ملخص
يرى متخصصون أن أحد أسباب رواج "ثقافة المطاعم" في مصر هو ميل سلوك المواطن إلى التقليد والمحاكاة بتناول الطعام في أمكان مرتفعة السعر وتستقبل المشاهير كنوع من "الوجاهة الاجتماعية"، فضلاً عن أنها نزهة بديلة لنقص النوادي والمتنزهات في مصر، باعتبار أن "النوادي أصبحت للطبقة الراقية".
حين طالع المصريون خبر بيع أحد المطاعم الكبرى بـ300 مليون جنيه (6.02 مليون دولار)، استوقفت قيمة الصفقة كثيرين، لكن نظرة على قائمة الانتظار لدخول المطعم الواقع بأحد الأحياء الشعبية بالقاهرة تكفي لمعرفة لمحة عن اقتصاد قطاع المطاعم الكبرى، الذي تنامى بسرعة في السنوات الـ10 الأخيرة، مدفوعاً بتغييرات اجتماعية عدة طرأت على المصريين.
وعلى مدى أيام تصدر اهتمامات المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات لمدونين عن الطعام "فود بلوغرز" حول تجربتهم لمطعم تركي شهير فتح فرعاً في ضواحي القاهرة، وحظي بإقبال كبير على رغم الأسعار الباهظة لأطباقه.
تجمعات عائلية لكن في المطاعم
هؤلاء "الفود بلوغرز" يعتبرهم هاني محمد، الأب لثلاثة أطفال، هاجسه الأكبر، فأطفاله الذين أكبرهم في بدايات المراهقة يتابعون الفيديوهات التي ينشرونها عن جديد المطاعم، وما تقدمه من "اختراعات" تجذب قطاعات واسعة من المستهلكين، مما يضطره إلى تخصيص يوم أسبوعياً لتجربة أحد تلك المطاعم، وهو ما يعد مكلفاً بالنسبة إليه كموظف في أحد البنوك الحكومية، إذ لا تقل "صينية" من المشاوي بأحد مطاعم حي الشيخ زايد عن 2000 جنيه (40 دولاراً أميركياً)، فيما يلجأ في أحيان أخرى إلى طلب تلك الوجبات في منزله، ليوفر نسبة الخدمة في المطعم واستهلاك بنزين السيارة.
كذلك اجتمعت داليا إبراهيم مع عائلتها بمناسبة عودتها في إجازة من إحدى دول الخليج، بأحد المطاعم الكبرى في طريق "وصلة دهشور" في مدينة 6 أكتوبر، بعدما كانت تنتظر أن يكون التجمع العائلي في بيت أحد كبار العائلة، لكنها وجدت أن هناك شبه إجماع على الاجتماع في مطعم ما لتجربته، وهو الأمر الذي لا ترفضه، لكنها تقارن بما كان عليه الحال في طفولتها قبل 20 عاماً، حين لم يكن للمطاعم هذا الحجم من الاهتمام، بل كان من النادر أن تجد مطعماً يتكون من طوابق عدة أو يسع مئات الزبائن.
هذا التغير، الذي لوحظ في السنوات الـ10 الأخيرة، له ما يؤكده، إذ بلغ حجم الاستثمار في قطاع المطاعم نحو 110 مليارات جنيه (2.21 مليون دولار)، وفق تصريحات صحافية لأمين صندوق غرفة المنشآت والمطاعم السياحية هشام وهبة، مشيراً إلى أن القطاع الخاص ينفرد بهذا القطاع، الذي تبلغ أصوله الثابتة نحو 21 مليار جنيه (420 ألف دولار)، بينما تقدر القيمة المضافة الصافية له بنحو 46 مليار جنيه (920 ألف دولار). وذكرت شركة "فودكس مصر" للتطبيقات التكنولوجية للمطاعم أنه يوجد نحو 400 ألف منشأة ضمن قطاع المطاعم والكافيهات، وفق أرقام عام 2022.
وكانت وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية رانيا المشاط أعلنت في مؤتمر صحافي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أن قطاع السياحة والمطاعم حقق نمواً 9.9 في المئة خلال الربع الأخير من العام المالي الماضي (أبريل – يونيو 2024)، وهو النمو الذي يؤكد وهبة أنه يعود بالفائدة الاقتصادية على المستهلك من حيث توفير بدائل، وكذلك على سلاسل التوريدات الغذائية، فضلاً عن توفير فرص عمل، لأن أي مطعم جديد "متوسط الحجم" يحتاج إلى 30 موظفاً في الأقل.
كيف أسهم الفود بلوغرز في انتشار ثقافة المطاعم؟
يرى المتخصص الاقتصادي أحمد معطي أن هناك اتجاهاً كبيراً من رجال الأعمال والفنانين ولاعبي الكرة إلى افتتاح مطاعم، مما يعد جزءاً من تنويع للمحفظة الاستثمارية، باعتباره "بيزنساً إضافياً" يجلب الأرباح.
وقال معطي، لـ"اندبندنت عربية"، إن توافر التوصل عبر "الدليفري" وتطبيقات توصيل الطعام شجعا على افتتاح مطاعم جديدة، إضافة إلى انشغال المصريين بساعات العمل الطويلة، فاتجهوا إلى "أكل المطاعم"، فضلاً عن الإقبال من باب "التجربة" أيضاً، مشيراً إلى اهتمام الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة بقطاع الترفيه واعتباره مصدراً للدخل، فقدمت تسهيلات للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.
وكان صندوق "تحيا مصر" أطلق عام 2018 مشروعاً بعنوان "شارع 306"، يخصص أماكن للمشاريع الشبابية القائمة على الأكلات السريعة والمشروبات، واستطاع خلال مرحلته الأولى توفير 15 ألف فرصة عمل مباشرة و30 ألف فرصة عمل غير مباشرة. كما تضمنت مشاريع تطوير الطرق إقامة مناطق للمطاعم يمكن ملاحظتها في أحياء التجمع الخامس والشروق والسادس من أكتوبر.
ولا توجد أرقام رسمية عن حجم تلك المشاريع، لكن تقريراً صادراً عن وزارة الزراعة الأميركية عام 2022 في شأن فروع المطاعم الكبرى الأميركية في مصر يمكن أن يعطي لمحة عن تطور تلك المطاعم، إذ ذكر التقرير أن عدد المطاعم الأميركية كاملة الخدمات في مصر زاد عام 2022 بنسبة 24 في المئة، بعد أن بلغ عددها 3836 فرعاً.
التأثر بمواقع التواصل الاجتماعي وظاهرة "الانفلونسر" و"الفود بلوغرز"، كانت من الأسباب التي شجعت على افتتاح سلاسل المطاعم في مصر، بحسب معطي، لأن مسألة التسويق أصبحت أسهل بالوصول عن طريق "الفود بلوغرز" إلى ملايين على وسائل التواصل الاجتماعي.
ويتفق مع ذلك الطرح الأكاديمي في مجال الاقتصاد كريم العمدة، الذي أشار إلى أن إعلانات المطاعم عبر منصات التواصل أدت إلى رواج "ثقافة المطاعم" في المدن الكبرى في مصر أخيراً، مما شجع كثراً على التوسع في المطاعم، ودخول آخرين لا يملكون خبرة في المجال، لكنهم يرون أرباحه مضمونة بحسب تعبيره.
كما قال العمدة لـ"اندبندنت عربية" إن أحد أسباب رواج "ثقافة المطاعم" هو ميل سلوك المواطن إلى التقليد والمحاكاة بتناول الطعام في مطاعم مرتفعة السعر وتستقبل المشاهير كنوع من "الوجاهة الاجتماعية"، فضلاً عن أنها نزهة بديلة لنقص النوادي والمتنزهات في مصر، باعتبار أن "النوادي أصبحت للطبقة الراقية".
ووصفت دراسة لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات بعنوان "لماذا تزايد الجدل حول ’الفود بلوغرز‘ في الدول العربية؟" التدوين حول الطعام بأنه من "الممارسات الرقمية التي لا يمكن تجاهلها أو التقليل من تأثيرها، بل أصبح رافداً مهماً من روافد الثقافة الشعبية الرقمية التي لها حضورها في السياق المجتمعي"، وتصل صفحات بعض المؤثرين في هذا المجال إلى أكثر من مليون مشترك.
وذكرت مؤلفة الدراسة فاطمة الزهراء عبدالفتاح أن تزايد أعداد "الفود بلوغرز" في مصر والمنطقة العربية مدفوع بنمو النشاطات التجارية للمطاعم والصناعات الغذائية، "التي اتبعت استراتيجيات تسويقية اعتمدت في جانب منها على نشاط مؤثري شبكات التواصل الاجتماعي الذين يقدمون المراجعات حول المطاعم والمقاهي والمنتجات والخدمات الغذائية المختلفة بصورة لا تخلو من الترويج لها، للحصول على عوائد الإعلان والرعاية، وبما أثر في كثير من الأحيان في صدقية هذا النوع من المحتوى".
وأشارت الدراسة إلى استطلاع للرأي أجرته وكالة "ريتش" للتسويق، ومقرها دبي، ونشرت نتائجه في سبتمبر 2024، وأظهر أن ما يقرب من 70 في المئة من متابعي الشبكات الاجتماعية الذين جرى استطلاع آرائهم اختاروا مطاعم بعينها لأنهم رأوا المؤثرين يفعلون الشيء ذاته.
هل أفسدت المطاعم الروابط الاجتماعية؟
لكن ليس كل ما في توسع المطاعم مفيداً، فعلى رغم المكاسب الاقتصادية فإن انتشار "ثقافة المطاعم" يحد من الروابط العائلية، بخاصة بعد زيادة نزعة تفضيل المطاعم على المنزل، بخاصة بين فئة الشباب، بحسب المتخصصة في علم الاجتماع بجامعة عين شمس، التي قالت لـ"اندبندنت عربية" إن الشباب حالياً تحولوا من التجمعات العائلية إلى التجمعات في المطاعم الشهيرة التي حلت محل النوادي والمتنزهات.
كما أضافت أن الاتجاه نحو التفاخر والتباهي يعد أحد العوامل التي تدفع بعضاً منهم لتجربة كل جديد في عالم المطاعم، مهما كان يشكل ضغطاً اقتصادياً عليهم، باعتبار بعض المطاعم تشكل مؤشراً على المقدرة الاقتصادية، مما يجعل بعضاً منهم يحرص على نشر صوره في المطاعم للتفاخر، لافتة إلى أن من سلبيات "ثقافة المطاعم" زيادة النزعة الاستهلاكية لدى فئة الشباب، في ظل تعرضهم المستمر لفيديوهات المؤثرين داخل المطاعم الشهيرة.
مغريات المطاعم لعبت على وتر موجود بالأساس لدى الأسر المصرية، وهو الإنفاق الكبير على الطعام، فحسب بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك، الذي أصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2020، بلغت نسبة إنفاق المصريين على الطعام 31.1 في المئة من إجمالي إنفاقهم السنوي.
وأدى التضخم المتصاعد في السنوات الأخيرة إلى ارتفاع كبير في قيمة الإنفاق على الطعام، إذ توقعت مؤسسة "فيتش سولوشينز" أن تتضاعف القيمة إلى 4 تريليونات جنيه في 2024، مقارنة بنحو تريليوني جنيه أنفقت في 2022، وبلغ معدل التضخم السنوي في أكتوبر الماضي 26.5 في المئة، مدفوعاً بارتفاع أسعار الوقود.
وعلى رغم موجة الغلاء التي يعانيها المصريون في السنوات الأخيرة، لم تتأثر مبيعات المطاعم التي رفعت أسعارها بنسبة 30.8 في المئة في أكتوبر الماضي على أساس سنوي، وفق تقرير للجهاز المركزي للإحصاء. بل إن أعداد فروع المطاعم الكبرى تزداد بنحو 500 مطعم تقريباً في العام، وفق تصريحات أمين صندوق غرفة المنشآت والمطاعم السياحية، الذي أكد أن هناك شريحة في السوق المصرية لديها القدرة الشرائية للإقبال على المطاعم الكبرى، مشيراً إلى وجود نسبة كبيرة من الزبائن من السياح الأجانب أو العرب.
سياحة التذوق
ويرى المتخصص السياحي محمد كارم أن التوسع أخيراً في سلاسل المطاعم الشهيرة جذب السياح من الدول العربية، خصوصاً في شهر رمضان، مشيراً إلى أن مصر أصبحت تهتم أخيراً بما يعرف بـ"سياحة التذوق"، لتضاف إلى أجندتها السياحية بتنظيم مهرجات للأكلات الشعبية، مثل "مهرجان الكشري"، معتبراً أن الاهتمام بسياحة التذوق خصوصاً ومهرجانات الأكل في المدن السياحية يسهم في جذب السياح، فالسياح تجذبهم الأكلات المصرية المتفردة مثل "المحشي والملوخية والكشري".
ولسياحة التذوق مريدوها من المصريين أيضاً، فأحمد ممدوح (34 سنة) تعود على السفر أسبوعياً مع مجموعة من أصدقائه من القاهرة إلى مطاعم في المحافظات المصرية يرشحها "الفود بلوغرز" الذين يتابعونهم.
ويتذكر ممدوح أنه قبل سنوات كان يقصد أحد محال الكبدة في الإسكندرية التي فتحت فروعاً في القاهرة بعدما ذاع صيتها، مشيراً إلى أنه على رغم الكلفة المتزايدة للطعام إلا أنه يجد في تلك الرحلات الأسبوعية تجربة ممتعة، بخاصة مع تنوع الأكلات المصرية التي تشتهر بها بعض المحافظات وأحياناً قرى بعينها، مثل قرية العزيزية التي كان يقصدها ممدوح وأصدقائه لتناول الحواوشي.
و"العزيزية" قرية في محافظة الشرقية شمال القاهرة اشتهرت بأسلوبها الخاص في تقديم الحواوشي، مما جعلها مقصداً لـ"الأكيلة" بخاصة يوم الأربعاء، باعتباره اليوم المخصص للذبح، مما فتح المجال أمام توفير فرص عمل لكثيرين في القرية.