ملخص
اجتاحت حالة من السخط والاستياء مواقع التواصل الاجتماعي لتعكس حالة غضب عامة بين المصريين من جرأة التعدي على حرمة الموتى في مقابر القاهرة التاريخية وتحديداً الإمام الشافعي والسيدة نفسية وغيرهما.
باسم المنفعة العامة اجتاحت حمى إزالة المقابر منطقة القاهرة التاريخية، لتبدأ معها حملة شارك فيها غالبية المصريين عبر مواقع التواصل الاجتماعي لحماية المفكرين والزعماء الراقدين تحت التراب، ليصبح قرار مد المحور المروري الجديد "الفردوس" مخترقاً قلب "قرافة المماليك" شرق العاصمة عنواناً كبيراً محيت معه عديد من ملامح "مدينة الموتى"، وتتزايد أصوات المطالبين بالحفاظ على شواهد كبار الأدباء والسياسيين والشيوخ والمفكرين ممن كانت لهم بصمات جلية في تاريخ هذا البلد.
وأمام جرافات تزيل ما يعترضها من مدافن أو شواهد استقرت في تلك المنطقة منذ الفتح الإسلامي لمصر خلال القرن السابع الميلادي، اجتاحت حالة من الاستياء مواقع التواصل الاجتماعي من جرأة التعدي على حرمة الموتى أولاً ثم حرمات التاريخ والجغرافيا ثانياً.
وبينما نجت مقابر كانت تضم رفات شخصيات شهيرة أبرزها عميد الأدب العربي طه حسين، ثم "قيثارة السماء" الشيخ محمد رفعت، فإن أخرى لم تنجُ منها مقبرة الروائي يحيى حقي أو قاضي القضاة العز بن عبد السلام الملقب بـ"سلطان العلماء وبائع الملوك وشيخ الإسلام".
ما يحدث في مقابر الإمام الشافعي بالقاهرة وصفه متخصصون في الآثار والتاريخ وعلم الاجتماع بـ"العبثية"، إذ لا تزال المقابر القديمة تلقي برسائلها وتدفع باكتشافات مذهلة للمبادرين لحمايتها بانتشال جداريات ونقوش قديمة ضمتها جدرانها وبعضها يعود إلى أكثر من 1300 سنة، ولوحات فنية صنعت بدقة قبل مئات السنين.
نفي أم تعويض؟
مشروع إنشاء محور الفردوس المروري هو ضربة البداية الحقيقية في إزالة المقابر التاريخية بقلب القاهرة القديمة، وإن كانت قد سبقتها أعمال هدم طفيفة للمقابر في تلك المنطقة بهدف توسعة "طريق النصر"، خلال الفترة ما بين عامي 2014 و2016.
لكن بداية الظاهرة الحقيقة انطلقت مع إعلان مخطط مشروع محور "الفردوس" في 22 يوليو (تموز) 2020 عندما كشفت محافظة القاهرة النقاب عن مسار المحور المروري الممتد إلى تسعة كيلومترات تقريباً، بهدف تيسير الحركة المرورية المتبادلة بين وسط القاهرة وكل من الطريق الدائري ومدن شرق العاصمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
محور جديد كان مخططاً له المرور بعيداً من "مقابر المماليك" التاريخية بمسافة 300 متر، وفقاً لتأكيدات مسؤولي محافظة القاهرة ممن طالبوا المواطنين بعدم الانسياق وراء الإشاعات، وأن الدولة حريصة على الحفاظ على التراث التاريخي من الآثار الإسلامية والقبطية لما تمثله من قيمة تاريخية، لكن على الأرض جرى إزالة عديد منها لإفساح الطريق للمحور الجديد.
رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بوزارة السياحة والآثار المصرية أسامة طلعت، قال إن ما جرى تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي عن هدم جبانة المماليك بما تضمه من مقابر تاريخية وآثار إسلامية تعود لنحو خمسة قرون، "عار تماماً عن الصحة". موضحاً أن المقابر المتداولة صورها غير مسجلة في الآثار الإسلامية والقبطية.
ولفت طلعت إلى تشكيل لجنة علمية فنية لمعاينة الشواهد والأحجار التي تشتمل على نقوش زخرفية أو كتابية، لتتم دراستها وبحث إمكانية عرض جزء منها ببعض المتاحف كجزء من تراث مصر المتميز.
أما رئيس حي منشأة ناصر (غرب القاهرة) اللواء محمد عبد الجليل، فأشار إلى إمكانية تعويض أصحاب بعض المقابر الواقعة في مسار الطريق التي تمت إزالتها بأخرى بديلة في مدينة 15 مايو جنوب العاصمة المصرية.
مقابر الإمام الشافعي
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2021 تزايد الحديث عن إزالة المقابر الخاصة بالمشاهير، لكن هذه المرة في منطقة مقابر الإمام الشافعي، بعد أن وصلت خطابات لملاكها وورثتهم تنذرهم بسرعة نقل رفات ذويهم إلى مقابر مدينة 15 مايو الجديدة لبدء إزالة بعضها بهدف توسعة طريق صلاح سالم.
وكانت البداية باستغاثة وجهتها عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر منى ذو الفقار وابنة الفنان المصري الراحل صلاح ذو الفقار، مطالبة بالبحث عن حلول لتوسعة الطريق بدلاً من هدم مدفن قائم منذ 240 عاماً، ويعتبر تراثاً أثرياً.
الاستغاثات الشعبية وصل صداها مجلس النواب المصري، وتقدمت النائبة مها عبد الناصر، بطلب موجه لكل من رئيس مجلس الوزراء، ووزراء السياحة والآثار، والنقل والمواصلات، والتنمية المحلية، والإسكان، منتقدة مخططات تطوير القاهرة وإزالة 2700 مقبرة في السيدة نفيسة والإمام الشافعي لتوسعة طريق.
وحذرت البرلمانية المصرية من تجاهل رمزية المقابر وهدمها، خصوصاً المقابر ذات الطابع التاريخي المميز، والمتضمنة مدافن شخصيات تاريخية تعود إلى أزمنة ماضية يلزم المحافظة عليها وتطويرها، أسوة بما يتم مع عديد من المدافن التاريخية التي تصلح كمزارات سياحية. موضحة أن أهمية تطوير الطرق والبنية التحتية لا ينبغي أن تكون على حساب إزالة الرفات والجثث من مقابر ذات طابع مميز وخاص، ودفنت فيها شخصيات تاريخية مثل الملكة فريدة وأمير الشعراء أحمد شوقي.
أزمات مشابهة
بحلول أبريل (نيسان) 2022، وجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالبدء في إنشاء محور "متحف الحضارة"، كمدخل إضافي جديد لمنطقة هضبة المقطم، تزامناً مع إعلان محافظة القاهرة اعتزامها نقل عدد من المقابر بمحيط الإمام الشافعي والإمام الليثي، ضمن خطة تطوير مسار آل البيت، بجانب نقل 1177 مقبرة بمسار كوبري (السيدة عائشة) الجديد.
أما مقابر منطقة التونسي في حي الخليفة (جنوب القاهرة)، فقد وضع موظفو المحافظة خلال مايو (أيار) 2022 علامة (X) على واجهة مقبرة عميد الأدب العربي طه حسين، وبجانبها كلمة "إزالة" تمهيداً لهدم المدفن بغية إنشاء كوبري يحمل اسم الكاتب الصحافي المصري الراحل ياسر رزق، فيما أوضحت مها عون حفيدة الأديب الراحل أن أسرتها تتشاور في شأن نقل رفاته إلى خارج مصر.
وعقب حالة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب محو تاريخ مصر بإزالة مقابر رموزها، ردت محافظة القاهرة بالنفي على قرار الهدم، موضحة حينها أنها لم تتلق خريطة مسار الكوبري الجديد حتى يمكنها معرفة مصيرها. وخلال الأشهر التي أعقبت هذا الجدل جرى تنفيذ الكوبري من دون إزالة المدفن، وإن كانت أعمدة الكوبرى قد اخترقت بوضوح مقبرة عميد الأدب العربي طه حسين.
الرئيس المصري بدوره عاد لينفي خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، صحة ما تردد عن هدم أي مقابر لشخصيات تاريخية أو مؤثرة في بلاده، قائلاً، "لا يمكن نعمل ده (هذا) تجاه مناطق فيها مقابر لشخصيات نقدرها ونحترمها أو في المناطق الأثرية".
وأضاف السيسي خلال تفقده أعمال تطوير عدد من الطرق والمحاور بالقاهرة الكبرى، أن الدولة تعالج ذلك بإنشاء الكباري، قائلاً "بقول ده (هذا) عشان ما نديش (لا نعطي) فرصة لحد إنه يشوه الجهد اللي بيتم".
الكباري ليست حلاً
يقول المتخصص في الآثار والحضارة الإسلامية المصرية معاذ لافي، إن ما يحدث من إزالة للمقابر القديمة في القاهرة بشكل عام والتاريخية على وجه الخصوص، "أمر مرفوض تماماً". مشيراً إلى أن الحكومة تعلل أعمال الهدم بإنشاء كباري تنهي أزمة المرور، وهو كلام غير صحيح فأزمة المرور تحل من خلال سياسات مرورية تشمل تطوير وسائل النقل العام وضبط منظومتها، وهو ما سيؤدي إلى تقليل اعتماد المواطنين على السيارات الخاصة، واستخدام الوسيلة التي توفرها وتدعمها الدولة.
وتابع لافي، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن حل المشكلة يبدأ بالتفكير العلمي في أسبابها والبحث عن حلول مدروسة وليس إنشاء الكباري بالكثافة التي يراها الجميع، والتي تخلت عنها دول غربية منذ سنوات، موضحاً أن الحكومة المصرية تتعامل مع المقابر في تلك المنطقة بـ"دونية شديدة"، فهي تراها مجرد مقابر يقيم فيها مجموعة من المواطنين المشردين العاملين في خدمات دفن الموتى وتنظيف المقابر، وأنه لا مانع من إزالتها بالكامل وطرد سكانها من الأحياء قبل الأموات، وهو تعامل غير علمي مع نسيج عمراني قائم منذ 1400 عام ويجب الحفاظ عليه.
ويرى المتخصص المصري في الآثار، أن هذه الأسر المقيمة في منطقة الجبانة تعمل في هذا المكان منذ عشرات السنين، وتحصل على راتبها من أصحاب المقابر، ومنع هذا الوضع من دون دراسة هو بمثابة عزل لهؤلاء الأشخاص عن مجتمعهم.
ووصف لافي، طريقة التعامل مع مقابر لها مئات السنين بـ"القاسية واللا إنسانية"، مشيراً إلى أن الأولوية كانت المحافظة على المواطنين الذين يعملون ويقيمون في هذا المكان، ثم الحفاظ على المقابر التاريخية التي تعد تراثاً مصرياً خالصاً، معرباً عن دهشته من حديث الحكومة عن القومية والولاء للوطن وإحياء الروح الوطنية فيما تزيل على الجانب الآخر مقابر شاعر النيل حافظ إبراهيم وعميد الأدب العربي طه حسين وتتعامل معها بطريقة لا تليق. مؤكداً أن إنشاء الكباري "سيؤثر مستقبلاً على جميع المباني التاريخية المحيطة التي نجت من حمى الهدم".
مشاهير تحت الجرافات
ضمت قائمة مقابر الشخصيات المهمة التي تعرضت إلى الإزالة مقبرة كل من الفيلسوف المصري أحمد لطفي السيد، ورئيس وزراء مصر الذي رفض اشتراكها في الحرب العالمية الثانية حسن باشا صبري، وأحد أعمدة الاقتصاد المصري عبود باشا، ومدير مطبعة دار الكتب محمد مصطفى نديم الذي تبنى طباعة أشعار أحمد شوقي، وأحد مؤسسي التربية والتعليم في مصر زكي بك المهندس، وحفيدة محمد علي باشا الكبير نازلي هانم حليم، وناظر الملكية في عهد الملك فاروق الأول مراد باشا محسن.
أما ابنة الروائي الكبير يحيى حقي (نهى حقي) فقد أشارت إلى نقل جثامين والدها والعائلة إلى مقبرة بديلة في مدينة العاشر من رمضان شمال شرقي القاهرة، بسبب قرار هدمها في منطقة السيدة نفسية.
كما أوضحت أسرة شاعر النيل حافظ إبراهيم، تراجع المحافظة عن إزالة قبره تحت ضغط وسائل التواصل الاجتماعي التي اعترض روادها بشدة على قرار الهدم كونه انتهاكاً للتراث الثقافي المصري.
واستغاثت ألطاف البارودي، من عائلة الشاعر محمود سامي البارودي، والملقب بشاعر "السيف والقلم"، بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لوقف قرار إزالة مدفنه.
ورصدت "اندبندنت عربية" إطلاق "هاشتاغ" على مواقع التواصل الاجتماعي يحمل عبارة "أنقذوا مقبرة يحيى حقي"، للمطالبة بوقف قرار الهدم وهو ما لم تستجب له الجهات المعنية.
وقالت عضو مجلس النواب المصري هدى عمار، في تصريحات سابقة، إن مدينة القاهرة تزخر بعديد من الجبانات (المقابر) التاريخية. موضحة أنها ليست مجرد مقابر موتى، إنما إرث يسرد تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي، مشيرة إلى أن مقابر الإمام الشافعي تضم رموزاً اجتماعية وتاريخية مهمة، وكذلك ضريح الإمام الشافعي نفسه، وأن إزالتها تؤدي إلى فقدان معلم سياحي وتراثي مهم، وواصفة ما يحدث بـ"جريمة" يعاقب عليها القانون بحسب نص المادة رقم 50 من الدستور المصري.
المتخصص المصري في التراث الثقافي مصطفى الصادق، أوضح بدوره عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أن مقبرة الإمام "ورش القفطي" شيخ القراء المحققين مهددة بالإزالة. مضيفاً "ولد الإمام ورش في مصر وفيها توفي في عام 197 هجرياً ودفن في مقبرة (القرافة الصغرى) بجوار الإمام الشافعي".
ويعد اسم الإمام ورش علامة مميزة لدى مقرئي القرآن الكريم، حيث إنه الإمام الشهير الذي تلا آيات الذكر الحكيم بالرواية الشهيرة "ورش" التي قرأ المصريون بها القرآن أكثر من 800 سنة، علاوة على أنها كانت في عهده الرواية الرسمية لتلاوة القرآن بالديار المصرية.
أما الحكومة المصرية، فتقول إن قرارات إزالة المقابر هي للمنفعة العامة، وإنها لا تهدم أي مقبرة مسجلة ضمن المباني الأثرية أو ذات الطراز المعماري المميز، مستندة إلى قانون الجبانات المصري رقم "5" الصادر في عام 1966 الذي ينص على أن الجبانات المخصصة للمواطنين هي بنظام "حق الانتفاع" ولا يجوز بيعها أو التنازل عنها للغير، ويحق للحكومة نزع ملكيتها أو وقف الدفن فيها بقرار من الجهات المتخصصة.
الشيخ محمد رفعت
بحلول التاسع من مايو (أيار) الحالي، وتزامناً مع ذكرى ميلاد ووفاة الشيخ محمد رفعت حيث ولد وتوفي في اليوم نفسه من عامي 1882 و1950، تجدد الجدل مع إعلان أسرته تلقيها خطاباً يفيد بقرب هدم مقبرته الكائنة في منطقة جبانات السيدة نفسية جنوب القاهرة، ضمن أكثر من 2600 مقبرة أخرى تضم رموزاً ومفكرين وفنانين مصريين آخرين، بهدف إقامة جسر مروري جديد، حيث سادت حالة من الغضب وطالب مواطنون وشخصيات عامة بوقف فوضى إزالة المقابر التاريخية.
وانتقدت عضو مجلس النواب المصري مها عبد الناصر، قرارات الإزالة التي تضم مقابر الأديب يحيى حقي والإمام الشافعي والسيدة نفيسة، مطالبة بالحفاظ على تاريخ البلاد وإعادة ترتيب الأولويات. وقالت إن خطة الطرق والكباري السريعة تشكل تهديداً مباشراً على القاهرة التاريخية بشكل عام وعلى الجبانات التراثية على وجه التحديد، مطالبة بالوقف الفوري لكل أعمال الهدم والإزالة الجارية لها.
والقاهرة واحدة من المدن التاريخية المتفردة التي جرى إدراجها على قوائم منظمة الـ"يونيسكو" عام 1979 لامتلاكها تراثاً عالمياً ولما تمثله من قيم حضارية وثقافية وتراثية مهمة، وتمتد جبانات القاهرة التاريخية على مساحة كبيرة وتضم مدافن عدة، من بينها الإمام الشافعي والسيدة نفيسة وباب الوزير وباب النصر والمجاورين، والمنطقة التي يطلق عليها صحراء المماليك أو قرافة المماليك.
وينفي الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار المصري مصطفى وزيري، هدم المقابر الأثرية، لافتاً إلى أنها تبدو للمشاهد قديمة، وأنه لا يتم تسجيل كل المباني القديمة كآثار، ولكن يجب أن تكون تراثاً معمارياً قديماً ومتميزاً ومر على بنائه 100 عام عند صدور قانون الآثار عام 1983 حتى يدخل ضمن المباني الأثرية.
تأثير مجتمعي
المتخصصة المصرية في علم الاجتماع سامية خضر، نصحت بالتعامل مع مقابر الرموز التاريخية بطريقة علمية تثقيفية بمشاركة رواد من الفكر والثقافة ومن المهندسين المتخصصين ممن يملكون مهارات وذائقة في التعامل مع هذا التراث.
وأضافت في تصريح خاص أن خطوة إزالة مقابر بهذه الأهمية كان يجب أن يسبقها حوار وطني حقيقي يناقش هذه الخطوة، وليس بقرار منفرد من إحدى الجهات، موضحة أن الأجيال الحديثة في حاجة إلى التعرف على تاريخها ورموز مجتمعها وليس إزالة أثرهم بهذه الطريقة، فهذه المقابر هي تراث ملك للأجيال الجديدة ويجب الحفاظ عليه.
وأشارت إلى أن الدول الغربية تهتم وتقيم المتاحف لبضع مقتنيات لا قيمة لها إذا ما قورنت بالتراث والآثار المصرية، وتحاول خلق تاريخ لها، وفي البلاد تزال الشواهد والمقابر التاريخية لتوسعة طريق من دون النظر للأثر النفسي والمجتمعي على الأجيال القادمة.
ورفضت المتخصصة في علم الاجتماع، إطلاق معاول الهدم لتنال من تاريخ مصر، مؤكدة أن الدول تبحث عن وسيلة لصنع تاريخ في حين من يملك التاريخ يقوم بهدمه من دون نقاش عام يشارك فيه المتخصصون، مطالبة بدعوة المكاتب الهندسية العالمية وبيوت الخبرة للتسابق على دراسة مقابر القاهرة التاريخية، ووضع مخطط للاهتمام بها والحفاظ عليها وتحويلها لمزار سياحي بل والتنسيق مع منظمة الـ"يونيسكو" لتبني خطط الحفاظ على هذه الكنوز مثل مقابر طه حسين ويحيى حقي والشيخ محمد رفعت، والإنفاق عليها على غرار ما حدث وقت إنشاء السد العالي ونقل المعابد المتضررة من المياه أماكنها على نفقة الـ"يونيسكو".
مقبرة للعظماء
في يناير (كانون الثاني) الماضي، اقترح عضو مجلس الشيوخ المصري محمد فريد، خلال اجتماع للجنة الثقافة والإعلام والسياحة والآثار بالمجلس، إقامة مقبرة للعظماء داخل العاصمة الإدارية الجديدة من أجل تخليد أسماء عظماء مصر وبهدف جعل مثواهم الأخير على قدر قيمتهم وبقيمة مدى تأثيرهم في الناس خلال حياتهم على غرار مقبرة "البانثيون" بالحي اللاتيني في باريس.
ونبه فريد إلى أن هذا المقترح يمثل حلاً نهائياً وحضارياً، للأزمة التي تثار على فترات بسبب هدم أو إزالة أضرحة لرموز مصرية تاريخية، على أن يتم تشكيل لجنة علمية لاختيار الشخصيات التي سيوضع رفاتها ضمن تلك المقبرة، وهو المقترح الذي تعرض إلى نقد كبير لغياب معايير اختيار الشخصيات التي ستدفن رفاتها بها.
وتلزم القوانين الأجهزة التنفيذية الحصول على موافقة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري (جهاز حكومي يتكون من متخصصين في التراث والتخطيط العمراني) قبل إجراء أي تعديل في المناطق التاريخية، فيما نفت عضوة الجهاز سهير حواس، في تصريحات إعلامية سابقة، حدوث ذلك، حيث لم تعرض عليهم أي من خطط التطوير في المقابر التاريخية.
وأخيراً كررت منظمة اليونيسكو شكواها من الإهمال الذي تتعرض له القاهرة التاريخية ومقابرها، مهددة بشطبها من قائمة التراث العالمي، ونقلها لقائمة التراث المعرض للخطر، وأعربت المنظمة عن قلقها من إنشاء طريق يمر بـ"مدينة الموتى".
مبادرات إنقاذ مجتمعية
مع تنامي قرارات إزالة المقابر في القاهرة التاريخية، تشكلت مجموعة من المتخصصين في أقسام العمارة بكليات الهندسة والفنون الجميلة ببعض الجامعات المصرية، وشخصيات عامة لوقف عمليات إزالة المقابر أو توثيق المهددة بالإزالة منها قبل هدمه.
يقول مؤسس مبادرة "شواهد مصر" لإنقاذ وتسجيل المقابر التاريخية حسام عبدالعظيم، إن مبادرته بدأت قبل قرابة ثلاث سنوات تقريباً للاهتمام بمقابر منطقة الإمام الشافعي والحفاظ على التراث، والتوعية بأهمية المعالم الأثرية والتاريخية، ولإزالة عوامل الزمن المتراكمة على الآثار، التي حالت دون إمكانية الاستمتاع بصورتها الأصلية.
وأضاف عبدالعظيم أن مبادرته وقعت بروتوكول تعاون مع وزارة السياحة والآثار تحمل اسم "تنظيف الآثار المصرية"، وتتولى المبادرة تسلم موقع أو منطقة أثرية أو تاريخية من الوزارة والقيام تطوعياً بعملية تنظيف كاملة للأثر وإعادته للوزارة مرة أخرى أياً كان حجم كميات المخلفات الملقاة في الموقع الأثري، مشيراً إلى أن المبادرة نجحت في تنظيف 11 أثراً خلال عامين أزالت عنها قرابة 30 طناً من القمامة والأتربة التي كانت تغطيها.
ونوه بأن مبادرة "شواهد مصر" انبثقت عنها قبل عام ونصف مبادرة أخرى تحمل اسم " توثيق وإنقاذ الآثار غير المسجلة" التي تقع في حيز مشروع توسعة طريق صلاح سالم، حيث تم تتبع علامات الإزالة التي وضعها الحي على المقابر الواقعة في مسار مشروع توسعة الطريق، وتم البدء في تسجيل وإنقاذ المقابر ذات الأهمية التاريخية أو الفنية غير المسجلة وبشكل تطوعي.
ولعل أقدم شاهد قبر تم إنقاذه خلال الأيام القليلة الماضية، يعود عمره إلى أكثر من 1100 عام وتحديداً العصر العباسي، لسيدة تدعى "إمامة بنت محمد" حيث تم اكتشافها بالمصادفة عن طريق المتخصص في علم التراث والآثار مصطفى الصادق، الذي عثر على شاهد قبر كامل مكتوب بالخط الكوفي غير المنقوط عمره 11 قرناً بمسار الإزالة داخل "قرافة الشافعي" وقد تم تنظيفه وتسليمه إلى مفتشي الآثار.
وحول خطوات تسجيل الأثر وتتبعه تاريخياً، أكد حسام عبدالعظيم، أن المبادرة تجري بحثاً علمياً وتاريخياً دقيقاً في تسلسل نسب صاحب المقبرة لمعرفة تفاصيل أكثر عن حياته ومكان إقامته وعمله وتوقيت الوفاة وذلك بالعودة إلى المراجع التاريخية.