Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الذكاء الاصطناعي بين هيمنة الاقتصاد وطموحات الاستعمار

تتواصل أميركا اللاتينية مع المجتمع الأفريقي لإلغاء مركزية الغرب حول التكنولوجيا الرقمية 

الدول الكبرى تسعى لفرض الاستعمار الرقمي في الجنوب العالمي  (بابيولار ميكانيك)

ملخص

اتسم الاستعمار القديم بالاستيلاء العنيف على الأرض ونهب الموارد من أجل الإثراء الاقتصادي للمحتل وهو ما تكرره صناعة الذكاء الاصطناعي

كان تتويج ملك بريطانيا، تشارلز الثالث، حدثاً تاريخياً هو الأكبر منذ مراسم تتويج والدته الملكة الراحلة إليزابيث عام 1953، بدا المشهد مختلطاً على البعض بين الفانتازيا والجدية، فثمة مراسم تتويج تعود لألف عام مضى اعتاد الناس مشاهدتها في الأفلام السينمائية فقط، وبالنسبة إلى آخرين في أنحاء مختلفة من العالم، حيث تتناثر المستعمرات القديمة للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، كان المشهد تذكيراً بماض دموي استعماري، لكن على رغم أن ملك بريطانيا لايزال رئيساً لأربع عشرة دولة أخرى، إلا أن الأمر لا يتعدى كونه رمزياً مع زوال ذلك الاستعمار العسكري الذي شهده تاريخ العالم لقرون طويلة، وحتى منتصف القرن العشرين عندما تحررت عديد من بلدان آسيا وأفريقيا، وبينما يعتقد كثيرون أن الاستعمار شيء من الماضي، فإنه تطور في العصر الحديث مع أفول نجم الإمبراطوريات الأوروبية وصعود قوى جديدة تهيمن بأساليب وأدوات ناعمة.

في تلك الحقبة التي بدأت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان الحديث ينصب على الاستعمار والإمبريالية عبر الهيمنة الاقتصادية أو الاستعمار الثقافي الناعم عبر اللغة والموسيقي والملابس والسينما الذي تزعمته الولايات المتحدة في ما عرف بالاستعمار الحديث "neocolonialism"، كما كانت القروض والمنح المشروطة أداة أخرى مهمة، وفي عصر التطور التكنولوجي فائق السرعة، هناك ما يمكن أن نطلق عليه "استعمار ما بعد الجديد" بدأت تلوح بوادره قبل سنوات قليلة عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، فيما يبدو أننا نعيش عصراً مختلطاً من الاستعمار الحديث واستعمار ما بعد الحديث.

التفاوض تحت تهديد السلاح

على مدار أكثر من سبعة عقود، كان صندوق النقد الدولي هدفاً لاتهامات واسعة بالاستعمار الجديد، وتقول دورية "هارفارد بوليتيكال ريفيو" الأميركية إنه في حين تضمنت الممارسات الاستعمارية التقليدية إخضاع البلدان من خلال الهيمنة العسكرية والسياسية، فإن الدول الاستعمارية الجديدة تستفيد من قروض مشروطة وهيمنة ثقافية وتفوق اقتصادي للتأثير في السياسة الخارجية لدولة أخرى، بشكل عام، تحت ذريعة المساعدة الاقتصادية، ومن ثم، فإن الدول الاستعمارية الجديدة تحتفظ بالسيطرة على البلدان الأخرى من خلال الاعتماد المالي المستمر أو التأثير السياسي الكبير.

فمن خلال صندوق النقد الدولي، تمتلك الدول الغنية كثيراً من هذه القوة، وتمتلك الولايات المتحدة وحدها عدداً كبيراً من الأصوات بحيث تتمتع بحق النقض الفعال ضد أي من قرارات الصندوق، التي يتضمن كثير منها تدخلات في البلدان المنكوبة اقتصادياً.

يضم صندوق النقد الدولي 190 دولة عضواً، وتعتمد العضوية على وفاء كل دولة بحصتها النقدية، وهو مبلغ يحدده حجم دور كل دولة في النظام الاقتصادي الدولي، في المقابل، تعتمد قوة التصويت داخل صندوق النقد الدولي على حجم الحصة مما يترتب عليه أن من هم على رأس عملية صنع القرار في صندوق النقد الدولي هم الأكثر هيمنة اقتصادياً، وعلى رغم أن البلدان النامية تشكل جزءاً كبيراً من سكان العالم، إلا أن مصالحها الاقتصادية غالباً ما تكون ناقصة التمثيل.

 

 

يهدف صندوق النقد الدولي لدعم الدول إلى تحقيق النمو الاقتصادي، ويقدم القروض لتحقيق تلك الغاية، ولردع الحكومات عن تبديد رأس المال هذا، يجعل صندوق النقد الدولي جميع قروضه تقريباً مشروطة، أي إن كل قرض يتوقف على تطبيق الشروط المحددة في برامج التكيف الهيكلي لصندوق النقد الدولي، إذ تشمل الشروط الشائعة تدابير التقشف مثل الزيادات الضريبية المقترنة بتخفيضات الميزانية في قطاعات مثل البنية التحتية والبحوث والتعليم، وسياسات التحرير المالي مثل الحد من القيود التجارية وخصخصة الشركات التي تديرها الدولة، وكذلك تدابير لزيادة مساءلة الحكومة وشفافيتها والبرامج التي تزيد من صادرات الدولة ومستويات التنقيب عن الموارد، تلك العملية التي وصفتها الشبكة الأوروبية للديون والتنمية في 2014، بالتفاوض مع البلدان المنكوبة اقتصادياً "تحت تهديد السلاح".

الإمبريالية الجديدة

أخيراً، تزايدت الاتهامات للصين باعتبار أن مشروعها "مبادرة الحزام والطريق"، التي تعرف أحياناً بطريق الحرير، هو نوع من "الإمبريالية الجديدة" إذ ينظر مراقبون إلى تلك القروض الكبيرة التي تدين بها بعض البلدان للصين لتمويل تحديث البنية التحتية في إطار مبادرة الحزام والطريق، على أنها كأس مسمومة محتملة.

ينطوي المشروع الصيني الضخم على إنفاق تريليون دولار في مساعدات البناء والاستثمارات في أكثر من 100 دولة عبر آسيا الوسطى وأفريقيا وأوروبا، ويظهر برنامج تعقب الحزام والطريق التابع لـمجلس العلاقات الخارجية الأميركي، أن إجمالي الديون المستحقة للصين ارتفع منذ عام 2013، متجاوزاً 20 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في بعض البلدان، فبين عام 2014 حتى عام 2017، في ذروة الإقراض في الصين، بلغ مجموع القروض أكثر من 120 مليار دولار للمشاريع المدعومة التي تتراوح من الطرق السريعة إلى السكك الحديدية ومحطات الطاقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بسبب عبء الديون، اضطرت سيرلانكا نقل ملكية مشروع ميناء هامبانتونا إلى الصين لتزيح عبء مليار دولار أميركي، لكن في الوقت نفسه يمثل الميناء موطئ قدم للصين في ممر مائي إستراتيجي يقع بالقرب من الهند، التي تمثل منافساً لها، لذا فإن سيطرة بكين على ميناء هامبانتونا أثار النقاش في شأن سياسة الديون الصينية التي تستهدف من خلالها إثقال البلاد النامية بالديون، ومن ثم إيقاعها في فخ عدم القدرة على السداد لتحقيق أهداف استراتيجية أوسع.

استعمار ما بعد الحديث

مع بزوغ فجر عصر جديد للتكنولوجيا فائقة التطور متمثلة في تقنيات ذكاء تتجاوز قدرات العقل البشري، بدت مرحلة جديدة أكثر عمقاً ومواربة من الاستعمار ما بعد الحديث، فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، جادل عدد متزايد من العلماء بأن تأثير الذكاء الاصطناعي يكرر أنماط التاريخ الاستعماري، ويقولون إن الاستعمار الأوروبي اتسم بالاستيلاء العنيف على الأرض ونهب الموارد واستغلال الناس من أجل الإثراء الاقتصادي للبلد المحتل، وهو ما تكرره صناعة الذكاء الاصطناعي اليوم مع استخدام وسائل أخرى أكثر خبثاً لإثراء الأثرياء والأقوياء على حساب الفقراء.

يقول زميل مختبر المجتمع المدني الرقمي في مركز ستانفورد بكاليفورنيا، سابيلو ملامبي، إن هيمنة الشركات الخارجية تتفاقم بسبب صعود الذكاء الاصطناعي، الذي يأخذ السلطة والموارد، التي تتمثل في بيانات من داخل تلك المجتمعات المهمشة ويحقق أرباحاً لأولئك الأثرياء بالفعل، علاوة على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي الذي طورته الشركات الأجنبية الكبيرة بشكل حصري تقريباً، أن يحتوي على وجهات نظر عالمية ومُثُل وحدود أيديولوجية وقرارات آلية لا تعكس ثقافة غير غربية في التفكير والتواجد في العالم، وتفرض طريقة الوجود هذه من خلال انتشار التكنولوجيا عندما يصعب الحصول على بدائل أخرى.

ونبهت دراسة نشرها معهد العلاقات بين الأعراق في المملكة المتحدة، بعنوان "الاستعمار الرقمي، إمبراطورية الولايات المتحدة والإمبريالية الجديدة في جنوب الكرة الأرضية" إلى إعادة اختراع الولايات المتحدة للاستعمار في الجنوب العالمي من خلال هيمنة التكنولوجيا الرقمية، باستخدام جنوب أفريقيا كدراسة حالة، إذ قال مؤلفو الدراسة إن الشركات الأميركية متعددة الجنسيات تمارس سيطرة إمبراطورية على مستوى هندسة النظام البيئي الرقمي، اتصال البرامج والأجهزة والشبكات، مما يؤدي بعد ذلك إلى ظهور أشكال ذات صلة من الهيمنة، فمن خلال التحكم في النظام البيئي الرقمي، تتحكم شركات التكنولوجيا الكبيرة في الخبرات الرقمية، مما يمنحها سلطة مباشرة على المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية للحياة، بعبارة أخرى "السيطرة الإمبريالية" الرقمية.

وتضيف أن محور رأسمالية المراقبة أو ما يعرف بـ "البيانات الضخمة"، ينتهك حرمة الخصوصية ويركز القوة الاقتصادية في أيدي الشركات الأميركية – نظام رأسمالية مراقبة عالمية.

 

 

واحدة من سمات رأسمالية المراقبة أن تشارك وكالات استخبارات الشمال مع شركاتها الخاصة لإجراء مراقبة جماعية وموجهة في جنوب الكرة الأرضية، مما يكثف مراقبة الدولة الإمبريالية، إذ أقنعت النخب الأميركية الناس أن المجتمع يجب أن يتقدم وفقا لمفاهيم الطبقة الحاكمة للعالم الرقمي، ووضع الأساس لهيمنة التكنولوجيا.

وتقول مجلة "أم أي تي تيكنولوجي ريفيو" التابعة لمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة، إن صناعة الذكاء الاصطناعي لا تسعى إلى الاستيلاء على الأرض كما فعل غزاة الكاريبي وأميركا اللاتينية، لكن الرغبة نفسها في الربح تدفعها إلى توسيع نطاق انتشارها عبر مراكز ثقل تسيطر من خلالها على العالم، كلما زاد عدد المستخدمين الذين يمكن لشركة ما اكتسابهم لمنتجاتها، زاد عدد الموضوعات التي يمكن أن تمتلكها لخوارزمياتها، ومزيد من الموارد (البيانات) التي يمكن أن تحصدها من أنشطتها وتحركاتها.

عملت المجلة العلمية الأميركية على سلسلة مقالات تبحث في أوجه التشابه بين تطوير الذكاء الاصطناعي والماضي الاستعماري من خلال بحث المجتمعات التي تغيرت بعمق بفعل التكنولوجيا، تناول الجزء الأول جنوب أفريقيا حيث تعمل أدوات المراقبة بالذكاء الاصطناعي، التي تركز على سلوكيات الناس ووجوههم، على إعادة ترسيخ التسلسل الهرمي العرقي وتغذية الفصل العنصري الرقمي، وتناول الجزء الثاني فنزويلا حيث صنفت بيانات الذكاء الاصطناعي شركات ذات عمالة رخيصة ويائسة وسط أزمة اقتصادية مدمرة، مما خلق نموذجاً جديداً لاستغلال العمالة.

حشد لاتيني أفريقي

في مواجهة هذا التحدي المتصاعد، يدافع العلماء عن نظام بيئي مختلف يعمل على لامركزية التكنولوجيا أو تحقيق العدالة الرقمية من طريق وضع التحكم مباشرة في أيدي الناس لمواجهة التقدم السريع للإمبراطورية الرقمية.

أخيراً، كتب مجموعة من العلماء بيان يهدف لوقف الهيمنة الغربية على صناعة التكنولوجيا، من خلال توفير مناخ عادل يمكن لدول الجنوب من خلاله تطوير أدواتها، ونشأت حركة لإنهاء استعمار الذكاء الاصطناعي عبر الجنوب العالمي، على رغم أن الحركة تتخذ أشكالاً مختلفة في ثقافات مختلفة، إلا أن ملامبي وعلماء آخرون صاغوا "خريطة لذكاء اصطناعي منزوع الاستعمار"، وهو بيان يهدف إلى تقديم مجموعة واسعة من الأفكار حول دعم الفئات المهمشة تاريخياً لـ "تقرير وبناء مستقبل اجتماعي وتقني خاص بهم".

يتواصل مجتمع أميركا اللاتينية مع المجتمع الأفريقي لتشكيل شراكات مع الهدف المشترك المتمثل في إلغاء مركزية الغرب حول ماهية التكنولوجيا التي ينبغي تطويرها والغرض منها.

في أميركا اللاتينية، تعد تييرا كومون مركزاً رئيساً للاجتماعات حول إنهاء استعمار البيانات بهدف جمع الموارد وتشجيع النشطاء والمفكرين للتأثير في أفريقيا، هناك مجموعة تسمى Masakhane وضعت هدفاً للقضاء على الاستعمار ليس فقط في مجال الذكاء الاصطناعي، ولكن العلم بشكل عام.

تلتقي هذه المجموعة وتقوم بأبحاث الذكاء الاصطناعي الخاصة بهم لإنشاء أنظمة جديدة من قبل الأفارقة للأفارقة على سبيل المثال، يعملون على تطوير قدرات معالجة اللغة الطبيعية في عديد من لغات شرق أفريقيا وينصب تركيزهم على تشجيع السكان المحليين ليكونوا هم من يصنعون منتجاتهم النهائية، بدلاً من انتظار شركات مثل "غوغل" أو "مايكروسوفت" لإنشاء أنظمة ذكاء اصطناعي لهم.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير