Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

البابليون عالجوا الشرور بالرقى والتعاويذ

هكذا أرسى الساحر "زورستر" أسس السحر التي سارت عليها شعوب العالم القديم

صورة متخيلة لبرج ومعبد بابل (الموسوعة البريطانية)

ملخص

هكذا أرسى الساحر البابلي "زورستر" أسس السحر التي سارت عليها شعوب العالم القديم

في الألفية الثانية قبل الميلاد، وبالقرب من نهر الفرات، قامت تلك المدينة التي سيذكر اسمها كثيراً كلما جاء ذكر الحضارات القديمة... إنها بابل العظيمة أكبر مدينة تنبأ عنها المتنبئون، وشاع في أرجائها السحر الأسود، وشكلت في ما بعد نواة لعاصمة ضمت الأراضي الواقعة جنوب بلاد ما بين النهرين، وجزء من مملكة أشور في شمال البلاد.

في هذه الحلقة الثالثة من السلسلة التي تسعى للبحث في علاقة الشعوب المختلفة بعالم السحر والسحرة، الكهانة والتعويذ، وعالم الماورائيات، نحاول أن نستجلي علاقة بابل العظيمة، كما يتردد ذكرها في التوارة بنوع خاص كثيراً.

هل هذه مهمة يسيرة؟ بالقطع ليس من السهل بالمرة أن نبحث في عمق حضارة لها خمسة جذور، سومرية، أشورية، بابلية، كلدانية وعربية، وبطبيعة الحال ليس من الممكن تحديد العوامل التي رسخت وجود السحر في بابل القديمة، وهل الأمر مرده عبادات الأقدمين، وبحثهم عن آلهة الخير، ومحاولة تجنبهم آلهة الشر، أم أن المسألة لها علاقة باحتكاكهم ببني إسرائيل في زمن السبي البابلي، وذلك حين أسر نبوخذ نصر ملك بابل الشعب العبراني، قبل أن يقوم قورش ملك فارس بإرجاعهم مرة أخرى؟

التساؤلات واسعة وعريضة، ولا يمكننا سبر أغوار قضية السحر البابلي، ما لم نعد سوياً إلى الفكر الروحاني الحاكم في نشأة وتأسيس تلك الحضارة أول الأمر.

بابل من السومريين إلى حمورابي

يختلف المؤرخون حول قدم الحضارة السومرية، وهناك من يرجع نشأة البشرية فيها إلى خمسة آلاف عام قبل الميلاد، الأمر الذي يضعها في سباق دوماً مع الحضارة المصرية القديمة.

في جنوب العراق، كون السومريون العبيديون، مدناً يشار لها بالبنان، منها "أور"، و"نيبور"، و"لارسا"، و"لجاش"، و" كولاب" وغيرها.

وبحسب الرواية القرآنية، وما نقرأه في سورة البقرة (102)، فإن الله تعالى أنزل الملكين هاروت وماروت بمدينة بابل العظيمة، لتعليم الناس السحر ابتلاء من الله، وللتمييز بين السحر والمعجزة، بهدف سام ونبيل، وهو أن يتبين الناس صدق الرسل والأنبياء، وكذب الدجالين والسحرة.

تخبرنا الكتابات التاريخية عن السومريين أنهم كانوا أرباب تلك الصناعة، أي صناعة السحر، وأنها نشأت على يد كاهن يسمى "زورستر"، والذي يعد واضع أسس السحر التي سار عليها من بعده الكنعانيون والمصريون والهنود وغيرهم.

بفضل موقعها الفريد أصبحت بابل مركزاً تجارياً وسياسياً متميزاً، وهكذا ولدت حضارتها العظيمة، وتعني كلمة بابل باللغة الأكادية "بوابة الله".

في القرن العشرين قبل الميلاد، وفي عهد الكلدانيين، عاش إبراهيم الخليل عليه السلام، في مدينة "أور"، وكان السحر قد استشرى بين أهلها، حتى ضرب المثل في إتقان السحر بحكماء وكهنة وسحرة بابل، الذين كانوا قوماً صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة.

يرجع الفضل الكبير في بلورة بابل كعاصمة عالمية، إلى الملك حمورابي، الذي دخلها وأقام فيها مجداً عظيماً في الفترة الممتدة ما بين 1792 و1750 قبل الميلاد.

ولعل المثير في قصة بابل مع حمورابي، أن الرجل حاول اجتثاث السحر والسحرة من جذورهم، ذلك أنه حين سن قوانينه الشمولية ونقشها في مسلته الشهيرة (مسلة حمورابي)، كان القانون الثاني من المسلة يخص السحر والشعوذة لخطورته على المجتمع وأمنه بشكل عام، وقد اعتبر السحر وقتها من الكبائر وكانت عقوبته الإعدام، عطفاً على تجريده من بيته وممتلكاته.

الديانة السومرية ومقاومة الآلهة الأشرار

هل كانت الديانة السومرية في شكلها الأول، سبباً مباشراً في انتشار السحر في بلاد الرافدين؟

في بحث تاريخي للدكتور حيدر عقيل عبد من كلية الآثار بجامعة القادسية العراقية، عن دور الآلهة والكهنة في طرد الشر والشيطان في العراق القديم، نجد إيمان السومريين في وجود قوى روحية تحيط به، إما آلهة أو عفاريت.

كان السومريون أول من تصوروا أن هنالك مجموعة كبيرة من الكائنات فوق طاقة البشر، أي أكثر مقدرة منهم وأقل قدرة من الآلهة، ولذلك كان على الإنسان أن يخشاها، ويعمل على استرضائها بواسطة القرابين أو بكليهما.

وبحسب فكر العراقيين في ذلك الوقت، فإن الشياطين لم تكن مخلوقات العالم الآخر فحسب بل كانوا يعدون آلهة ولدوا في السماوات، وكان الإله "أنو" الإله السماوي الكبير يكبح جماحهم بشدة ويستخدمهم بصفة رسل له وأدوات يعاقب من خلالها.

غير أن ما فتح الباب واسعاً تالياً للعرافين والسحرة عند السومريين، أن كثيراً منهم اعتقدوا أن كثيراً من هؤلاء الشياطين، يمارسون شرورهم في السماء ويجتاحون أرض البشر فيسببون الكوارث، وذلك من دون علم الإله "أنو".

تصف بعض النصوص السومرية، تلك الأرواح الشريرة بما يلي: "إنهم عواصف صادمة، هؤلاء الأشرار إنهم جن بغير رأفة، ولدوا في قبة السماوات، إنهم عملاء الشؤم، إنهم عملاء الشر الذين لا يفكرون إلا في الشر، وهم دوماً في المقدمة لاقتراف الاغتيالات".

كان الفرد في بلاد الرافدين يرى نفسه محاطاً بعدة قوى، كانت تشكل إما آلهة أو عفاريت، فهنالك العفريت الغاضب الذي يظهر نفسه أثناء العواصف الرملية التي تأتي من جهة الصحراء، ومن المحتمل أن يضرب الرجل الذي يعترض هذا العفريت ويصاب بالتهاب الجيوب المؤلم.

لم يكن الشر عند السومريين القدامى من صفات العفاريت فحسب، بل هنالك الآلهة التي كانت موكلة بشؤون الشر الطبيعي، وخصوصاً ما يتعلق بحياة الإنسان من الألم والمرض وجميع هذه الآلهة ينتمي لقوى الظلام، ومنها "أرشكيجال" ربة العالم السفلي التي تعمل على ملء مملكتها من الناس أجمعين، وزوجها "دركال" الذي كان يرسل عفاريت الظلام لتجوس في الأرض وتؤذي الناس.

هنا يعن للباحث في شأن السحر البابلي أن يتساءل: هل كان لهذه المعتقدات أصل في بحث البابليين عن قوى خفية مضادة، تقيهم شر تلك الآلهة والعفاريت، وحتى لو كان الأمر من خلال التعاون مع قوى شريرة غير منظورة مقابلة؟

سحر بابل من هيرودتس إلى ابن خلدون

يقودنا الحديث عن السحر البابلي إلى الكثير من كتابات الأولين والمحدثين، والتي تخبرنا أنه كان أمراً جللاً، عظيماً وخطيراً في الوقت ذاته.

وصف شيخ المؤرخين اليونان، هيرودتس، بابل، بأنها كانت أعظم مدائن العالم في وقتها، واسعة الأرجاء كثيرة العلوم والفنون، ومن هذه العلوم يتوقف بنوع خاص أمام السحر والفلك.

الأمر نفسه ذكره ابن خلدون، عالم الاجتماع العربي الشهير، فقال: "وأما وجود السحر في أهل بابل وهم الكلدانيون من النبط والسريانيون، فكثير ونطق به القرآن وجاءت به الأخبار".

أما الفيلسوف والطبيب أبو بكر الرازي، فيذكر أن: "أهل بابل كانوا يعبدون أوثاناً قد عملوها على أسماء الكواكب السبعة، وجعلوا لكل واحد منها هيكلاً فيه صنمه، ويتقربون إليه بضروب من الفعال على حسب اعتقاداتهم من موافقة ذلك للكوكب الذي يطلبون منه بزعمهم فعل خير أو شر".

كان لكهنة الكلدانيين وسحرتهم اعتقادات مثيرة في تأثير الكواكب والنجوم على حياة البشر، وينسبون إليها أموراً كثيرة منها أن ظهور كوكب المشتري في الليالي القمرية يبشر النساء الحاملات بالمواليد الذكور، وظهور عطارد دليل على زيادة المعاملات التجارية وتحسين الأحوال الاقتصادية للبلاد.

ولعل المتأمل في قصة سيدنا إبراهيم، يدرك كم كان نصيب مدينة "أور" وافراً في دائرة السحر والسحرة، وموطناً كبيراً لفنون السحر، كما كانت المؤلفات القديمة تعج بالموضوعات السحرية كالترانيم والرقى والتعاويذ، ويذكر أن "أشور بانيبال"، ملك أشور، قد حفظ من عام 668 إلى 626 قبل الميلاد في مكتبته كثيراً من النصوص الدينية والسحرية، وقد جمع هذه النصوص من المعابد المختلفة التي كانت منتشرة في المدن القديمة، وكان أغلبها مكتوباً باللغة السومرية.

هل كان هناك ما يشبه المنهج العلمي بلغتنا المعاصرة، في علوم السحر عند البابليين؟

نعم، كان الأمر على ذلك النحو، وقد قسم الباحثون في مؤلفات البابليين ونصوصهم السحرية تلك المؤلفات والنصوص إلى ثلاثة مجاميع رئيسية:

المجموعة الأولى: النصوص التنجيمية، وفيها تذكر الكواكب على أنها آلهة، تؤثر في حياة الناس، وفي أفعالهم ومصائرهم.

المجموعة الثانية: اللوحات الخاصة ببعض الوسائل المستعملة في الكهانة والتنبؤ بالغيب.

المجموعة الثالثة: فهي الرقى والتعاويذ التي كانت تستخدم لدرء شرور السحر الأسود وطرد الأرواح الخبيثة التي تحل بالأبدان، فتسبب لأصحابها الأضرار والأمراض.

وول ديورانت وحديث علم الفلك والسحر

ومن القدامى جداً إلى المحدثين والمعاصرين، نجد المؤرخ الأميركي الشهير وول ديورانت، يكتب في موسوعته الكبيرة "قصة الحضارة"، عن كيف امتاز البابليون في علم الفلك، وقد كان هذا العلم هو منشأ السحر وأساسه عندهم.

يقول ديورانت: "لم يدرس البابليون النجوم ليرسموا الخرائط التي تعين على مسير القوافل والسفن، بل درسوها أكثر ما درسوها لتعينهم على التنبؤ بمستقبل الناس ومصائرهم، وبذلك كانوا منجمين بأكثر منهم فلكيين".

كانت كل حركة من حركات كل نجم أو كوكب، تدل على أن حادثاً وقع على الأرض، أو تنبأ بوقوعه. فإذا كان القمر منخفضاً على سبيل المثال، كان معنى ذلك أن أمة بعيدة ستخضع للملك، وإذا كان هلالاً كان معناه أن الملك سيظفر بأعدائه.

يشير ديورانت إلى أن البابليين باتت عندهم عملية استخلاص الجهود التي تبذل لاستخلاص العلم بالمستقبل من حركات النجوم شهوة من الشهوات.

ينبه ديورانت إلى أمر عرفته كثير من الحضارات التي مارست شعوبها السحر، وتحكم في مسيرتها الكهان، فيقول: "استطاع الكهنة الخبيرون بالتنجيم أن يجنوا أطيب الثمرات من الملوك والشعب على السواء، وكان من هؤلاء الكهنة من هو مخل لعلمه مؤمن به، ينقب بغيرة وحماسة في المجلدات التي تبحث في التنجيم، والتي وضعت، بحسب روايتهم المأثورة، في عهد سرجون الملك الأكادي في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، وهو مؤسس المملكة الأكادية.

وفي وسط هؤلاء الكهنة الفلكيين، كان الشعب يشكو من الدجالين الذين يسيرون بين الناس يقرأون لهم طوالعهم، أو يتنبأون لهم بما سيكون عليه الطقس، كل هذا نظير أجور يتقاضونها وهم لم يدرسوا من علم التنجيم شيئاً.

وفي كتابات ديورانت، نجد تشخيصاً مثيراً لحرص الشعب على التعاطي مع الطب القائم على الخرافات والأوهام، وعلى العلاج بالأساليب السحرية، وبسبب هذا كان السحرة والعرافون أحب إلى الشعب من الأطباء، وقد فرضوا على الناس، بفضل نفوذهم عندهم، طرقاً للعلاج أبعد ما تكون عن العقل. فكان منشأ المرض في رأيهم تقمص الشيطان جسم المريض لذنب ارتكبه، وكان أكثر ما يعالج به لهذا السبب تلاوة العزائم وأعمال السحر والصلوات. فإذا ما استخدمت العقاقير الطبية، فإنها لم تكن تستخدم لتطهير جسم المريض، بل كان استخدامها لإرهاب الشيطان وإخراجه من الجسم.

اقرأ المزيد

هل عرف البابليون السحر الأسود؟

عرفت بابل عبر التاريخ بحدائقها المعلقة، تلك التي اعتبرت من عجائب الدنيا السبع، وقد كانت أحد أوجهها المشرقة.

غير أنه على الجانب الآخر من التاريخ، كان هناك جانب مظلم، مملوء بأعمال السحر والسحرة.

لم تكن أعمال العرافة والكهانة قاصرة على الذكور في بابل القديمة، والتي وضعت قوانين لعلم السحر، ومنهاجاً لمباشرته، وكان فيها الكهان والعرافين، أعلى مرتبة من رجال الدين وخدام المعابد.

لعبت العرافات بدورهن دوراً متقدماً في ممارسة السحر، حتى أن الساحر كان يقارع الجبابرة في السحر والشعوذة.

ولعل هناك أصوات عديدة تقطع بأن السحر عند البابليين كان يشبه السحر عند المصريين القدماء، وتذهب أصوات أخرى، إلى أنه كان أشد خطورة مما عرفه الفراعنة.

وبالرجوع إلى دراسة أعدها الباحث العراقي الشهير الدكتور تقي الدباغ، والمعنونة "الفكر الديني في العراق القديم"، نجده يتحدث عن السحر عند البابليين بوصفه مزاولة ضرورية يومية، تهدف إلى دفع الشر عن الإنسان وجلب الخير.

وينبهنا الدكتور الدباغ، إلى أن قوانين حمورابي قد منعت السحر الأسود وهو السحر الضار بالبشر وبما يملكون عاقبت بالقتل من كان يمارسه، كما أشرنا مقدماً، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً للتفريق بين السحر الأسود وأعماله السفلية من جهة، وبين علم الفلك الذي تحدث عنه ديورانت من جهة ثانية، ذاك الذي مارسه المنجمون الفلكيون على قلتهم، وقد اشتهر سحرة بابل بقراءة طالع الملوك خلال انطلاقهم للحروب، أو لمعرفة المستقبل، وذلك عبر عدة طرق منها فحص كبد الذبيحة التي يتم تقديمها كقربان، أو من خلال سكب الزيت في الماء، وهناك من كان يضرب الأقداح.

كما كان لزاجر الطير في بلاط الملك درجة مهمة من درجات القصر الملكي، وخلاصة عمله أنه إذا رأى الطائر عند طيرانه ماراً من يمين الملك إلى يساره، فالملك منتصر في حربه أو سفره، وهناك حركات تفصيلية لهذا النوع من العرافة.

أما الجانب الآخر والذي لا يقل أهمية في تاريخ السحر البابلي، فموصول بتفسير الأحلام، فقد عرفوها وحللوا أنواعها في مسعى من العرافة، لا دخل للسحر فيه.

وعند الباحث حاتم السروي العراقي الأصل، كان لسيطرة فكرة الخير والشر، تأثير واضح في مجرى الحياة في بابل، إذ أعطيت للكهنة سلطات مطلقة لقيادة الشعب والتأثير عليه تماماً، مثلما كان الوضع في حضارة مصر القديمة.

برع كهنة بابل في أمور السحر والتعاويذ بشكل لم يصل إليه أي شعب قديم كانت له حضارة معروفة.

والسحر البابلي خطير جداً، بحسب السروي، بل ومرعب حتى أن عامة السحرة في بابل وخارجها كانوا يستغلون أسماء الآلهة والشياطين البابلية في أعمالهم، ولهم تعزيمات خاصة يقولونها للشياطين المراد تحضيرهم وتسخيرهم، ذلك التسخير الذي يكون غالباً في الشر، وحتى الآن يعرف السحرة في البلاد الأوروبية أسماء مثل: بعلزبوب، وعشتروت وبلبال وغيرها كمرادف لأسماء الشياطين، وجميعها أسماء بابلية قديمة.

وفي الخلاصة، فإن البحث في التساؤل الأكثر إثارة هو عن العلاقة بين السحر في بابل، والسحر في اليهودية، وكيف جرت المياه بين الشعبين وأي تأثيرات تركت سنوات السبي البابلي، تلك التي تجاوزت نحو 500 عام في حياة البابليين، من واقع عشرتهم وجوارهم وحوارهم مع يهود بني إسرائيل المسبيين هناك يبكون على أنهار بابل وبجانب أشجار الصفصاف كما تقول التراتيل التوراتية؟

وهو ما يستحق إضاءة أخرى.

المزيد من تحقيقات ومطولات