في الرواية الجديدة الصادرة عن دار الساقي لهذا العام (2019) ذات العنوان "ملك الهند" يذهب الكاتب اللبناني جبور الدويهي بنا إلى مغامرة جديدة، مستوحاة تخريجاتها من الحروب الأهلية والعائلية التي لا يزال لهيبها حارقاً، من دون نيرانها التي لا تلبث أن تستعر فتأكل الأخضر واليابس. غبّ الطلب في الرواية السابقة، "طُبع في بيروت"، والتي تُرجمت إلى الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، كان الروائي الدويهي قد بدّل في استراتيجياته السردية، فجعل شخصيته الرئيسية، حتى لا نقول البطل- لأن لا بطل في رواياته إنما بطل سلبي عرضة للموت والانسحاق تحت عجلات التخلّف والعنف وقسوة الأهل- فريد أبو شعر، الشاعر والضليع بلغة الضاد، يحيا ظروفاً ضاغطة، حملته على المقامرة بنزاهته وحياته المهنية، وهو المدقق اللغوي لدى دار نشر عريقة، في بيروت، من أوائل القرن العشرين؛ إذ تعلّق قلبه بزوجة صاحب الدار، "الكرم"، التي رضيت، وحدها، من أصل عشرين داراً، أن تنشر له مخطوطته الشعرية وأن تكون له، عشقاً وجسداً، في مقابل تحصيله أموالاً، بالعملة المزوّرة، اليورو، لصالح الدار المشرفة على الإفلاس، ما أفضى به إلى السجن، سنوات أربعاً. أما الدار فأصابها الحريق، واستكملت دائرة انهيارها المدوّي، بعد عزّ ونهضة داما قرناً أو ثلاثة أرباعه بلوغاً إلى حضيض الزمن الحاضر. أما رواية "ملك الهند" فترسم مساراً جديداً للعالم الروائي الذي كان جبور الدويهي دأب على بنائه وإعلاء مداميكه على نحو جديد، وإن يكن أصله أونوعه معروفاً في التراث الروائي الغربي، عنيتُ الرواية البوليسية أو ذات الملامح البوليسية الخاصة من منبت العالم الدويهي الذي نأتي على تفصيله لاحقاً.
البطل السلبي
يبدّل الدويهي، في روايته الأخيرة، الصادرة عن دار الساقي ـ في 191 صفحة من مسار الرواية السردي؛ فلا يكاد يعرّف بالشخصية الرئيسية، التي يمكن وصفها بالبطل السلبي ويعرّف بوضعيته في زمن السرد عنيت زكريا ابن إبراهيم مبارك ابن قرية من أعمال جبل لبنان، الشوف أغلب الظن تدعى تل صفرا حتى يعلن عن موته قتلاً، في المشهد الثاني من الرواية من دون أن يُعرف قاتله، على الرغم من أن الوقائع التي أوردها الراوي العليم، ترجّح أن يكون مقتله ناجماً إما عن ثأر عتيق بين عائلة المغدور وعائلة من الدروز بسبب خلاف على حق المرور إلى قطعة أرض المحمودية، وإما بين عائلة المغدور وأبناء عمه ممن حُرموا من ميراث جدّتهم فيلومينا. وكانوا لطالما توعّدوا عائلة المغدور بالانتقام، وكانوا متمرّسين بكلّ أعمال العنف ولهم باع طويلة في الحرب الأهلية. وبعد أن يشكّل المشهد الأول من الرواية مدخلاً للتعرف إلى الشخصية الرئيسية التي سبق لي توصيفها وقد عاد من غربته مهيض الجناح، وإن يكن من سلالة المهاجرين اللبنانيين الذين يصفهم الروائي بإيجاز باهر دالاً على نبوغهم وبراعتهم وصبرهم على المخاطر لأجل المال و "العادات الغريبة التي يأتون بها من تلك البلاد ملطوشين بلطشة البحر"، على ما قال الراوي. ومن ثمّ يروح كلا الراوي وقاضي التحقيق المساعد في جبل لبنان كمال أبو خالد ينوب أحدهما عن الآخر في سرد تفاصيل عن حياة المغدور وسيرته الماضية؛ فتنكشف عن رحيله شاباً من البلاد، في عزّ الاجتياح الإسرائيلي، وحلوله في باريس وعمله مديراً لمطعم لو سيدر دو ليبان وتعلّق زوجة صاحب المطعم، الملقّب بالأبرص، به، ومن ثمّ انتقاله إلى فندق دوار الشمس مديراً وعاشقاً صاحبة الفندق ماتيلد لاغرانج.
وتظل علاقة زكريا بماتيلد هذه سارية لمدة أربع سنوات متتالية، إلا أن مرض السرطان الذي أصابها دفعها إلى إطلاق يد زكريا ودفعه بعيداً عنها، وقد أودعته هدية العمر، وهي كناية عن لوحة للرسام الشهير مارك شاغال بعنوان عازف الكمان والتي سوف تكون مثار اشتباه في كونها دافعاً إلى الجريمة، يضاف إلى الدافعين المحلّيين اللذين يمضي القاضي أبو خالد في التوسّع بهما، عنيتُ انتقام أبناء عمّ المغدور يونس، من اعتبروا أنفسهم محرومين من ميراث جدّتهم فيلومينا، والذين ما برحوا يرسلون التهديدات لابنة عمّهم مرتا، ويوصلونها إلكترونياً لابن عمهم زكريا. أما الدافع الثاني فهو الثأر الغافي والمتجدد كلّما سنحت له الظروف في ذرّ قرونه والذي يتوارثه أبناء القرية الدروز من جيرانهم الموارنة، بسبب حيازة الأخيرين قطعة أرض المحمودية من أصحابها الدروز بالحيلة والمال الذي أتت به فلومينا، وما ألحقه الخلاف على حقّ المرور إلى الأرض المحصورة من أذى لأحد الجيران الدروز. وقد تسبب طلق ناري من مسدسه كان إبراهيم، والد زكريا، قد سارع إلى انتزاعه منه، في بتر ساقه وموته بعد سبع سنوات.
شخصيات نخبوية
منَ الجليّ أنّ الروائي جبور الدويهي يتابع بناء عالمه السرديّ المتّسع أبداً، والمتشعّب والمنغرس في أرض الواقع، من دون أن يتنازل عن ثوابته التي عهدناها لديه، من حيث تركيب الشخصيات ومسرح الأحداث؛ فما نعرفه عن الشخصيات الرئيسية في روايات الدويهي أنها نخبوية، أو تنأى عن النموذج العمومي وتتّسم بسمات التفكير والاستئناس بالكتب والإعجاب بالأعمال الفنية، نظير ما هو عليه زكريا
مبارك البطل السلبي، والذي أسهب الراوي في تعيين نسبه وتربيته - إذ كانت جدّته متحررة وأمه إميلي بروتستانتية ذات ميول فكرية منفتحة - وخُلقه النازع إلى الفردية والمزاجية بل الثورية أحياناً والذي أفضى به إلى الاختناق وسط بيئة محلية آيلة إلى الانحلال والموت. ولعلّ مصير زكريا، عنيت موت
ابنته الوحيدة ماري، من علاقته الغرامية السوية مع امرأة أميركية تدعى جاين، على يد أحد الموتورين ذوي الأسلحة النارية المتفلّتة، ثم مقتله هو على يد أحد المجهولين المفترضين ممن يضمرون ثأراً مقيماً بين الضلوع، هما استتباع لمصير قرية تلّ صفرا والمحمودية، اللتين حلّت فيهما لعنات الطبيعة والعصبية حيناً بعد آخر. ثمّ ألا يُحتمل أن تكون هذه المصائر جميعها دالّة على صورة قاتمة للبلاد يضع لها الكاتب لمساته الأخيرة عليها؟
لكنّ الكلام على حبكة الرواية وحدها لا يكاد يفيها حقها؛ فهي وإن كانت تصنّف بوليسية، من حيث حكايتها وطبيعة الأحداث التي توالت على الإطار المكاني، بل المسرح المكاني المتنقل بين جبل لبنان أواسط القرن التاسع عشر، وأوائل القرن الواحد والعشرين، وبين فرنسا والولايات المتحدة في الحقبة الزمنية عينها، فإنها ذات مضامين أنتربولوجية ونفسية وسياسية لا يسع القارئ الدّرب الإغفال عنها أو اعتبارها من الأمور النافلة التي تزيد من رونق أسلوب الكاتب الدويهي ولا تضفي دلالات مزيدة على معالجته أصول العدوانية لدى البشر.
ليس هذا فحسب، إذ يحتاج القارئ المتعاون، على ما استنبطه أومبرتو إيكو، إلى دراية مضاعفة حتى يقوى على متابعة الروائي في نسج الروابط بين شخصياته النموذجية، في موجات استعادية أو "فلاش - باكية" الغاية منها إثبات وجهة نظره الخفية والتي مفادها أنّ مصائر الأفراد يصنعها تاريخ جماعاتهم لا إراداتهم، وأنّ العدوانية الجماعية تذوّب في طيّاتها كلّ الأعذار والدواعي إلى الفعل الإجرامي.
"خطّ الزلازل الذي يقال إنّ تلّ صفرا جالسةٌ فوقه وأنّ المعبدَ الرومانيّ فيها لم يندثرْ بفعل مرور الزمن، بل دمّرته هزّة أرضية ربما تكون هي نفسها التي خرّبت مدينة بيروت. وسيكمل قائلاً إنّ زكريا مبارك وُجد مقتولاً عند تقاطع خطِر اختلطت فيه خرافات الذهب وحروبُ الأشقّاء مع حبّ النساء الفرنسيات، ووعد الثروة الزائف، إلى عداوة تختفي وتستيقظ منذ قرن ونصف وصولاً إلى مأساة انتقلت من ساراتوغا سبرينغز إلى تلّ صفرا...". (ص:188)