ملخص
روايتان لليابانية يوكو تاوادا بالترجمة الفرنسية تكشفان هويتها السردية المزدوجة الانتماء وهموم العالم الجديد
يتسلل اسم الكاتبة اليابانية يوكو تاوادا بقوة إلى الساحة الأدبية على مستوى العالم، فقد تُرجمت أعمالها إلى ثلاثين لغة وحازت جائزة كلايست في ألمانيا عام 2016، والجائزة الأميركية للكتاب الوطني عام 2018، وهي ضمن الأسماء الأدبية المقترحة لنيل جائزة نوبل.
هذا ما شجع دار "فيردييه" الفرنسية على مواصلة تعريف القراء الفرنسيين بإبداعات هذه الكاتبة المميزة، التي صدرت لها حديثاً روايتان مترجمتان للفرنسية، الأولى بعنوان "الكشافة"، وتمت ترجمتها عن اليابانية بقلم دومينيك بالميه، والثانية بعنوان "الملاك التيبيتي العابر"، وترجمها عن الألمانية برنارد بانون، وعنوانها في اللغة الألمانية "سيلان والملاك الصيني".
روافد متعددة
ولدت يوكو تاوادا في طوكيو عام 1960، درست اللغة الروسية، ثم انتقلت إلى موسكو في التاسعة عشرة من عمرها، ولكن لم يطل بها المقام هناك، فغادرت من جديد كي تحط رحالها في ألمانيا وتستقر في هامبورغ عام 1982، وتتابع دراستها العليا في الأدب الألماني وتكرس نفسها للكتابة في أنواع أدبية، مثل: الرواية والقصة والشعر والمسرحية والمقالة.
تمكنت يوكو بفضل الدراسة والانتقال إلى ألمانيا من الكتابة بطلاقة باللغتين اليابانية والألمانية، وواصلت مشروعها الأدبي بدون التخلي عن أي منهما: اليابانية بكونها لغتها الأم، والألمانية اللغة التي تتقنها منذ أربعين عاماً حين أقامت في برلين.
عندما نتحدث عن الكُتاب الذين يكتبون بلغة غير لغتهم الأم، فإننا نستدعي عدة أسماء في الأدب العالمي منها: فلاديمير نابوكوف، المولود في روسيا والذي كتب بالإنجليزية، وميلان كونديرا، المولود في تشيكوسلوفاكيا، واختار الفرنسية كلغة كتابة، كذلك الكاتب المغربي الطاهر بن جلون، واللبناني أمين معلوف، وكلاهما اختار الفرنسية، و ثمة قائمة طويلة من المبدعين المماثلين على مستوى العالم.
يختار هؤلاء الكُتاب العابرون للحدود، الكتابة بلغة البلد الذي استقروا فيه، بعد أن اضطروا إلى مغادرة بلادهم لأسباب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. لكن بالنسبة إلى يوكو تاوادا، تبدو اللغة الألمانية هي لغة الكتابة المختارة طواعية، لتكوين هوية مستقلة. فهي وجدت في الألمانية محفزاً يُغذي طاقتها الإبداعية، لأن هذه اللغة تتمتع بمنطقها اللغوي الخاص، وطرازها القديم في اللغة والقواعد والمفردات.
تميزت كتابة تاوادا بنوع من الريادة الأسلوبية، في اختيارها أسلوباً إبداعياً متحرراً من قيود الحدود واللغات، مع إبراز سحر اللغة اليابانية بفضل تلاعبها الفطن بالمفردات، بالتوازي مضموناً مع تناول موضوعات خطرة وحساسة مثل: المنفى، الاغتراب النفسي والاجتماعي، الكوارث الطبيعية والتلوث... لذا وصف النقاد كتابتها بتضمنها ما يُمكن وصفه بالعذوبة الجارحة، القادرة على تقديم تقاطعات حادة وغير مألوفة بين الماضي والحاضر، من خلال الرؤية الشخصية لأبطالها والطرق التي يختارونها لعكس أفكارهم ومعاناتهم الحياتية، سواء في اليابان ذات الحدود المغلقة واللغات الأجنبية المنبوذة، أو في مجتمعات أخرى تلهث نحو العولمة بشكل محموم وجنوني.
عن الكشافة
تُشكل تاوادا في كتاباتها شعوراً دائماً بالازدواجية مثل المواجهة بين الانفتاح والانغلاق، الشيخوخة والشباب، المرض والتعافي، الطبيعة البرية ومدينة الديستوبيا... هذا نجده في رواية "الكشافة"، التي تتناول عبرها واقع المجتمع الياباني الحالي، ومن خلال الاعتماد على خيال غني، ترصد الكاتبة التحولات الاجتماعية بين الأجيال.
تدور الأحداث في مدينة طوكيو، وداخل شقة صغيرة على الطراز الياباني يقترح البطل الشاب "مومي" على جده الأكبر "يوشيرو"، الكاتب الذي يزيد عمره عن مائة عام، أن يرسم الجدران باللون الأزرق الفاتح الذي يُشبه زرقة السماء، وأن يرسم عليها السحب والطيور. يُدرك الجد السبب وراء طلب حفيده، ففي الخارج، أصبحت كل ملامح الطبيعة مشوهة. يقول الجد: "الطفل لا يعرف الطبيعة كما عرفناها نحن، لأنه يعيش في يابان المستقبل، التي دمرتها كارثة بيئية".
عبر تقديم تأملات في الطبيعة والمجتمع والأسرة، ترسم الكاتبة صورة مرعبة لليابان الحديثة التي عزلت نفسها عن بقية العالم، هذا البلد الحديث والمتطور يبدو فيه كبار السن أكثر مقاومة من الأطفال، لأن الصغار خضعوا لطفرات جينية غريبة، مما حكم عليهم بالموت باكراً. هذا ينطبق على الحفيد مومي، المصاب بمرض غريب ونادر يجعل جسده يتضاءل باستمرار، فلا يتمكن إلا من تناول السوائل، يمشي بصعوبة، ويشكو من حمى غريبة، لكنه يتحمل كل هذا الألم من دون تذمر. أما عنوان الرواية، فيأتي من حدث اختيار أطفال معينين للسفر خارج اليابان ككشافة. هنا يبدو السفر مثل أمل ضئيل وُعد به مومي من أجل النجاة، لكن هل يصمد صحيّاً حتى يحين موعد السفر؟
تحمل الرواية انعكاساً واضحاً لكل أفكار أدب الديستوبيا. تصف يوكو تاوادا إخفاقات عصرنا، وتلجأ أحيانًا إلى الفكاهة والعبثية. تصور على سبيل المثال، الحاجة المفاجئة لدى السكان في طوكيو للتخلص من أجهزتهم المنزلية، والاستعاضة عنها بأخرى على وجه السرعة، تصور تلك اللهفة للتخلص ثم الشراء بأسلوب عبثي ومضحك في آن واحد.
الملاك الحائر
تجسد روايتها الاخرى "الملاك التيبيتي العابر"، التي تدور أحداثها في برلين خلال انتشار وباء كورونا، ميل الكاتبة إلى وضع نماذج مختلفة من البشر بعضهم مقابل بعض، بقصد التأمل في المواجهات الفكرية الناتجة عن هذا اللقاء، إلى جانب فك الارتباط القسري مع الثقافة المغلقة، ومحاولة اللقاء مع الآخر. وبأسلوبها الفريد في تضفير الحقائق مع الفكاهة والسخرية، تقدم قصة الشاب الأوكراني "باتريك" الذي ولد في برلين، وهو باحث أدبي شاب شغوف بقصائد بول سيلان، ويحفظ قصائد له عن ظهر قلب. يلتقي بــ"ليو " الذي يدعي أنه موظف في المركز الثقافي الصيني، كما أنه حفيد الطبيب الصيني الذي كان محاورا ًكبيراً لسيلان في سنواته الأخيرة في باريس.
يحب باتريك التحدث عن نفسه بضمير الغائب، يسمي نفسه المريض، ولا يعرف هل هو نائمٌ أم مستيقظٌ، هل هو في الخارج أم في الفراش، كما أنه لا يرى جسده إلا من خلال كلمات سيلان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن خلال محادثات موحية ومضحكة ومربكة بين باتريك وليو، تنقل تاوادا القارئ من بول سيلان وكافكا إلى الطب الصيني، من جماعة الكابالا إلى التفكير في الأدب واللغات والترجمة. لنقرأ هذا المقطع من الرواية: "عند كل مفترق طرق، يأسف المريض لعدم امتلاكه نردا، كي يلقيه ويقرر أي اتجاه عليه أن يسلك، هل يذهب في الشارع المستقيم أم يمضي في اتجاه آخر؟ استدار نحو اليسار وسرعان ما وصل إلى المقهى، عند مروره، يلاحظ الزبائن الذين يشربون قهوتهم، يتمعن في وجوههم كما لو أنه يُنقب عن الذهب. يراقب جبين تلك المرأة، يبدو عليها الذكاء، يُصبح تنفس المريض متشنجاً ويتوهج بؤبؤا عينيه. يلمع عقد المرأة الفضي مثل درب التبانة، شفتاها تثرثران بلا كلل. تجلس أمامها امرأة أخرى بتصفيفة الشعر نفسها. وفجأة يصمت فم المرأة. يا لها من روعة، هذه اللحظة التي يسودها الصمت وتنفرج الشفتان واحدة عن الاخرى، لكن بدون صوت، كأنها تقبل المريض. القبلة لن تحدث هذه المرة، لأن السيناريو لم يُكتب بعد. لا يستطيع المريض الكتابة لأنه يجد الكلمات المعتادة قبيحة؛ مثلا يرى أن طعم عبارة "إعطاء قبلة" يشبه سلطة الخيار، لذا يمكننا الاستعانة بعبارة أخرى مثل: "ملذات الليل اللغوية"، ولكن بعد ذلك سيكون هذا بمثابة سرقة أدبية".
تسافر يوكو حول العالم استجابةً للدعوات إلى جميع أنواع الأحداث، بما في ذلك القراءات والمؤتمرات. أصدرت ثلاثين كتاباً باللغتين اليابانية والألمانية في الشعر والرواية والمسرح والمقالة، وهي غير مؤمنة بوجود الحدود بين الأجناس الأدبية؛ فالقصيدة ممكن أن تتحول إلى رواية، والفكرة النقدية تنطلق من مراقبة الذات أو من مشهد في مسرحية. تُعلق تاوادا قائلة: "لم أكتب قصة حول ما يمكن أن يحدث في المستقبل في الحقيقة إذا نظرنا بعناية، فإن الكثير من الأشياء، موجودة بالفعل اليوم".
لعل قارئ رواياتها يلاحظ تمسكها بالمساحة السردية الغامضة التي تنمو بين الكلمات ومعناها، بحيث يتسلل المعنى كالرمال من بين الأصابع؛ في شكل لا يمكن إيقافه. إنها تعمد إلى تقديم محاورات مستمرة بين الذات والعالم، ضمن دلالات مشفرة ومتعددة الثقافات، كما لو أن مسؤوليتها ككاتبة هي الابتعاد عن مجتمع ثنائي الأبعاد، من أجل تشكيل معايير أخرى توائم بين الغرابة الفردية والتحولات الاجتماعية.