تتسارع المشروعات الجديدة لإنتاج عملات مشفرة مرتبطة بالذهب لتعالج أوجه القصور التي لازمت الأصول الرقمية خلال العشرة سنوات الماضية (تذبذب عالٍ وفقاعات مستمرة ومضاربات لا تتوقف) وأيضاً ربما تعيد هذه المشروعات للأذهان حقبة معيار الذهب النقدي، لكن هذه المرة عبر دعم الأصول المشفرة.
معيار الذهب النقدي
لعب الذهب دوراً محورياً في النظام النقدي عبر قرون عدة، إذ يقوم بأدوار النقود كمخزن للقيمة وأداة في التسوية ووحدة قياس، هذه الخصائص مكنت المعدن الأصفر من القيام بأدوار مهمة، فعندما تطورت اقتصادات الدول وتراكمت صادراتها ونمت تجارتها الخارجية قامت بإصدار عملات ورقية مع دعمها بغطاء من الذهب لتعطيها قيمة هذا المعدن الثمين وظهر نظام معيار الذهب.
منذ القرن الثامن عشر اعتمدت بريطانيا هذا النظام والتحقت بها أميركا في عام 1879 وبحلول 1900 كانت جميع البلدان تعتمد نظام معيار الذهب باستثناء بعض الدول مثل الصين.
وتعطل نظام معيار الذهب أثناء فترة الحرب العالمية الأولى، وعرف العالم هذا النظام وهو أن تقوم الدولة بربط عملتها بالذهب وأن يستطيع البنك المركزي بتحويل العملات للذهب عند الطلب.
وتعرض هذا النظام لعدد من الصدمات التي جعلته غير مستدام، الصدمة الأولى كانت عمليات السحب الكبيرة بعد نشوب الحرب العالمية الأولى وتسببت في إفلاس عدد من المصارف، بينما الصدمة الثانية عندما أصدر الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت قراراً بمصادرة الذهب في الخامس من أبريل (نيسان) 1933 والذي بموجبه أصبح الاحتفاظ بالذهب بأكثر من 5 أوقيات غير قانوني وغرامة عدم الانصياع هي 10 آلاف دولار أو عقوبة 10 أعوام بالسجن، في عام 1944 ربطت الدول المتحالفة عملاتها مع الدولار، على أن تقوم الولايات المتحدة الأميركية بتغطية الدولار بالذهب وأن تحتفظ بمخزونات من الذهب.
وفي أغسطس (أب) 1971 أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون أنه لم يعد بإمكان الدول استبدال الدولار بالذهب وكانت هذه الصدمة الثالثة والقاضية لنظام معيار الذهب.
بعد انهيار معيار الذهب
في عام 1974 تم إطلاق سوق العقود الآجلة للذهب بالولايات المتحدة الأميركية، خلقت هذه النافذة الفرصة للانكشاف على الذهب وبلغ حجم الذهب المتداول في الأسواق المالية حينها 35000 طن ذهب سنوياً، وهذا يعادل 25 ضعف حجم الإنتاج العالمي من الذهب "حجم التداول اليومي حينها كان يعادل 145 طناً ذهباً"، بينما آخر تقديرات حجم التداول اليومي للذهب في البورصات العالمية سجل 131.6 مليار دولار، ما يعادل 2077 طناً يومياً وهو يوازي حجم تداول الذهب في البورصات، ويصل نصيب بورصة شيكاغو مثلاً 27 مليون أوقية ذهب بحجم تداول يومي يبلغ 53.460 مليار دولار، ويبلغ حجم التداول اليومي في بورصة لندن نحو 20 مليون أوقية، في حين بلغ الإنتاج العالمي للذهب 3612 طناً في عام 2022.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بناء على ذلك يمكن أن نقول إن حجم التداول اليومي للذهب في البورصات العالمية يساوي 57.5 في المئة من الإنتاج السنوي للذهب عالمياً، هذا الارتفاع الكبير في حجم التداول اليومي تزامن مع تطور الأسواق (لندن، نيويورك، شنغهاي، سيدني، طوكيو، زيوريخ) وتطور الأدوات المالية المقومة بالذهب في البورصات (سبائك، عقود مستقبلية وخيارات، وصناديق استثمارية متداولة، عقود فورية).
وبحسب آخر تقرير صادر من مركز الذهب العالمي في الثامن من فبراير (شباط) 2023 قدر أن إجمالي الذهب الموجود فوق الأرض يقدر بـ 208874 طناً وتبلغ القيمة السوقية 13 تريليون دولار.
توكنة وتشفير الذهب
مع تطور ابتكار البلوك شين والأصول المشفرة والتذبذب الكبير في أسعار العملات المشفرة وعلى رأسها "البتكوين" يتعاظم دور الذهب ليلعب دوراً محورياً في دعم وتغطية قيمة هذه الأول، كما فعل للدولار قبل خمسة عقود، عندما ربط الدولار بالذهب في اتفاقية "بريتون وود" الشهيرة في 1944 والتي شكلت الاقتصاد العالمي الذي نعرفه بمؤسساته المالية الدولية من البنك الدولي وصندوق الدولي وهيئات ومنظمات الأمم المتحدة المختلفة.
وبعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008 بدأت تكنولوجيا "البلوك شين" تطرح أدوات مشفرة جديدة متحررة من القيود القديمة وتبشر بالحرية المالية وتطرح علاجاً لتضخم الأصول مثل بروتوكول "البتكوين"، وواجهت هذه الأدوات المشفرة عقبات عدة منها لا مركزية هذه الأدوات وضعف الرقابة وصعوبة إخضاعها لمنظومة القوانين، علاوة على أنها لا تزال ضعيفة في الإجابة عن سؤال القيمة.
قيمة هذه الأصول المشفرة لا تحدد سوى بالتوافق العام الذي لا يمكن قياسه بسهولة وأيضاً ربما يكون توافقاً مصنوعاً إضافة إلى إمكانية السيطرة والاحتكار، وهنا يدخل الذهب ليعزز من قيمة هذه الأصول ويغطيها كما فعل سابقاً مع الجنيه الاسترليني والدولار الأميركي في نظام معيار الذهب، إذ أخذت هذه العملات قيمتها من ارتباطها بالمعدن الأصفر.
وبحسب رصد موقع "كوين غيكو" تجاوزت القيمة السوقية للعملات المشفرة المغطاة بالذهب حاجز المليار دولار وأشهرها PAX GOLD وTether Gold، إذ تقوم الفكرة على المزج بين تكنولوجيا "البلوك شين" والمخزون الذي يغطي "التوكن" الجديد Token، الذي يستمد سعره وقيمته من قيمة وسعر الذهب، وفي يناير (كانون الثاني) 2023 أعلنت كل من روسيا وإيران تعاونهما لإطلاق عملة مشفرة مستقرة مغطاة بالذهب.
وكانت روسيا في وقت سابق تبحث عن طرق لحظر التعامل بالعملات المشفرة بينما تبحث حالياً عن مخرج لإتمام التسوية المالية للمدفوعات الدولية عبر العملات المشفرة، إذ يبدو أن الفترة المقبلة ستشهد عديداً من مشروعات العملات الرقمية المرتبطة بالذهب.