ملخص
غاب عن دوائر قوى الحرية والتغيير المنزلق الخطر الذي تقودهم إليهم لوثة عدائهم لـ"الكيزان" فهم بهذه اللوثة في غفلة عن "الدعم السريع" التي تطلب الحكم الآن بغير هوادة.
من بين أشد الوجوه نكراً لاعتقال الإسلاميين أنس عمر القيادي بـ"المؤتمر الوطني"، والجزولي محمد علي رئيس حزب "دولة القانون"، بواسطة قوات "الدعم السريع"، الأسبوع الماضي، هو مباركة نفر كثير من خصومهم في قوى الحرية والتغيير (قحت) لهذا التقييد الجزافي لحريتهما. ولو أرادت "الدعم السريع" اعتقالاً لإسلاميين لا جناية عليه منهم، أو بواكٍ عليهم، لما انتخب سوى أنس والجزولي. فكلاهما مبغوض في دوائر "قحت" التي تتمنى فيهم يوماً كهذا. ووجدت هذه الدوائر في اعترافات المعتقلين بدورهما والحركة الإسلامية، غض النظر عن طرائق حصول "الدعم السريع" على هذه الاعترافات من أهلها، في إشعال الحرب تأكيداً لعقيدتها أن الإسلاميين قاب قوسين من استعادة مملكتهم.
وتصادف أن كان لأنس والجزولي قبل اعتقالهما تسجيلات عن شكيمة الحركة الإسلامية وعزائمها خلال هذه الحرب. فقرأ خصومهما اعترافاتهما وهم في قبضة "الدعم السريع" على خلفية تلك التسجيلات ليستعجبوا للمفارقة بين العزة بالموقف والنفس فيها وانكسارهما في الاعترافات. فجاء على لسان أنس في التسجيل أن على كل أحد أن يعرف منزلته فليس هناك من هو أكبر من الحركة الإسلامية، أو أعرف منها، أو أرجل منها قط. فليس في الساحة، في تأكيد لقوله، من هو أرجل منها.
ولم يتزحزح أنس في الفيديو الذي أذاعته "الدعم السريع" باعترافاته عن المعاني التي جاءت في تسجيلاته، وهو حر. فجاء إلى الفيديو بزي عسكري لم يعرف عنه ارتداؤه. ويبدو أن معتقليه أرادوا الإيحاء بأنه أسير معركة حربية خلافاً لقول أسرته عن اعتقاله من بيته. وعرف نفسه بأنه لواء أمن (معاش) جاهد في الجنوب ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان. وقال إنه كان طرفاً في تعبئة الحركة الإسلامية لإسقاط الحكومات الانتقالية والاتفاق الإطاري الذي وقعته "قحت" مع الجيش و"الدعم السريع" في 5 ديسمبر 2022 معتزلين الإسلاميين وغيرهم. ولم يأتِ أنس بدور صريح للإسلاميين في إشعال الحرب، لكنه قال إنهم كثفوا تعبئتهم ضد الاتفاق الإطاري في رمضان بتنسيق مع قادة في الجيش هم بالاسم الفريق ركن عبد الفتاح البرهان والفريق ركن شمس الدين الكباشي والفريق ركن ياسر العطا واللواء ميرغني إدريس. وحدد الأخيرين في قوله ساعة الصفر بغير قول صريح منه إنها ساعة الصفر للحرب، لكن الدلالة قوية أن تلك الساعة كانت ساعة بدء الحرب. وفيها تحميل للإسلاميين وزر الحرب كما تريد "الدعم السريع"، وتشتهي "قحت".
أما الجزولي فوقف في التسجيل قبل اعتقاله مع القوات المسلحة بحماسته المعروفة. وقال إن معركتها والشعب ضد "الدعم السريع" لن تأخذ ساعات، وأنهم لن يسمحوا ليقع على السودان ما وقع على سوريا وليبيا واليمن. وهتف: "لن يحكمنا الحوثيون الجدد". وزاد بأن التدابير قائمة على قدم وساق لاعتقال "الشقيقين الشقيين" محمد حمدان دقلو وعبدالرحيم حمدان دقلو.
ولم يتخل الجزولي عن حماسته التي عرف بها حتى وهو يدلي باعترافات في براثن "الدعم السريع". فقدم نفسه في فيديو الاعتراف بأنه عضو بـ"داعش" منذ زعيمها البغدادي، وحتى الآن. وقال إنه سعى مع سائر الإسلاميين لإسقاط الاتفاق الإطاري، وإنهم تواصلوا مع الفريق ركن البرهان بواسطة اللواء حسن بلال.
وتداعى الإسلاميون حين توتر الموقف يوم الأربعاء 12 أبريل (نيسان) بحشد "الدعم السريع" لقواتها في مدينة مروي. وقال لهم أمين عام الحركة الإسلامية علي كرتي إنهم في أتون احتقان لا بد له أن ينفجر طالما أعلن الجيش "الدعم السريع" قوة متمردة. وحدد السبت (15 أبريل) ساعة الصفر لهذا التفجير، أي الحرب. وبالفعل هاجمت مجموعات من الجيش وكتائب الإسلاميين التي يقودها أنس عمر، معسكر "الدعم السريع" بالمدينة الرياضية جنوب مدينة الخرطوم. وقال إنه كان من وراء ذلك المخطط كل من علي كرتي وأسامة عبدالله الوزير بدولة الإنقاذ والقيادي بـ"المؤتمر الوطني". وهكذا، حمل الجزولي الإسلاميين وزر بدء الحرب بالطلقة الأولى التي صوبوها نحو معسكر الدعم السريع. وبالحماسة نفسها بكى الجزولي في اعترافاته واستبكي الإسلاميين والجميع إلى كلمة، سواء قبل خراب الوطن بالحرب.
لسنا نطلب من أنس والجزولي فوق طاقتهما لو كانت اعترافاتهما تحت الاعتقال ابتعدت عن مثل ذكر أسماء وأدوار في التعبئة للحرب ربما صلحت من دونها، لكن المغيب كالغائب عذره معه. فلا نشك لحظة أن ما خضعا له تحت الاعتقال مما يشيب له الولدان. فكانت "الدعم السريع" في حاجة إلى دليل دامغ على أن الجيش ليس هو البادئ بالحرب فحسب، بل إنه بادر بها أيضاً بدسيسة من الإسلاميين. وليس مثل هذا الدمغ دمغاً لأنه يأتي خالصاً من فم الحصان، كما يقول أهل الإنجليزية. ولن يقف دون "الدعم السريع" والحصول على مثل هذا الدليل خلق مهني. ولم تطلب "الدعم السريع" الدليل على أن الجيش هو من أطلق الطلقة في الحرب بتحريض من الإسلاميين لنفسه خاصة، فقد سبقته دوائر مؤثرة في "قحت" إلى تحميل الإسلاميين وزر إشعال الحرب بجيش غلبوا فيه. وتريد "الدعم السريع" بهذا الدليل من فم الإسلاميين لـ"قحت" أن تطمئن على قناعتها بوزرهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومهما قلنا عن اضطرار أنس والجزولي إلى اعترافات فرطا فيها نوعاً ما، إلا أن شماتة دوائر مؤثرة من "قحت" فيهما باب في اللؤم وفساد الرأي كبير. فسموا اعتقالهما بواسطة "الدعم السريع" (صيد الأرانب) الذي لن يقتصر عليهما، بل سيشمل الإسلاميين كابراً عن كابر. فنادى منادٍ منهم حين سمع باعتقال أنس "الحمد لله يا رب باقي الكيزان"، وسموا الاعترافات "كب رز"، وهي عبارة عن اندلاق خفايا الرجل اندلاقاً. فقالوا إن الإسلاميين تجرسوا ولم يصمدوا صمود بلال بن رباح "أحد أحد". وعادت هذه الدوائر بالإسلاميين إلى ممارساتهم في التعذيب بما عرف بـ"بيوت الأشباح" خلال دولتهم. وقالوا لهم ذوقوا ما كنتم تذيقونه خصومكم وأنتم في سدة الحكم. وبلغ هؤلاء بشماتتهم حد الهذر الخطر. فقال أحدهم إن مفتي الإسلاميين أفتى لهم بارتداء النقاب للهرب خارج الخرطوم. وعلق: "صرتم نسوان مرة واحدة" في ذكورية قد يستنكرها نفس الزول في موضع آخر. واستباحت هذه الدوائر الإسلاميين لـ"الدعم السريع" تفعل بهم ما شاءت متى شاءت. فحيا أحدهم "شفع الجنجويد" الذين مرغوا بأنفهم في التراب.
وبلغت استباحة الإسلاميين لـ"الدعم السريع" حدود العبث. فأنس، بقول الصحافية صباح محمد الحسن، ضحية الإسلاميين قبل أن يكون ضحية "الدعم السريع"، فهو ضحية صراع بين أجنحة إسلامية. فقرأت بياناً للمؤتمر الوطني قالت به إنه جانح للسلم في وجه تيارات أخرى من دعاة الحرب. ورأت في هذا الصراع بين دعاة السلام ودعاة الحرب في الجيش مصداقاً لقول حميدتي من أول يوم في الحرب، وهو أن معركته مع بعض الإسلاميين وليس جميعهم. وزادت بأن من قبض أنس وسلمه لـ"الدعم السريع" حرم الأخير من تصوير مشهد اعتقاله لعرضه على العالمين في حملته لصيد الأرانب.
يستغرب المرء كيف يسوغ دعاة للديمقراطية والمدنية في "قحت" هذا التعدي على حرية مواطنين لم توجه لأي منهما تهمة سبقت اعتقاله، أو حتى بعد اعتقاله. ويزداد الأمر غرابة أن تجيز هذه الدوائر الاعتقال لميليشيات لا مكان لها في إعراب الدولة، ولا تفويض لها من قانون للحجر على حرية مواطن، واصطناع تهم له، لا لأنها شرعية، بل لغرض الترويج لعقيدة "الدعم السريع" في أن الجيش هو الذي اعتدي عليه في هذه الحرب، وأن الإسلاميين من دفعه دفعاً لها، بل وتزداد الغرابة أن تستبيح هذه الدوائر من "قحت" حرمة الجسد لـ"الدعم السريع"، الذي شق شباب ثورة ديسمبر 2018 حلوقهم هتافاً لتصفيته لأنه ليست من "ميليشيات بتبني دولة".
بدا لي أن خصومة دوائر من "قحت" للإسلاميين "الكيزان" تتخذ الآن شكل لوثة عداء حتى قال قائلهم في المدح بما يشبه الذم إن "الكوزنة" موهبة مثل الشعر والرسم والتلحين ليست بوسع كل أحد. وامتنع على هذه الدوائر جراء هذه اللوثة أن تنفذ إلى تحليل واقعي لهذه الحرب. فجعلت منتهى همها "الكيزان". فحملتهم جريرة الحرب التي يريدون بها استعادة حكمهم الذي لم يلقوا منه الأمرين فحسب، بل أسقطوه بكلفة عالية أيضاً. وصار "قحت"، أرادت أو لم ترد، في حلف مع "الدعم السريع". وأحسنت "الدعم السريع" الاستثمار في هذه اللوثة. ومن خرائد هذا الاستثمار اعتقال أنس والجزولي وانتزاع الاعترافات منهم بدور "الكيزان" في إشعال الحرب وتخريب الفترة الانتقالية.
وغاب عن هذه الدوائر المنزلق الخطر الذي تقودهم إليهم لوثة عدائهم لـ"الكيزان". فهم بهذه اللوثة في غفلة عن "الدعم السريع" التي تطلب الحكم الآن بغير هوادة وقد تنالها في واحد من مخرجات هذه الحرب، في حين أن طلب "الكيزان" الحكم دونه خرط القتاد. فهم قوة أفرغتها ثلاثة عقود من الحكم والثورة عليها من أي طاقة ولو رديفة في الحكم. وقال عادل عبدالعاطي من هذه الدوائر في هذا المعنى إن الإسلاميين صاروا "مجرد حلاقيم كبيرة بلا قوة". وبدا أن "قحت" وحدها التي لم تقتنع بعد أنها هي التي استكملت بثورتها إفراغ الإسلاميين من أي مروءة لحكم لاحق إلا ضجيجاً طلباً للثأر يغطون به حرج نكسة مشروعهم.
إذا استباحت دوائر من "قحت" الإسلاميين لـ"الدعم السريع" يجازيهم على سيئاتهم بحقها كما رأينا، فلا بد أن هناك شيئاً مرتبكاً جداً في دعوتها للحرية. فبدا أن الديمقراطية عندها لا تزال مطلباً لم تتنزل ثقافة فيها بعد.