الإيرانية ضده. سمحنا للخميني بأن يأتي بجماعته وأصدرنا لهم جوازات وسمحنا لهم بإذاعة وبدأ نشاطه السياسي.
بعد اتفاق الجزائر في 1975 أوقفت إيران دعمها فانهارت الحركة الكردية، وكان من ضمن شروط الاتفاق أن يتوقف نشاط المعارضة الإيرانية على أرض العراق، وتم لفت نظر الخميني إلى ضرورة مراعاة الوضع الجديد واحترام شروط العلاقة مع إيران. لم يقبل، ثم راح يتمادى، وأبلغناه بأن عليه مغادرة العراق إذا كان مصراً على مواصلة نشاطه، وحاول التوجه إلى الكويت وبقي عالقاً في منطقة الحدود ثم وافقت السلطة العراقية على عودته للنجف.
حصل ارتباك في موضوع الخميني وفي العلاقة مع إيران بعد أن تأكدت صعوبة تجاوبه أو السيطرة عليه. في هذا المناخ ناقشت قيادة الجهاز المشكلة وما يمكن أن يسببه إصرار الخميني على مواصلة نشاطه. في أحد الاجتماعات اقترح أحد الضباط اغتيال الخميني وتحميل المرجع الشيعي أبو القاسم الخوئي مسؤولية اغتياله، بالتالي يتم التخلص عملياً من الاثنين. لم يجرؤ الجهاز على عرض الشق الثاني من الاقتراح على الرئيس واكتفى بعرض الشق الأول، أي اغتيال الخميني. لم يوافق الرئيس على الاغتيال ولا على تسليمه إلى استخبارات الشاه، وقال "ألا تعلم الاستخبارات أنه ضيف العراق؟".
في هذه الأجواء غادر الخميني إلى باريس. أراد صدام استطلاع نوايا الخميني للمرحلة اللاحقة، خصوصاً بعدما بدا أن نظام الشاه يترنح. كلف الرئيس علي باوه الذي كان على علاقة مع الخميني بالتوجه إلى باريس وهذا ما حصل. سيترك ذلك اللقاء آثاره على المرحلة التالية. سأل باوه الخميني عما يمكن أن يفعله في حال سقوط الشاه وعودته لطهران، وجاء رده قاطعاً أن الأولوية بعد نجاح "الثورة الإسلامية" ستكون إسقاط نظام "البعث" في العراق. استمع صدام إلى تقرير مبعوثه فاستنتج أن المواجهة حتمية في حال عودة الخميني لطهران وهي تبدو شديدة الاحتمال.
ضربات موجعة
حين انتصرت "الثورة الإسلامية" في إيران كانت تضم خليطاً من القوى ومؤسساتها هشة. انقلب الخميني على "مجاهدي خلق" وأعدم قياداتهم على رغم الدور الذي لعبوه في إسقاط الشاه، وبدأت الحرب وكان علينا أن نستجمع عناصر القوة الضرورية، وصارت المواجهة مفتوحة وبلا ضوابط.
قدم جهاز الاستخبارات كل سبل الدعم الإعلامي والفني والمادي والعسكري لـ"الديمقراطي الكردستاني" و"مجاهدي خلق" وكان الهدف الأول مجلس الشورى الإيراني وبإشراف مباشر من برزان التكريتي. وضعت خطة لتفخيخ مقر الاجتماع ونفذت في الـ 28 من يونيو (حزيران) 1981، فقتل رئيس السلطة القضائية آية الله حسين بهشتي و72 شخصية قيادية بينهم وزراء ونواب ومسؤولون في قطاعات مختلفة. كانت الضربة قوية وشديدة وبدت الاستخبارات العراقية قادرة على الوصول إلى أماكن كان يفترض أن تكون حصينة.
المرشد الإيراني الحالي علي خامنئي استهدف هو الآخر، وأثناء إلقائه خطبة انفجرت عبوة مزروعة في جهاز تسجيل وتسببت في شلل في يده اليمنى، وكان مقرراً أن يحضر الخميني ذلك الاجتماع لكنه تأخر ونجا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان برزان التكريتي يتطلع إلى تحقيق الضربة الكبرى، وهي اغتيال الخميني نفسه. في 1981 ظهر احتمال تنفيذ عملية من هذا النوع، ولم يكن الوصول إلى الخميني سهلاً، لكن وجود رجل دين على مقربة منه وربما يكن تعاطفاً لـ"مجاهدي خلق" سهل المهمة الصعبة. تولى فريق من الجهاز إعداد عبوة صغيرة نقلت وزرعت في وسادة الخميني التي كانت من الوبر، وانفجرت العبوة في توقيت خاطئ كان فيه الخميني خارج المنزل، لكن مجرد الوصول إلى غرفة نومه أثار حالاً من الرعب في صفوف قيادات الثورة الإسلامية. كان الجهاز يخوض معركة حياة أو موت وكانت كل الضربات مباحة.
استمرت الضربات وفي الـ 30 من أغسطس (آب) أدى تفجير إلى مقتل رئيس الجمهورية محمد علي رجائي بعد أقل من شهر من توليه منصبه وقتل معه رئيس الوزراء محمد جواد باهنر إثر انفجار قنبلة زرعت في مكتب الأخير أثناء اجتماع مع مجلس الدفاع الأعلى.
محاولة الخميني نقل الثورة إلى الداخل العراقي كانت مصدر قلق كبير للنظام العراقي وأجهزته ودفع المرجع الشيعي السيد محمد باقر الصدر حياته في هذا المناخ.
في أبريل (نيسان) 1980 أرسل الصدر أحد رجال الدين المقربين منه للقاء مدير الاستخبارات برزان التكريتي الذي طلب من أحد المديرين العامين استقبال الرجل. كان فحوى الرسالة التي حملها الشيخ أن السيد الصدر يبلغكم السلام ويقول إنه سيترك العمل السياسي والحزبي ويتفرغ للمعرفة والكتابة ويطلب المحافظة على حياته.
أرسل برزان كتاباً إلى رئاسة الجمهورية ضمنه فحوى رسالة الصدر وتصور جهاز الاستخبارات للتعامل مع قضيته وجاء في الكتاب أن الصدر يختلف عن الحوزات التقليدية ويتقاطع معها وله منحى خاص في التعاطي مع المعرفة والثقافة، ولا ينكر الصدر انتماءه القومي بل يعتز به، ولا يؤمن بولاية الفقيه إنما يؤمن بالشورى في إدارة الدولة، وإذا اغتيل أو أعدم، فإن أفكاره ستتسع وستصبح كما هي أفكار سيد قطب التي أعيد طبعها 45 مرة بين 1966 وصولاً إلى 1980.
يقترح الجهاز رعاية الصدر وتأمين حياته ونقل مقر إقامته من النجف إلى بغداد والسيطرة على نشاطاته واتصالاته والسماح لمريديه وأتباعه بزيارته.
اطلع الرئيس صدام على الكتاب وأمر بإحالته إلى جهاز الأمن العام للوقوف على رأيه. فوجئ جهاز الاستخبارات باستدعاء الصدر من قبل مديرية الأمن العام وإعدامه في اليوم التالي. يبدو أن الرئيس تجاهل رأي الاستخبارات ووافق على رأي مديرية الأمن العام الذي اعتبر أن لا جدوى من رعاية الصدر وشدد على ضرورة التخلص منه، وهكذا تم إعدامه في التاسع من أبريل 1980.
بن لادن
خرج العراق "منتصراً" ومثخناً من حربه الطويلة مع إيران وابتهج صدام حسين لأنه عاش حتى شاهد الإمام الخميني "يتجرع سم وقف النار" ومن دون أن يحقق حلمه بإسقاط نظام البعث. وساد انطباع بأن النظام العراقي سينهمك بتضميد جروحه ومعالجة ديونه الهائلة. لم يتوقع أحد أن يقدم صدام على عمل انتحاري بحجم غزو الكويت.
كنت في ذلك الوقت مسؤولاً عن شعبة سوريا في الجهاز وكانت لدينا علاقات مع "الإخوان المسلمين" في سوريا جناح عدنان عقلة، وأرسل عبدالملك شقيق عدنان أن لدى "الإخوان" علاقات مع بن لادن وأنهم على استعداد لإيصال رسالتنا إليه، وحملته رسالة شفوية فحواها أن لدينا الآن هدفاً مشتركاً، إخراج القوات الأميركية من الجزيرة العربية والمنطقة وأننا يمكن أن نتعاون في هذا المضمار. أعطيناه نفقات السفر وكانت في حدود 10 آلاف دولار.
عاد الرجل بعد شهر أو أكثر قليلاً وأبلغنا بأن موقف بن لادن كان متشدداً جداً وأنه كرر مرات عدة أن النظام في العراق كافر وهو الذي تسبب في مجيء القوات الأميركية وأن لا مجال لأي لقاء مع ممثليه أو التعاون معه. طبعاً نحن نتحدث في الأعوام الأولى من التسعينيات، ولم تكن هناك عمليات لـ"القاعدة" من قماشة هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول)، وسمعت يومها من مدير في الجهاز هو فاروق حجازي أن رداً مشابهاً من بن لادن جاء عبر قناة أخرى.
فهمت لاحقاً أن حجازي زار الخرطوم والتقى بن لادن بعد وساطة قام بها سياسي ورجل دين سوداني (الدكتور حسن الترابي) الذي تردد أيضاً أنه شارك في اللقاء. أطلع حجازي الرئيس على ما جرى ولم يحدث أي تعاون مع "القاعدة". وهذا ما قصده جورج بوش الابن حين قال إن الرئيس أرسل مبعوثاً إلى بن لادن. أعتقد بأنه كان يعرف أنه لم يحصل أي تعاون، لكنه امتنع عن ذكر ذلك لتبرير الغزو.
قصة عبدالرحمن ياسين
ملف شائك آخر سمم العلاقات الأميركية - العراقية في التسعينيات كان ملف عبدالرحمن ياسين، وهو أميركي من أصل عراقي كان سجيناً في العراق واختفى غداة الغزو الأميركي ولم يعثر له لاحقاً على أي أثر.
تعرض مركز التجارة العالمي بنيويورك في 1993 لعملية تفجير نفذتها مجموعة من "القاعدة" كان بين أفرادها شقيقان عراقيان. اعتقلت السلطات الأميركية الشقيقين، لكنها اضطرت إلى إطلاق أحدهما، وهو عبدالرحمن ياسين بسبب نقص الأدلة ولم تكن القوانين يومها بصرامة اليوم. غادر عبدالرحمن أميركا إلى الأردن وانتقل منه إلى العراق.
بعد فترة ثبت للأجهزة الأميركية أنه شارك في صناعة القنبلة الضخمة التي وضعت في شاحنة واستخدمت في التفجير. قال الأميركيون إنه في العراق وبعلم الاستخبارات في هذا البلد. كنا نعرف أنه في العراق، لكن لا نعرف مكانه. بحثنا عنه على مدى ستة أشهر، فعثرنا عليه يعمل في ورشة لإصلاح السيارات في منطقة الشياع الشعبية ببغداد.
وضعنا عبدالرحمن في السجن وأبلغنا الرئيس الذي تخوف من أن يكون مرسلاً لتوريط العراق في ملف الإرهاب. وهكذا اتخذ القرار بإبلاغ الأميركيين عن وجوده. طلب من مدير محطة الاستخبارات في نيويورك الاتصال بالاستخبارات الأميركية وإبلاغها بأننا نحتجزه ولدينا معلومات كاملة عن تفجير مركز التجارة العالمي. خلال التحقيق معه اعترف عبدالرحمن وروى القصة وقال إنه شارك في التنفيذ رداً على ما تعرض له العراق في 1991 على أيدي الجيش الأميركي. الرجل أميركي والجريمة حصلت على الأرض الأميركية.
طلب الأميركيون إرسال المعلومات لهم مكتوبة، وكان رد الرئيس واضحاً، "نحن لا نعمل في كتابة التقارير لهم. إذا أرادوا أن نتفاهم نتحدث مباشرة في الموضوع"، وهكذا بقي الموضوع معلقاً من 1993 إلى 2001، كنا نحتفظ بالرجل في مبنى صغير تحت الحراسة بالكاظمية وكان في طابق آخر طيار إيراني أسقطت طائرته فوق العراق قبل اندلاع الحرب مع إيران.
بعد هجمات الـ 11 من سبتمبر 2001 أعاد الأميركيون طرح الموضوع ومن زاوية أن العراق يرعى الإرهاب، وقررنا في الجهاز معاودة البحث في تسليمه. أدخلنا الاستخبارات المصرية على الخط ووافق الأميركيون على إرسال طائرة أميركية لأخذه، لكن الرئيس لم يوافق على مجيء طائرة أميركية، واقترحنا أن يأتي الأميركيون في طائرة مصرية، فلم يمانع الرئيس، وظهرت عقدة جديدة، ورفض الأميركيون توقيع محضر بتسلمه وتخوف الرئيس من أن يزعموا لاحقاً أنهم أخذوه بطريقة أخرى وأن يلصقوا تهماً بالعراق. هكذا بقي الرجل محتجزاً، وعندما حصل الغزو نقل إلى سجن في الفلوجة واختفى من هناك ومنذ ذلك التاريخ لم يعرف شيء عن مصيره.