Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مهرجان التقطير في الجزائر... أزهار جديدة وعطر قديم

ليست مجرد مهنة بل تراثاً ثقافياً تقام له طقوس خاصة مستمدة من تقاليد عريقة

أقيمت طبعة 2023 لعيد التقطير في مقر دار الثقافة بمحافظة قسنطينة ضمن معرض للصناعات التقليدية (مواقع التواصل)

ملخص

الآن تنتشر المعارض في الهواء الطلق لبيع الماء المقطر المستخلص من مختلف الزهور والورود ونباتات النعناع واللافندر، فماذا نعرف عن مهرجان التقطير بالجزائر؟ 

تفوح مدينة قسنطينة الجزائرية في موسم الربيع من كل عام بعبير الزهور في عيد التقطير الذي أصبح تقليداً راسخاً وموروثاً شعبياً تناقلته الأجيال في تركيبات سرية عززتها الابتكارات الحديثة.

وتقطير الورد في قسنطينة ليس مجرد عملية صناعية، بل تراثاً ثقافياً تقام له طقوس خاصة مستمدة من تقاليد عريقة، أهمها مهرجان تقطير الورد والزهر الذي يتم تنظيمه في شهر مايو (أيار) من كل عام عبر كرنفال احتفالي كبير.

وأقيمت طبعة 2023 لعيد التقطير في مقر دار الثقافة بمحافظة قسنطينة ضمن معرض للصناعات التقليدية كالنحاس وصنع الحلويات، وتم إبراز مراحل وكيفية تقطير الورود بالطريقة التقليدية التي تضمن الحصول على أجود أنواع ماء الورد.

وتفتتح مدينة قسنطينة موسم التقطير رسمياً من قبل وزارة الثقافة، بحيث تنتشر المعارض في الهواء الطلق لبيع الماء المقطر المستخلص من نباتات النعناع واللافندر والعطرشة، فضلاً عن مختلف أنواع الزهور والورود، بخاصة في وسط المدينة على طول الرصيف المحاذي للحديقة العمومية، إضافة إلى بيع المشاتل والورد الصالح للتقطير، وأيضاً الأواني المستعملة في العملية.

واستخدام ماء الزهر المقطر من العادات الشعبية السائدة في الجزائر، بخاصة في مدن مثل قسنطينة والجزائر العاصمة وميلة والبليدة وتلمسان، وتستهلكه كثير من العائلات كوسيلة لتعزيز مذاق الحلويات التقليدية مثل البقلاوة والمقروط، كما يستخدم في تزيين مجالس القهوة والشاي عند استقبال الضيوف أو في الأعراس.

وصفات سرية

تقطير الورد هو عملية استخلاص الزيت العطري الثمين من زهور الورد ويعتبر من أقدم وأكثر الطرق شهرة لاستخلاص زيت الورد، وتتم العملية بعناية فائقة مع الحفاظ على سريتها وفقاً للتقاليد القديمة والمهارات المتوارثة وحفاظاً على التركيبة الأصلية للعملية.

يبدأ التحضير لممارسة حرفة التقطير مع حلول الربيع، وينطلق قطف الأزهار مطلع مارس (آذار) ويستمر إلى نهاية مايو (أيار)، ثم يشرع في التقطير الذي لم تتغير طريقته بمرور الأعوام، وبقدر ما تبدو التقنية التقليدية في تقطير الأزهار والورد معقدة فإنها بسيطة في الوقت ذاته.

وتبدأ العملية بجمع زهور الورد الطازجة في فترة معينة من السنة، عادة في فصل الربيع عندما تكون الزهور في أزهى حالاتها، بحيث تقطف يدوياً بعناية وبحرص شديد للحفاظ على جودتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعد جمع الزهور يتم وضعها في أباريق خاصة مملوءة بالماء المقطر، إذ يجري تسخين الأباريق على نار هادئة لساعات معدودة، ثم تتم عملية استخلاص الزيت العطري للورد تدريجاً بفعل الحرارة المنخفضة التي تسمح للعطر الفريد للورد بالتحرر والتراكم في البخار.

وبمجرد استكمال عملية التقطير، يجمع البخار ويجمد لتحويله إلى سائل، وهذا السائل هو زيت الورد العطري الثمين الذي تتم تصفيته لإزالة أية شوائب ربما تكون موجودة.

وتمر عملية التقطير بمراحل عدة وتحتاج إلى بعض المكونات الأساسية كـ"القطار"، أي إناء التقطير، وهو عبارة عن قدر من النحاس الثقيل، مكون من جزءين منفصلين عن بعضهما بعضاً، ويوضع أحدهما فوق الآخر على النار، وبعد وضع كمية من الماء في وعائه الداخلي بقدر الثلث تضاف كمية الزهر المراد استخلاصها ويغلق بإحكام، ثم يملأ الإناء الخارجي بالماء ويوضع فوق نار هادئة. والأمر الذي يجب التركيز عليه هو تجديد ماء الإناء الخارجي كلما سخن بماء بارد حتى نبلغ أقصى حد للتبخر، بالتالي استخلاص أكبر كمية من ماء الورد.

وبحسب الحرفيين، تتطلب عملية التقطير صبراً كبيراً لأن الكمية المستخلصة تكون قليلة وتستغرق وقتاً طويلاً، وتسمى أول كمية لتفريغ ماء الزهر بـ"رأس القطار"، وهي مفيدة جداً ومركزة، وثمنها يكون أغلى بكثير من الكميات المتتالية الأخرى، وعادة ما يتم الاحتفاظ بها للاستعمال في المناسبات العائلية الخاصة ولإعداد حلويات الأعراس والأعياد.

ويتجاوز سعر قارورة ماء الورد التقليدي سعة لتر ونصف اللتر تسعة دولارات، فيما تباع قارورة الزهر البلاستيكية بأقل من 2.5 دولار.

ولا تقتصر هذه الحرفة على محافظة قسنطينة فقط، بل تشتهر بها أيضاً مدن جزائرية عدة على غرار تلمسان وعنابة وميلة والبليدة التي تعرف بمدينة الورود، وحتى القصبة الجزائرية، إذ لا تزال عائلات تحافظ على هذا التقليد.

روايات وطقوس

وتختلف الروايات والقصص عن أصول التقطير، فيتحدث سكان مدينة قسنطينة الأصليين عن أن بدايات هذه العادة الربيعية أندلسية وانتشرت في بلاد المغرب مع دخول الأندلسيين، بينما تقول رواية أخرى أن أول شجرة ورد زرعت بقسنطينة قدمت كهدية من طرف صيني لعائلة قسنطينية من أصول عثمانية، تحديداً عام 1620 ميلادية، وزرعت في منطقة حامة بوزيان، أشهر منطقة تنتج زهور الورد والتي تعتبر المصدر الرئيس لجميع الحرفيين العاملين على حرفة التقطير واستخراج عطور وزيوت طبية طبيعية، بحيث أصبحت العملية عادة متوارثة عن الأجداد وتقليداً مباركاً يقام بمناسبة حلول فصل الربيع.

وتقول إحدى الحرفيات المتخصصة في التقطير وصناعة الحلويات التقليدية إن التقطير يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعادات العائلة القسنطينية التي تقوم بتقطير الورد والزهر لاستعماله في صناعة الحلويات القسنطينية على غرار البقلاوة وطمينة اللوز والقطايف وشباح الصفرة، فضلاً عن حلوى طمينة البيضاء التي لا بد من صناعتها قبل الانطلاق في عملية التقطير.

وتؤكد أن قارورات مياه التقطير لا بد من أن تغلق بإحكام وتوضع بعيداً من الضوء حتى لا تتغير تركيبتها ولونها الطبيعي، مشيرة إلى أن تقليد التقطير منتشر في المدينة ويستعمل أيضاً في أمور استشفائية عدة، إذ يتم حالياً تقطير الأعشاب العطرية مثل عشبة النعناع والزعتر وغيرها من الأعشاب العطرية الطبية، فتلجأ عائلات عدة إلى التداوي بالماء المقطر من أزهار أشجار الحمضيات، بخاصة النارنج أو البرتقال المر الذي تشتهر به منطقة الحامة بوزيان، وكذلك المقطر من أزهار الورد، بخاصة ذات اللون الوردي، بحيث يتم وضع ماء الورد داخل العين لعلاج بعض الالتهابات التي تصيب المقلة على غرار مرض الرمد، كما يستعمل ماء الزهر في خفض حرارة الجسم خلال الإصابات الجرثومية ونزلات البرد وحتى لفحات الشمس، إضافة إلى استعمالات في مجال التجميل وتنظيف البشرة.

ولا تخلو عملية التقطير من طقوس وعادات متوارثة مثل تغطية أوراق الورد والزهر بعد جمعها من الأشجار بقماش أبيض لمنع الحسد والعين، أو صنع الحلويات التقليدية من أولى قطرات ماء الزهور التي يتم استخلاصها مثل حلوى الطمينة البيضاء المصنوعة من السميد والزبدة والعسل.

كذلك من بين العادات يعطر المنزل بمستخلص ماء الزهور المعروف محلياً باسم "رأس القطار" ويوضع في مختلف أركان البيت، ويستخدم البخور والعنبر، إلى جانب إشعال الشموع ووضع كمية من السكر على حواف الموقد الذي تتم عليه عملية التقطير باعتباره "فأل خير".

خطر داهم

يؤكد محمد حرزلي، أحد الحرفيين المنضمين إلى جمعية "كنوز" الثقافية أن هذا النشاط الذي كان في الماضي يكتسي طابعاً تجارياً مهدد بالاندثار بسبب صعوبة الحصول على مختلف أنواع الورود والزهور.

وقال حرزلي الذي يمتهن هذه الحرفة برفقة زوجته في تصريح إلى وكالة الأنباء الجزائرية إن بريقها (الحرفة) خف مع مرور الزمن بسبب عزوف الشباب عن تعلمها من جهة، ونقص المواد الأولية من جهة أخرى.

وأشار إلى أن الشوارع والبساتين كانت في الماضي لا تخلو من مختلف أنواع الورود والزهور على غرار الياسمين، لكنها اختفت بشكل شبه كلي، مما أثر في صناعة ماء الياسمين المقطر الذي يعد من أكثر الأنواع رواجاً.

وأضاف أن أنواعاً أخرى من الزهور اختفت كانت تستخدم في صناعة ماء الورد أو الزهر المقطر على غرار البنفسج والورود التي أصبح من الصعب جمع كميات كافية منها.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات