ملخص
يُنقّب الفنان المصري محمد الجنوبي دائماً عن الأشياء التي تشبهه، وهو في سبيل ذلك، لا يتوقف عن محاولاته للإفلات من أسر الأنماط البصرية التي تحكم العلاقة بين الفنان والعمل الفني، والوصول قدر الإمكان، إلى مساحة مُرضية من الصدق والتصالح مع منتجه الإبداعي.
يُنقّب الفنان المصري محمد الجنوبي دائماً عن الأشياء التي تشبهه، من دون ادعاء هوية مُزيفة يغازل بها خيال المتلقي. وهو في سبيل ذلك، لا يتوقف عن محاولاته للإفلات من أسر الأنماط البصرية التي تحكم العلاقة بين الفنان والعمل الفني، والوصول قدر الإمكان، إلى مساحة مُرضية من الصدق والتصالح مع منتجه الإبداعي.
في أعماله قد نرى العديد من الأوراق التي أرهق نفسه في جمعها والاحتفاظ بها لسنوات: تذكرة سينما أو قطار أو حتى أوراق هوية، أو ربما صفحات أو قصاصات من صحف تحمل تواريخ ذات دلالة، يغطي بها جدران قاعة العرض. نراه مرة أخرى يوظف قطعاً ومجسمات من الفحم أو الشمع في سبيله لطرح تساؤلاته المربكة. أو قد يستبدل خامات التلوين بمساحيق من التوابل.
هو الجنوبي اسماً وصفة، فالجنوب لديه وطن ولغة، وسمت يميز ملامحه، وهو قدر أيضاً، كان عليه أن يتحمل قسوته وتبعاته، في وطن لا مجال فيه للتحقق لهؤلاء الذين يعيشون على أطراف المدن. وطن تجثم فيه المدينة الكبيرة على غيرها من أقاليم. كان عليه أن يتجاوز هامشيته تلك بالاغتراب، حاملاً معه أثراً من قسوة النشأة والعادات أينما حل.
قد لا يتذكر الفنان محمد الجنوبي متى اتخذ قرار الاغتراب. ربما قرر ذلك حين شد الرحال ذات مرة إلى القاهرة قاطعاً عشرات الكيلومترات، للمشاركة في أحد المعارض رغم مشقة السفر. أو حين باغته لقاء فاتر ومخيب مع أحد النقاد البارزين، وكان في زيارة حينها إلى مدينته. على أي حال، فقد أدرك الجنوبي مبكراً أن عليه شق طريقه منفرداً في هذه المدينة المهولة. حين انتقل إلى القاهرة لم يكن يعرف فيها إلا أسماء شوارعها وأحيائها، التي تتردد عبر أفلام السينما وعلى ألسنة الأقارب المغامرين. لكنه حين استقر واعتاد الحياة في القاهرة اختار الابتعاد عنها من جديد. إستقر الجنوبي هذه المرة في الولايات المتحدة الأميركية حيث تزوج وأنجب طفلته الوحيدة. بعد سنوات عاد الفنان محمد الجنوبي مرة أخرى إلى القاهرة، ومنها إلى أطرافها من جديد، حيث يعيش الآن في إحدى قرى الإسماعيلية. هو يعيد تجربة الرحيل كمن استمرأ الإغتراب أو ألِف وطأته، أو كأن الاغتراب قدر يلاحقه.
في معرضه المقام في قاعة بيكاسو للفنون في القاهرة حتى 16 يونيو(حزيران) تحت عنوان "فرش وغطا" يقدم الفنان محمد الجنوبي تجارب مختلفة من تصوراته حول اللوحة. لا يتبنى المعرض فكرة واحدة أو سياقاً متماسكاً، غير أن هذه التجارب مرتبطة معاً برابط واحد ممتد، له علاقة بسعيه الدؤوب لاستكشاف هذه العلاقات البصرية التي تشبهه. "فرش وغطا" هو عنوان جامع ودال مستلهم من الموروث الغنائي الشعبي في جنوب مصر، يشير إلى مبارزة غنائية بين اثنين من المغنين؛ مبارزة غنائية تحمل جدلية من المعاني والدلالات المرتبطة بسياق واحد. في هذه النوعية من المبارزات الغنائية يصدح المغني بمقطع غنائي، فيعقبه رد غنائي من الآخر، قد يؤكد أو يخالف المعنى السابق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لوحات محمد الجنوبي المعروضة هنا أقرب إلى البحث في طبيعة الصورة المرسومة، وعلاقة المشهد بالمكان وبالتجربة الحقيقية للفنان. هو يريد أن يرسم محيطه كما يتراءى له هو، لا كما يتراءى للآخرين، محاولاً الإبتعاد عن الصور النمطية لمجتمعه، هذه الصور التي يشكلها الخيال وتغذيها الأحكام والقوالب الجاهزة. نجد هنا وجوهاً قريبة لأهل قريته وأقاربه، أو خيالات بيوت أو أشخاص تائهين في فضاء شاسع من اللون. يحاصر الجنوبي خيالاته البشرية وعناصره تلك أحياناً في مساحة محددة من اللوحة، تاركاً بقية المساحة وقفاً على اللون وحده وتجلياته المجردة. على مساحة اللوحة يتجاور التجريد والتشخيص وتشتبك الخطوط والمساحات اللونية. في كثير من هذه الأعمال ثمة سعي واضح للخروج من إطار المعالجات النمطية للمساحة التي تحتل فيها العناصر مقدمة اللوحة. يتعامل الفنان محمد الجنوبي هنا مع الخلفية بالمقدار نفسه من الاهتمام، مع عناصره الأخرى، حيث لا تداخل أو اشتباك، بل ندية ومساواة في الطرح والحضور.