ملخص
غياب خدمات مستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية والعصبية سيؤدي إلى انتكاسة المرضى والتي تعني بدورها كارثة صحية تتسبب في موتهم سواء بالإيذاء الشخصي أو للآخرين وأحياناً التخريب والتكسير
في واقعة أشبه بما حدث من مهاجمة وتفريغ سجون ولاية الخرطوم، خلال أسبوع الحرب الثاني، تعرض مستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية والعصبية بأم درمان المعروف شعبياً لدى السودانيين بمستشفى (المجانين) إلى إخلائه بالقوة من جميع المرضى الذين كانوا يباشرون علاجهم داخله، إثر مداهمة قوات الدعم السريع له ونهبه وتخريبه تماماً.
بحسب متخصصين فإن الخروج الكامل للمستشفى الحكومي السوداني المرجعي الوحيد في هذا التخصص عن الخدمة وتسريح كثيرين من المرضى النفسيين والعقليين، وهم في غير قواهم العقلية الكاملة، يعرضهم وغيرهم إلى أخطار كبيرة، لا سيما في ظل أوضاع الحرب والمعارك الدائرة بمعظم شوارع العاصمة الخرطوم.
إدارة المستشفى قالت في بيان لها إن قوات الدعم السريع ظلت متمركزة في المبنى منذ بداية الحرب منتصف أبريل (نيسان) الماضي، قبل أن تطرد طاقم حراسته من أفراد النظام العام وتهددهم بالقتل بعد إخلائه من المرضى ونهبه وتخريبه بالكامل.
وبحسب البيان فإن "قوات الدعم السريع قامت مطلع هذا الأسبوع بنهب المستشفى وكسر خزنته وسرقة ما بها من أموال، إلى جانب تدمير كل الأجهزة الموجودة بالمعمل وتحطيم المكاتب والمخازن والصيدلية الخارجية وسرقة ما فيها من حواسيب ومكيفات ومولدات وغيرها، إلى جانب سرقة عربة الترحيل الخاصة بالمستشفى ثم تركوا ما تبقى نهباً للنيغرز (عصابات نهب منظمة) وغيرهم الذين قاموا بسرقة الأثاث".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مدير عام مستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية والعصبية، مهجة محمد إبراهيم، قالت إن دماراً كبيراً أصاب هذا الصرح العملاق الذي يقصده المرضى من جميع أنحاء السودان للعلاج، ويدرب الأطباء وطلاب الطب والتمريض وعلم النفس والاجتماع وغيرهم، متمنية توقف الحرب عاجلاً حتى تتم إعادة إعماره ليعود أفضل مما كان عليه.
تحذيرات وأخطار
من جانبه، حذر اختصاصي الطب النفسي، المسؤول الطبي السوداني الشفيع عبدالله، من أن غياب خدمات المستشفى سيؤدي إلى انتكاسة المرضى والتي تعني بدورها كارثة صحية تتسبب في موتهم، سواء بالإيذاء الشخصي أو للآخرين، وأحياناً التخريب والتكسير، مبيناً أن المستشفى كان بالأصل فقيراً تماماً ثم تعرض للتدمير التام.
وقال "الاعتداء على المؤسسات الصحية بصفة عامة يمثل جريمة في كل القوانين والأعراف الدولية والمحلية، ويشكل كارثة كبيرة على مؤسسات العلاج النفسي والعقلي، بخاصة لمثل هذا المستشفى المرجعي القومي".
أضاف "المؤسسات الصحية السودانية باتت هشة وهزيلة في الفترة الأخيرة، تشكو المعاناة وتراكم المشكلات، لكنها ظلت على رغم كل ذلك تقدم خدمات كبيرة في معناها للمرضى، كما أن مستشفيات الأمراض النفسية على قلتها قد أصيبت في مقتل، إذ تعرض أكثر من واحد للتخريب مثلما حدث لمستشفى طه بعشر بمدينة بحري".
فجوة ومخاوف
الشفيع عبدالله قال في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن الأجهزة والمعدات والأدوات التشخيصية والعلاجية التي فقدها مستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية والعصبية أمر لا يمكن تعويضه على المدى القريب، فقد كانت حصيلة جهد كبير لسنوات طويلة مضت وضاعت في لحظات.
وأشار إلى أن الفجوة التي سيسببها فقدان أجهزة المستشفى بالنظر إلى ما ستخلفه هذه الحرب من آثار نفسية على السودانيين ستكون مدخلاً وسبباً في تزايد كبير للحالات المرضية الجديدة، وانتكاسات خطرة للحالات القديمة.
بحسب إحصاء رسمي صادر في وقت سابق عن المستشفى نفسه، فقد كان متوسط حالات الدخول 1500 حالة شهرياً بواقع 50 مريضاً في اليوم الواحد، بينما تشير إحصاءات أخرى إلى أن عنابر المستشفى تستقبل خمسة مرضى جدد كل يوم، مما تسبب في ملء كل الأسرة، موضحة أن أكثر الفئات تردداً على المستشفى هم الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين 20 و30 عاماً. ونوهت بأن معظم المترددين على المشافي النفسية موجودون حالياً في الشوارع وسط المشردين.
ازدياد المترددين
يضم مستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية والعصبية قسماً للطوارئ يعمل على مدى 24 ساعة يومياً، أما التنويم والدخول إلى العنابر الداخلية فيقرره طبيب الطوارئ المختص، كما يعتمد أيضاً على عدد الأسرة الخالية.
ومما يزيد من صعوبة المهمة عدم اعتماد نظام المستشفى الخدمات المنزلية، إذ يجب على كل أسرة إحضار مريضها مع مرافق له من الجنس نفسه داخل العنابر، أما بالنسبة إلى الحالات الخطرة فيتطلب الوضع أحياناً شرطة الطوارئ أو التبليغ إلى أقرب قسم شرطة وتحويل المريض إلى مستشفى مجاور من المستشفيات الخاصة بولاية الخرطوم في منطقتي بحري وبري.
وتشهد حالات الإصابة بالأمراض النفسية ازدياداً ملحوظاً بالبلاد في الآونة الأخيرة، وبلغ عدد المرضى المترددين على مستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية 200 حالة يومياً، بحسب وزارة الصحة الاتحادية، على رغم إقرارها بعدم وجود إحصاء دقيق للحالات.
وتعاني الميزانيات المخصصة للصحة لا سيما المتخصصة بالعلاج النفسي ضعفاً واضحاً في الميزانيات المقررة من قبل الحكومة والمنظمات، مما يجعلها في حاجة إلى معالجات للصرف على هذه الفئة.
وكان والي ولاية الخرطوم المكلف أحمد عثمان حمزة، قد تعهد لدى زيارته المستشفى الأسبوع الأول من أبريل الماضي، بإكمال المشاريع المتوقفة به وتحسين بنيته العمرانية والصحية وإعادة تأهيل المعامل، ضمن موازنة وزارة الصحة بالولاية لعام 2023 وإعادة الاعتمادات المالية الاتحادية المخصصة للمستشفى.
مطالبات بالإخلاء
وبعد الاتهامات الموجهة لقوات الدعم السريع، طالب العاملون بالقطاع الصحي في الخرطوم بإخلاء المعمل المركزي (استاك) ومركز أبحاث الدم والأمراض المستوطنة وبنك الدم وكلية الطب ومستشفى الأورام المجاور، حتى يتمكنوا من الوصول والعمل في بيئة آمنة وضمان تدمير العينات التي أتلفت بسبب قطع الكهرباء ومخزون بنك الدم الذي أصبح فاسداً من دون شك.
أسس مستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية والعصبية والعقلية في عام 1971، جنوب سوق مدينة أم درمان القديمة، كأول مستشفى متخصص في هذا المجال بالبلاد، واكتسب بهذا الاسم نسبة إلى الطبيب النفسي الرائد في هذا المجال الدكتور التيجاني الماحي، الذي أصبح في ما بعد رئيساً لمجلس السيادة الانتقالي عقب ثورة أكتوبر (تشرين الأول) التي أطاحت حكم عبود.
تعديات بالجملة
وفق آخر إحصاءات منظمة أطباء حول العالم، فقد تكبد القطاع الصحي السوداني خسائر كارثية تمثلت في مقتل 14 طبيباً وكادراً طبياً، واختفاء 11 من الكوادر الطبية وسائقي سيارات الإسعاف.
وبحسب المنظمة فقد تعرضت المستشفيات إلى قصف وإخلاء قسري لـ24 مستشفى واتخاذها ثكنات عسكرية مع توقف الخدمات الطبية في أكثر من 63 مستشفى ومؤسسة علاجية بالخرطوم، فضلاً عن السيطرة على 17 مخزناً للإمدادات الطبية المركزية.
وفي مدينة الجنينة عاصمة غرب دارفور تعرض 16 مستشفى ومرفقاً طبياً للقصف والتدمير، مما أدى بحسب المنظمة إلى انهيار النظام الصحي بالولاية ومقتل وإصابة سبعة من الأطباء والكوادر الصحية والاستيلاء على مخازن الصحة العالمية والإمدادات الطبية والتأمين الصحي بالمدينة، وفق المنظمة.
أما شمال كردفان فتعرضت ثلاث مؤسسات طبية بعاصمتها مدينة الأبيض للتخريب، ونهب ست صيدليات كبيرة، وفي أم درمان توفيت سيدة حامل بعد طرد الحوامل من مستشفى الولادة بأم درمان.
تحقيق دولي
على نحو ذي صلة، طالب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الإثنين، بإجراء تحقيق شامل في جميع حوادث استهداف المدنيين وقتلهم وإصابتهم، بمن فيهم العاملون في المجالين الإنساني والطبي.
أبدى غوتيريش، في تقريره إلى مجلس الأمن الدولي عن تطورات الوضع بالسودان خلال الفترة من 19 فبراير (شباط) الماضي إلى 6 مايو (أيار) الجاري، قلقه حيال استمرار القتال في المناطق المكتظة بالسكان والهجمات على المدنيين والبنية التحتية المدنية، بما في ذلك المنازل والمستشفيات والمدارس وأماكن العبادة، مطالباً بأن يشمل التحقيق جميع الأعمال المحظورة بموجب القانون الدولي وتقديم الجناة إلى العدالة.
غوتيريش دعا الطرفين المتحاربين إلى التقييد بالتزاماتها بموجب القانون الدولي، علاوة على كفالة حماية المدنيين والبنية التحتية المدنية وسلامة وأمن موظفي الأمم المتحدة ومبانيها وأصولها والعاملين في المجالين الإنساني والطبي.
بحسب اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء أودى القتال المندلع في السودان بحياة 863 مدنياً وأصيب ثلاثة آلاف و531 آخرون، فيما تقول وزارة الصحة إن عدد الإصابات يزيد على خمسة آلاف حالة.
واندلع في الخرطوم قتال ضارٍ بين الجيش و"الدعم السريع"، منتصف الشهر الماضي، اتسع ليشمل بعض ولايات دارفور وكردفان بشكل متقطع، قبل أن يعود ويتركز في العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث متسبباً في تشريد زهاء المليون شخص من منازلهم.