ملخص
مصر تحتفل بمرور 100 عام على العمل بدستور 1923 الذي يمثل نقطة تحول رئيسة في تاريخها
تحتفل مصر بمرور 100 عام على العمل بدستور 1923 الذي يمثل نقطة تحول رئيسة في تاريخ مصر، وعلى رغم أنه لم يكن أول دستور تسعى النخب المصرية إلى إقراره، إذ سبقته محاولات كثيرة رافقت تحركات الساسة قبل حركة أحمد عرابي في 1881، فإن هذا الدستور اكتسب أهمية استثنائية في تاريخ مصر، بل في تاريخ الفكر السياسي العربي إجمالاً، فقد خرج من رحم ثورة 1919، بكل ما لها من رمزية بوصفها أول ثورة (شعبية) عرفتها المنطقة خلال العصر الحديث.
وبخلاف ما طرحته من قضايا سياسية فإن أهم مكاسبها جاءت من التعبيرات الثقافية والفنية التي أوجدتها وشكلت معها الجيل الإبداعي الذي يسميه الكاتب المصري الرائد يحيى حقي "جيل ثورة 1919". حمل هذا الجيل على عاتقه مهمة التحديث، وطرح في المجال العام الذي شكلته تلك الثورة أسئلة جديدة في شأن الهوية الوطنية والهوية الإبداعية التي كانت تواجه تحديات نتجت عن تزايد سبل التواصل مع الثقافة الغربية.
تمثيلات الثورة
انشغل أبناء الثورة من المبدعين بهاجس البحث عن أشكال إبداعية جديدة تنسجم مع هذه التحولات التي صاحبت محاولات إعادة تعريف الوطنية المصرية الحديثة ومعنى الانتماء. وبكثير من الاطمئنان يمكن الحديث عن وجود تمثيلات إبداعية مرافقة لمفهوم الاستقلال الوطني، كما عبرت عنه الثورة، ومن بعدها الدستور الذي كان يعد أحد أهم مكاسبها. وترصد دينا حشمت في دراستها المهمة عن "ثورة 1919 في الأدب والسينما" كثيراً من تلك التمثيلات. وجرت في تلك الفترة محاولات عدة لخلق ما يسميه الناقد صبري حافظ "متخيلاً وطنياً" حول الثورة يقارب المعنى الذي طرحه بندكت أندرسون في كتابه المهم "الجماعات المتخيلة" إذ لا توجد ثورة حديثة ناجحة إلا وعرفت نفسها بـ"الثورة القومية".
وفقاً لأندرسون يتشكل المتخيل الوطني من عناصر قائمة تستثمر اللقاء الطبيعي بين فكرة القومية وفكرة الأمة، وهو لقاء يضع الإنتاج الإبداعي كله في إطار الأيديولوجيا القومية الواعية لذاتها والساعية نحو بلورة مفهومها المستقل عن الأمة. وفي سياق تلك التحولات ينشأ عادة مفهوم جديد للزمن، يفصل زمن المعايشة الدينية عن الزمن اليومي المعيش، وهذا التحول بالذات كان ثمرة من ثمار الحداثة الغربية. وعربياً انعكس مفهوم الزمن الفارغ أكثر ما انعكس في تبلور الرواية كشكل إبداعي ناهض، رافق ظهور ثورة 1919 وهيأ لقيامها.
ومن جهة أخرى أسهمت الطباعة في توحيد اللهجات ووضعت معايير اللغة المكتوبة، كما أسهم نمو الصحافة في انتشار هذه اللغة، وانتقالها إلى محك يومي حررها من اللغة الخشبية والإنشائية التي كانت سائدة، وحولها إلى لغة حية، كما حول الكتابة أيضاً إلى "صناعة" متكاملة يمكن الارتزاق منها وأصبحت "مهنة". ويعكس هذا التحول سعي القومية الناشئة إلى استثمار الإبداع الفردي والتعاطي معه. في ظل الثورة ينشأ كثير من الجماعات المتخيلة التي يعزز الانتماء إليها صور الانتماء المباشر للأمة.
وفي حقيقة الأمر فإن الجماعات المتخيلة هي جماعات حقيقية، ليس فقط لأن فعلها أو تأثيرها واقعي، كما يقول أندرسون، بل لأن تخيلها يتم عبر أدوات واقعية قائمة وهي تحتاج كذلك إلى أدوات ناشئة.
بذور التحول
قبل ثورة 1919 كانت قد اكتملت حلقة الوصل مع الفكر الغربي الحديث بفضل مفكري النهضة العربية الأوائل، الذين انشغلوا بزيادة مساحات التفاعل مع هذا الفكر. ويقف طه حسين في طليعة هؤلاء، وتبدو كتاباته الأولى في مجلة "السفور" و"السياسة الأسبوعية" تأصيلاً لمشروعه، فقد كتب مؤكداً أن ما يبتغيه "ليس التجديد إنما الإصلاح، أي إحياء تراث ثقافي مجيد بأن نضم إليه أفضل ما لدى الغرب من طرائق للتفكير، وفي هذا اقتداء بأسلافنا".
وهناك شواهد كثيرة تشير إلى أن النثر كان هو أكثر الأشكال الإبداعية استجابة لتحدي التغيير. وقبل أن يأتي القرن العشرون قطع مفكرو الشام منذ الربع الأخير في القرن التاسع العشر مساراً مهماً، وكانوا هم الأكثر انفتاحاً على الثقافة الفرنسية وعلى فكرة التجديد، وبدا أنهم أكثر شجاعة في التعامل مع التراث التقليدي وهز ثوابته، وبلغوا به مرحلة أكثر حداثة. ووضعت النهضة المصرية عند أوائل القرن العشرين "النثر" في قلب معركة التغيير، علماً أن التراث التقليدي في مصر قبل تلك المرحلة كان يتركز حول "مركزية الأزهر"، كمؤسسة راسخة لإنتاج العلم الديني المرهون بالحفاظ على اللغة العربية.
وفي كتابها التأسيسي "الاتجاهات والحركات التجديدية في الشعر العربي المعاصر" تصف سلمى الخضراء الجيوسي ذلك التراث بـ"الضيق" فهو - كما تقول - "مكتف بذاته، مفرط في اتباع التقاليد"، وبالذات في ما يخص الشعر الذي كان هو فن العربية الأول. لم يكن للنثر المكانة ذاتها التي كانت للشعر، ومن ثم بدا أن اقتراح أشكال جديدة في شأنه عملية أقل تعقيداً، لذلك عرف تحولاً كاملاً، وساعدت الصحافة على جذب أسماء مهمة كانت تعمل على تأصيل شكل المقالة الأدبية، وتقترح وسائل وأدوات جديدة للتعبير، كما ناصرت الأشكال الأدبية التي كانت في سبيلها للظهور، وعلى رأسها القصة القصيرة والرواية والمسرحية.
فجر القصة
في كتابه المهم "فجر القصة القصيرة" يكشف يحيى حقي عن المناخ الأدبي الذي يعكس هذا الانشغال، فبفضل العائلة التيمورية (محمد ومحمود وعائشة تيمور) ومن قبلهم محمد حسين هيكل، تبلورت أشكال السرد القصصي.
صحيح أن رواية "زينب" لهيكل في 1914، ولدت بهوية ملتبسة وغير واضحة في تصنيفها، إلا أنها كانت نتاجاً لهذا المخاض الجديد. وأعطى الزمن السردي الذي قدمته الرواية مثالاً لما ذكره أندرسون، عن الصلة بين القومية ومفهوم جديد للزمن يمتد أفقياً ويجمع بين عدة أفراد فاعلين في فضاء واحد.
انشغلت الرواية تبعاً لذلك بالبحث في مصير "الفرد البرجوازي" الجديد الذي خلقته المدينة بعد تغييرات عديدة تفككت معها الروابط المحلية والعلاقات التي كانت قائمة. ولم يكن من قبيل المصادفة أن الفترة نفسها شهدت ميلاد النماذج الأولى لكتابات محمد تيمور المسرحية، وكتابات شقيقه القصصية، لكن التحول الأهم جاء من كتاب "المدرسة الحديثة" التي أفرد لها حقي مساحة رئيسة في كتابه "فجر القصة القصيرة" واعتنى صبري حافظ بنشر تراث أفرادها وتحقيقه.
أسست "المدرسة الحديثة" على يد محمود طاهر لاشين وضمت معه الأخوين عيسى وشحاتة عبيد وآخرين، أبرزهم الناقد حسين فوزي والشاعر أحمد خيري سعيد، ومعهم يحيى حقي ثم إبراهيم المصري وحبيب زحلاوي، نشر هؤلاء جميعاً إنتاجهم الأدبي في مجلة مهمة هي "الفجر" التي رفعت شعاراً ثورياً هو "صحيفة الهدم والبناء" وظهرت في أبريل (نيسان) 1925.كتب يحيى حقي افتتاحية ملهمة للمجلة جاءت بعنوان "الاستقلال الفكري" بما يشير إلى رغبة أعضاء الجماعة في التعبير عما أرادته ثورة 1919 في شأن الهوية الوطنية والاستقلال. وعلى رغم ذلك الدافع الوطني فلم يكن أفرادها أصحاب فكر محافظ يرغب في هوية مغلقة، بل كانوا من أنصار الانفتاح على الثقافة الغربية. ويشير حقي إلى أن المجلة تأثرت بالأدب الغربي ثم الأدب الروسي. وفي البيان الافتتاحي للمجلة يقولون إنهم "أرادوا أن يكون لمصر أدبها الأصيل" وتكاد هذه النغمة تتكرر بصيغ متعددة في الكتاب المهم الذي نشره محمد حسين هيكل بعنوان "ثورة الأدب". يقر حقي بأن أدب المدرسة الحديثة نشأ في أحضان ثورة 1919، كما نشأت موسيقى سيد درويش، ومعلوم أن عيسى عبيد وهو أبرز أعضاء الجماعة أهدى إحدى مجموعاته القصصية إلى الزعيم سعد زغلول وكتب له "هدية صغيرة من كاتب مبتدئ، مجهول، له آمال عظيمة بأن تستقل بلاده المصرية استقلالاً تاماً، ويستقل معها الفن المصري".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في مقال آخر يطالب عيسى بما يسميه "الرياليزم" بدلاً من "الأيداليزم" أي الانتصار للواقعي في مقابل "النموذجي"، داعياً كتاب عصره إلى الالتفات إلى ما كشفت عنه ثورة 1919 وإلى تلون أدبنا بطابع محلي. وهكذا ارتبطت انتفاضة الأمة بضرورة انبعاث ثورة إبداعية أخرى تعبر عنها في الأدب والفن، وما هي إلا سنوات حتى ظهرت الأعمال المهمة التي صاغت سرديات إبداعية راسخة عن الثورة. ويمثل إنتاج توفيق الحكيم ذروة تلك المرحلة وبفضل روايته "عودة الروح" (1938) وبعدها "ثلاثية" نجيب محفوظ (1956) تشكلت هذه السرديات كخطوة نحو إعادة بناء أمة مصرية حديثة، وهو ما يعيد الإشارة إلى مفهوم "المتخيل الوطني" الذي بدأ بتناوله.
تحولات الشعر
ثمة إجماع بين الدارسين على أن الشعر هو الفن الأشد مقاومة للتغيير في الثقافة العربية، نظراً إلى رسوخه الضارب في التاريخ، إلى جانب اقتران اللغة العربية بقداسة القرآن الكريم، مما قيد إلى حد كبير من محاولات تجديده، على عكس حداثة الأشكال النثرية والسردية التي تعرضت لتغييرات كبيرة منذ بدايات القرن العشرين، وأسهمت الصحافة التي اغتنت بالأساليب الغربية في توثيق الصلة بين جمهور الأدب والآداب الأجنبية.
وكما تلاحظ الجيوسي ساعدت تلك التغيرات في الضغط على الشعر، وظهرت نماذج أولى للتجديد جاءت في غالبيتها من أعمال الكتاب العرب المسيحيين الذين اهتدوا فيها بأسلوب الكتاب المقدس، سعياً إلى إحداث تغييرات جوهرية في البناء العروضي وطبيعة المحتوى، ثم سرعان ما قادت تلك النماذج إلى إعادة النظر في إمكانات الشكل الشعري واستطاعت خلق نماذج متطورة في مراحل مبكرة لقصيدة النثر أوجدت "حساسية شعرية جديدة"، بلغت أفقاً مهماً، مع شعراء المهجر والشعر المنثور. ويظهر شربل داغر في كتاباته المهمة حول تاريخ الشعر العربي الحديث في تلك المرحلة كثيراً من النصوص التي تؤكد ذلك.
وفي ظل هذا المناخ اضطر شعراء تقليديون إلى التعامل مع الواقع الجديد، وكان أحمد شوقي على رأس هؤلاء. فبعد عودته من المنفى انقطعت صلته بالقصر تماماً، وانغمس كلية في التعبير عن أحداث الثورة، بل أصبح شعره صدى لأحداثها، وكتب بعض الأغنيات بالعامية المصرية ودخل تجارب الشعر التمثيلي. وإلى سنة وفاته 1932 "لم تكن الحساسية التقليدية قد تغيرت" بتعبير الجيوسي، ولم يحدث هذا إلا بعد وفاته بعام مع ظهور مجلة "أبوللو" وجماعتها الشعرية عام 1933.