ملخص
انتشرت ظاهرة النزوح من المدن إلى القرى في الفترة الأخيرة بتونس بين الفئة الأكثر رخاء في المجتمع بحثاً عن الهدوء ومنافع الطبيعة
تجري العادة أن تشهد الأوساط الاجتماعية المتوسطة والفقيرة نزوحاً من الأرياف إلى المدن للبحث عن حياة أفضل وآفاق أوسع للعمل، لكن ظاهرة الهرب من المدن إلى الأرياف التي تدحض ما هو متعارف عليه في المجتمعات والدول، بدأت تنتشر في الفترة الأخيرة بتونس بين الفئة الأكثر رخاء في المجتمع، بحثاً عن الهدوء ومنافع الطبيعة من أكل صحي بيولوجي وهواء نقي بعيداً من صخب المدن الكبرى.
ويشار إلى أن أرياف تونس تختلف لجهة الإنماء والتطور، على غرار مدن الشريط الساحلي التي تستقطب الهجرة الداخلية، أما أرياف المحافظات فلم تلحظ بأي إنماء وصارت طاردة لسكانها ولا تستقطب سكاناً من المدن المجاورة، وذلك بسبب نقص الخدمات في المدن القريبة كالخدمات الصحية والترفيهية ونقص المؤسسات التعليمية وغيرها من مظاهر الحداثة، بالتالي عادة ما يختار بعضهم أريافاً تابعة لمحافظات كبرى على غرار أرياف العاصمة.
تقول زهرة عبيدي سيدة أعمال إنها تحب المساحات الكبيرة جداً، وهي تسعد لرؤية المناظر الطبيعية من نوافذ منزلها، وقالت "كنت قبل سنوات أملك منزلاً في منطقة سكنية راقية بتونس العاصمة، لكني لم أشعر بالراحة التي أبحث عنها، فقررت بناء منزل في مرناق وهي منطقة ريفية جميلة جداً قريبة من تونس العاصمة". وتكمل "قمت باستغلال المساحة الأكبر في غرس الأشجار المثمرة وزرع الخضار وتربية الدواجن، الشيء الذي جعلني أوفر أغلب حاجاتي من مواد غذائية صحية وبيولوجية"، مضيفة "تعلمت قواعد الزراعة وأصبحت أمضي بعض الوقت في الاعتناء بمزرعتي".
حياة بسيطة
وتقول زهرة المقيمة في دبي إنها تقضي فصل الصيف بأكمله في مزرعتها مع عائلتها من دون أن تحتاج إلى الذهاب إلى المنتجعات السياحية، بخاصة أن منزلها يحتوي على مسبح خاص، وهي تؤكد أنها لا تشعر بالعزلة لأن المكان الذي اختارته قريب من العاصمة حوالى 20 دقيقة فقط بالسيارة.
وتواصل "كلفة بناء منزل كمنزلي وسط مزرعة كبيرة يضم مسبحاً خاصاً تعتبر مقبولة مقارنة ببلدان أخرى"، وهي تشجع فكرة الرجوع إلى الطبيعة والتعويل على الإمكانات الذاتية كغرس الأشجار وزرع الخضر وتربية الحيوانات والابتعاد عن التوتر والضغوط اليومية التي نعيشها في المدن الكبرى، وقالت إن هذا الخيار أي الانتقال إلى الريف غير حياتها وجعلها أكثر سعادة واسترخاء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك منذر وهو أب لأربعة أطفال، إذ اختار أيضاً العيش في إحدى أرياف محافظة بنزرت أقصى الشمال الشرقي لتونس، ويقول إن منزل أبيه في مدينة بنزرت العتيقة وإنه عاش طفولته وبعضاً من شبابه هناك، وبعد الزواج انتقل إلى العاصمة تونس للعمل هناك، لكن بعد أن كبر أولاده قرر شراء قطعة أرض في الريف وإنشاء منزله الصغير وسط مزرعة كبيرة والابتعاد عن صخب العاصمة وازدحام طرقاتها التي لم يعد يحتملها، بحسب قوله.
وانتقل منذر بعد التقاعد مباشرة للعيش في منزله الجديد حياة بسيطة ومريحة يقضي معظم أوقاته في الاعتناء بمزرعته الصغيرة التي تؤمن له كل حاجاته من خضر وغلال بيولوجية، ويؤكد أن حاله الصحية تحسنت كثيراً بعد الانتقال إلى الريف، إذ كان يعاني نوبات قلق وضغطاً نفسياً متواصلاً.
الخيار الأفضل
وإن لم تثر هذه الظاهرة، أي النزوح من المدن إلى الأرياف، اهتمام علماء الاجتماع في تونس ولم تصدر دراسات معمقة للبحث فيها كونها ظاهرة جديدة، فإن الباحث في علم الاجتماع والمختص في حركات الهجرة خالد طبابي، أكد وجودها بخاصة في الأوساط المرفهة وحتى الوسطى التي تبحث عن الراحة النفسية والابتعاد عن الحياة الاجتماعية المعقدة.
ويقول الطبابي "اليوم أصبحت عديد المناطق الريفية فضاء يستقطب رجال الأعمال والمستثمرين الباحثين عن المياه لأغراض فلاحية بالأساس كغرس الأشجار المثمرة"، هذا من جانب الأعمال، لكن من الجانب الاجتماعي يرى الطبابي أن "المدينة أصبحت اليوم فضاء للتوتر والضغوط اليومية والنفسية التي تثير الملل مع تفاقم سوء الخدمات العمومية وتردي البنية التحتية كالطرقات وغيرها "، ويتابع "كثير من الطبقة الغنية أو حتى المتوسطة اختاروا الاستقرار في الأرياف أو إنشاء منزل ثان هناك لأخذ قسط من الراحة والابتعاد عن الضجيج والروتين اليومي المسبب الأول للضغط النفسي".
ويؤدي الإحباط الذي يسيطر على المناخ العام في البلاد لاسيما بعد أحداث 2011 إلى اضطرابات نفسية، ووفق إحصاءات رسمية هناك 518 ألف تونسي يعانون الاضطرابات النفسية الناتجة من الاكتئاب.
وصنفت دراسة أعدتها منظمة البارومتر العربي حول الصحة النفسية بدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تونس ضمن أكثر الشعوب معاناة من الاكتئاب بنسبة 40 في المئة، وبالتالي يرى الباحث في علم الاجتماع خالد طبابي أن اختيار الأرياف هو الأفضل بخاصة للطبقة الميسورة التي لا يعيقها التنقل إلى المدن وقت الحاجة، والقادرين على توفير كل مستلزماتهم في الأرياف في ظروف جيدة.