ملخص
سعت حركة "الجهاد" إلى تحقيق مكاسب كبرى من المواجهة الراهنة وإعادة تدوير دورها في النطاقين الداخلي والإقليمي.
توقفت المواجهة بين إسرائيل وحركة "الجهاد" بعد خمسة أيام من الضربات المتبادلة، ونجح الوسيط المصري المدعوم أميركياً وأممياً في التوصل إلى وقف إطلاق النار وبناء اتفاق جديد بين الجانبين، وقد لبى الاتفاق، ولو مبدئياً، بعض المتطلبات من قبل الطرفين، بخاصة مع وجود الجانب المصري مراقباً ومتابعاً لما سيجري خلال الفترة المقبلة في إشارة مهمة إلى أن القاهرة مستمرة في أدائها وسيطاً مباشراً بين الجانبين.
أهداف منضبطة
سعت "الجهاد" إلى تحقيق مكاسب كبرى من المواجهة الراهنة وإعادة تدوير دور الحركة في النطاقين الداخلي والإقليمي، فداخلياً سعت إلى امتلاك صدارة المشهدين السياسي والأمني باعتبارها طرفاً رئيساً ووحيداً في المواجهة مع إسرائيل، بخاصة أن قياداتها للواجهة الأمنية والعسكرية في الفترة الراهنة ستؤدي إلى تأكيد دورها السياسي اللاحق في المشهد الفلسطيني، وأنها باتت منافساً قوياً لـ "حماس"، بخاصة أنها لم تلتزم بأية استحقاقات انتخابية ولم تشارك في "نظام أوسلو"، ولا علاقة لها بأية اتفاقات على عكس "حماس" التي انضوت سابقاً في المشهد الفلسطيني ودخلت الانتخابات التشريعية التي انقلبت عليها بعد ذلك.
أما حركة "الجهاد" فرفضت الانخراط في المشهد السياسي بأكمله، ومن ثم فإن مشاركتها في المقاومة إلى جوار "حماس" كان انطلاقاً من معطيات راسخة، أما اليوم فالأمر تغير وتبدل المشهد لاعتبارات متعلقة بتوجهات الحركة ورغبتها في تصدر المشهد، بخاصة أن حركة "حماس" المسؤولة عن ضبط الأمن في القطاع تدرك ذلك جيداً.
ومع عدم مشاركة "حماس" في هذه المواجهات، بما فيها المواجهة الأخيرة، فإن الإشكال المطروح حول طبيعة العلاقات الراهنة والمنتظرة مع الحركة سيكون محل اهتمام، بخاصة أن التفاهمات الأمنية الجارية عبر الوسيط المصري وقبول إسرائيل بنصوصها ولو تكتيكياً سيوقع عبء التعامل معها على "حماس" والوسيط المصري بنص ما جرى الاتفاق في شأنه، وليس حركة "الجهاد"، مما يعني أن الحركة عندما تتنصل من أية التزامات فستعمل على هذا الأمر، وهو محل تحفظ إسرائيلي بضرورة إشراك حركة "حماس" التي لم تدخل المواجهة في أية تفاهمات أمنية يتم الاتفاق عليها قبل انتهاء المواجهة الراهنة.
لهذا فإن حركة "الجهاد" تكتسب من الآن فصاعداً حضوراً في المشهد العام الفلسطيني من دون أن تتطلع إلى دور رئيس، سواء تجاه السلطة أو الداخل الفلسطيني، لكنها تبني مقاربة حقيقية لتصدر المشهد الفلسطيني العام إلى حين اتضاح الرؤية، بخاصة أن قيادات المكتب السياسي للحركة لا ترغب في تولي مواقع أو إجراء انتخابات تشريعية أو رئاسية، وهو ما يؤكد أن فكرة المقاومة واستمرارها ستبقى بالفعل.
ولن تسلم حركة "الجهاد" بتقديم تنازلات حقيقية في ظل مسعاها إلى تطوير منظومة تسليحها وتطويرها، وهو ما يتم بخبرات تركية وإيرانية وعناصر محلية من الجناح العسكري الذي أخذ خبرات متقدمة طوال السنوات الأخيرة، وذلك بصرف النظر عما جرى في المواجهة الأخيرة التي ارتبطت بعد انتهاء وقف إطلاق النار باغتيال قيادات ميدانية وازنة دفعة واحدة، مما يعد مكسباً إسرائيلياً كبيراً، وكذلك ضرب مقار ومنشآت ومخازن لحركة "الجهاد"، ومراجعة أداء منظومات التسليح مثل القبة الحديدية ومقلاع داوود وليزر والبناء الحمراء، مع تكريس سياسة فصل "حماس" عن "الجهاد" ورصد أداء المنظمات المنفلتة الأخرى، وحذف أسماء بعض القيادات الميدانية بعد تصفيتها وإحلالها بأسماء أخرى صاعدة، وتقييم منظومة الإعلام والاتصال لحركة "الجهاد" وارتباطاتها الإقليمية وبخاصة مع إيران، وتحليل مدى وهدف وصناعة صواريخ "الجهاد" من آخر مواجهة في القطاع وتحليل مكونات كل صاروخ.
لكن يبقى السؤال في "شاباك" قائماً، لماذا لم تضرب "الجهاد" منشآت عسكرية؟ ولماذا لم تضرب مفاعلات نووية؟ ولماذا لم تستهدف قيادات عسكرية ولو وسطى في الجيش؟ ولماذا لم تأسر جنوداً من الجيش الإسرائيلي؟ ولماذا لم تعطل مطارات وموانئ إسرائيلية؟ وغيرها من التساؤلات التي ستكون محل تناول في إسرائيل خلال الوقت الراهن وبعد انتهاء المواجهات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تؤكد الحركة إقليمياً أنها سيدة قرارها، وأنها على رغم ارتباطها بإيران فإنها دائماً ما تعلن أن المرجعية الرئيسة للداخل الفلسطيني بالمشروع الوطني، فهي تريد أن تؤكد حرية قرارها وأنها تتماهى مع مصالحها الرئيسة، مع مراعاة منظومة العلاقات مع إيران وغيرها دفاعاً عن مصالح الشعب الفلسطيني، وستقبل حركة "الجهاد" في إطار ما يجري من مواجهات راهنة بالتوصل إلى تفاهمات أمنية عامة مثلما جرى خلال الفترات السابقة مع توقف سياسة الاغتيالات الميدانية، والحصول على ضمانات حقيقية بعدم تكرار ما يجري، وبناء استحقاقات مرحلية وتدريجية، مما يؤكد رغبة حركة "الجهاد" في بناء إجراءات ثقة من خلال الوسيط المصري القادر على الضغط على إسرائيل بالفعل وإرغامه على القبول بهذا الأمر، وكذلك الحصول على مزايا محددة وتسهيلات للقطاع مثلما كان يجري في المواجهات السابقة التي كانت تطلبها "حماس"، وهي أشبه بالتسهيلات العامة التي تركز على الخدمات للمواطن في القطاع، وتناول ملف الأسرى في السجون الإسرائيلية وفق ضوابط ومعايير محددة بناء على الاتفاقات الخاصة في هذا الشأن، والتي تتنصل إسرائيل من بنودها في التعامل اليومي، إذ إن وفاة خضر عدنان كانت سبباً رئيساً في المواجهة الأخيرة.
والمعنى أن حركة "الجهاد" تضع في جل اهتمامها الرغبة في حسم بعض الملفات محل التجاذب الدائم مع الحكومة الإسرائيلية، وتفويت الفرصة على وزراء الحكومة في الانفراد بقيادات الحركة وتصفيتهم دورياً، سواء في هذه المواجهة أو خارجها، بخاصة أن هناك قناعات حقيقية لدى قادة الحركة بأن التباين في المواقف مع "حماس" سيؤدي إلى مزيد من التبعات.
بالتالي الإشكالات في الفترة المقبلة، وفي ظل الرهان بأن تكريس مشهد الانقسام لا يريد لأي من الطرفين التعليق عليه، مع تأكيد أن التنسيق جار مع كل الفصائل وأن بعضها شارك بفعالية في إدارة مشهد المواجهة الراهن، بل وجرت تصفية بعض عناصره (كتائب أبو علي مصطفى).
وستركز حركة "الجهاد" على الأولويات الداخلية ورسم قواعد اشتباك جديدة في إطار أية مواجهات أخرى، وهو ما تضعه إسرائيل في تركيزها الرئيس تخوفاً من قيادة حركة "الجهاد" المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وتحول "حماس" إلى حزب سياسي في إطار الضغوط التي تمارس عليها بإعادة ترتيب أولوياتها وبناء خريطة سياسية في التعامل مع إسرائيل، وهو ما جرى بالفعل في إعادة "حماس" تأكيد وثيقة المبادئ تجاوزاً للميثاق الشهير للحركة، مما يؤكد أن الحركة تسعى إلى تدوير دورها السياسي والعمل على الحصول على شرعية الحكم في ظل تجمد المشهد السياسي مع رام الله، وتأجيل إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية إلى أجل غير مسمى.
خيارات مطروحة
وفي مقابل ما يجري من مواجهة إسرائيل حركة "الجهاد" فإن من الواضح أن إسرائيل عملت على اتجاه تحقيق أهداف رئيسة عدة على رأسها تجفيف منابع قوة الحركة، بخاصة منظومة الصواريخ المحلية الصنع التي تعمل عليها، مع تأكيد أن ضرب البنية العسكرية لـ "الجهاد" بات مطلباً لأجهزة المعلومات بأكمله، وليس فقط جهاز "شاباك"، وما اغتيال وتصفية العناصر الميدانية إلا جزء من كل مرتبط بما هو مخطط له عبر عملاء إسرائيل في القطاع، مع العمل على إعادة بناء قوت الردع المقابل في مواجهة "حماس" و"الجهاد"، بل التنظيمات الصاعدة، وبعضها شارك في المواجهة الأخيرة ولديه الفرصة لتطوير منظومة سلاحه.
وهنا مكمن الخطورة التي عملت عليها إسرائيل، إذ من الواضح أن قيادات أجهزة المعلومات الإسرائيلية لديها الرغبة والتوجه لتجميد دورهم بالفعل في المشهد السياسي، ونقل رسالة للجمهور الإسرائيلي بقوة الدولة في محيطها، وأنها ستعمل على توفير الأمن للمواطن الإسرائيلي في كل أراضي الدولة وليس فقط في منطقة غلاف القطاع، ومن ثم فإن الهدف الرئيس للحكومة الإسرائيلية هو استمرار العمل حتى بعد انتهاء المواجهات الراهنة وفق متطلبات أمنية إسرائيلية كاملة وتفاهمات سياسة الأمر الواقع، والانتقال من حال التهدئة في مقابل التهدئة إلى الأمن الكامل والمطلق للدولة في مقابل بعض الإجراءات والتدابير التي ستحصل عليها حركة "الجهاد" مع تحميل "حماس" مسؤولية أمن القطاع.
لكن من المستبعد أن تقبل إسرائيل خلال الفترة المقبلة بقوة مراقبة رمزية دولية أو إقليمية، أو إجراء ترتيبات أمنية محددة في هذا التوقيت مع الوعد بالنظر في تفاصيل ملف الأسرى ودرس تخفيف بعض الإجراءات، وهو أمر سيخضع في إطار بناء إجراءات الثقة التي تطلبها الأجهزة الأمنية.
وفي كل الأحوال ومع توقف المواجهة الراهنة فإن إسرائيل ستتمسك بالقوة في التعامل وعدم تأكيد غلق بنك الأهداف الإستراتيجية، بل وعدم القبول بأي تنازلات في تهديد أمن إسرائيل، وهو مصطلح عام لا يمكن وضع ضوابطه أبداً إلا من خلال ترتيبات مرحلية كاملة، مما يشير إلى أن إسرائيل ستمضي في خطها الأمني والعسكري لحسم أية مواجهات مقبلة مع "الجهاد" بالأساس، بعد أن تيقنت أن "حماس" ستلتزم بالخيارات التهادنية في الأقل خلال الوقت الراهن، ولن تقدم على أية مواجهات مستقبلية، وهو أمر محل تشكك على رغم تقييمات جهاز "شاباك" تحديداً في هذا الإطار.
المشهد المحتمل
سترتب إسرائيل عدتها بعد انتهاء المواجهات مع حركة "الجهاد" لمواجهة ممتدة على عكس ما هو شائع، إذ إن الاستثمار في ما يجري عسكرياً في العمل السياسي والمناخ الراهن وبما يعيد توحيد المواقف المنقسمة في الداخل الإسرائيلي، إذ إن التظاهرات الدورية والخلافات المستمرة في شأن التعديلات القضائية وفشل الحوار الوطني على رغم محاولات الرئيس هرتسوغ جمع شمل الأطراف الحزبية.
إن إسرائيل قادرة على الاستمرار في الخيارات العسكرية خلال الفترة المقبلة على رغم قبولها وقف إطلاق النار، وبما يحقق لها أهدافها السياسية والعسكرية تجاه حركة "الجهاد"، وبالتالي فإنها وضعت في أولوياتها وقبل أن تنتهي المواجهة الأخيرة حرث الأرض تحت أقدام "الجهاد" وتكريس الخلافات المكبوتة مع حركة "حماس"، وهو ما يؤكد أن إسرائيل ستعمل وفق حسابات أمنية وإستراتيجية بالأساس، مع إمكان تقديم بعض الإجراءات والتدابير الموقتة، وليست حزمة إجراءات مثلما كان يحدث في مواجهات سابقة.
وفي المجمل فإن إسرائيل ستستمر في تبني خيارات تصعيدية ولن تركن إلى التهدئة الطويلة، كما ستسقط من حساباتها العمل على تهدئة ممتدة، بل ستستمر في اختبار مواقف وتوجهات حركة "الجهاد" ونشاطها العسكري الذي سيظل مهدداً لأمن إسرائيل ويتطلب دورياً الاستمرار في المواجهة بصرف النظر عما جرى الاتفاق في شأنه.