ملخص
"أسوار عين توران" رواية ديستوبية ترسم أحوال الرضوخ والمواجهة
"أسوار عين توران" رواية جديدة للكاتبة اللبنانية جنى فواز الحسن صدرت حديثاً عن منشورات ضفاف والاختلاف، وهي الثالثة لها بعد روايتيها اللتين بلغتا القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية: "أنا، هي والأخريات" (2012) و"طابق 99" (2014). تتناول الحسن في روايتها هذه التي يمكن اعتبارها رواية ديستوبية ألليغورية، قصة قرية صغيرة بعيدة ومعزولة، يعيش أهلها في حالة خوف دائم من التغيير ومن الخارج، ومن كل ما هو جديد.
إن قرية عين توران التي تدور فيها الأحداث، هي قرية منظمة مستقرة هادئة يحكمها آغا وطبيب، ويتناول أهلها حبة بيضاء تمنع عنهم الأحاسيس أو القدرة على التذكر أو الرغبة في الثورة والتحرر. قرية هادئة منظمة في شؤونها كلها، لا يقع فيها أي تغيير، لا في الطعام ولا في اللباس ولا حتى في نوع السيارات التي يقودها الناس، فيرد الوصف منذ بداية السرد كما يأتي: "كل شيء كان منظماً في تلك البلدة، حتى جداول الطعام التي نادراً ما تغيرت، وكانت بتوصية من الآغا والطبيب، [...] كل من يحاول مقاومة قوانين الطبيعة، ينتهي مرمياً به خارج أراضي عين توران، تبتلعه الشياطين" (ص: 19).
قرية صامتة خاضعة
تجسد الحسن في روايتها (180 صفحة) قرية منعزلة مجردة من الحياة والتجربة والتحدي، قرية يخضع أهلها للآغا وللطبيب ولا يخالفونهما في أمر. تسرد الرواية الأحداث التي تطرأ على هذه القرية مع وصف سريع إنما وافٍ، لنظام القرية وطباع أهلها والقوانين التي تسيرهم. وتختار الحسن أن يروي نصها راوٍ عليم خارجي يراقب الأحداث ويرافق الشخصيات من بعيد، ويقدم نظرة شاملة على مختلف الأحداث. واللافت في النص أن شخصية هيثم هي التي تفتتح الرواية، وهي التي تختتمها. وبينما يكون هيثم في البداية رجلاً هادئاً لطيفاً منصاعاً يحاول تجنب المشكلات والمواجهات، يتحول في نهاية السرد إلى خطيب متمرد يكسر جدار الصمت ويحاول أن يكسر "أسوار عين توران" العالية، ليُخرج أهله وأهل قريته من البؤس والظلم والجهل وكل ما يعيشونه من ذل.
مسيرة تحول وثورة على الظلم والديكتاتورية والصمت والفقر، وصرخة خجول للمطالبة بالحرية والعدالة والانفتاح، تُدخل هيثم والقارئ في دهاليز السياسة والخبث والكذب من دون نهاية واضحة. تختار الحسن أن تترك حبال سردها مفتوحة في النهاية، ليبقى القارئ ولتبقى الشخصيات نفسها، على حماستها لمعرفة الأحداث، فهل ينجح هيثم في ثورته على الآغا والطبيب؟ وما هو مآل هذه القرية الصغيرة التي تمثل برمزيتها مدناً ودولاً كبرى لا عد لها ولا حصر في عالمنا اليوم؟
تفضح الحسن في روايتها هذه معالم مجتمع يعيش في غياهب الظلم والديكتاتورية. فلا أحد يجرؤ على التمرد ولا على الرفض، كأن يقول هيثم لنفسه في أحد مواضع السرد: "إن كنتَ تريد أن تتحكم بشخص ما، فعوِده على البؤس؛ حتى يصبح أي حق من حقوقه أشبه بهبة؛ الطعام، الشراب، الأمن، الفرح، البهجة، التشجيع [...] اهدم ثقته بنفسه، حوله إلى لا شيء، أقنعه بغبائه..." (ص: 77).
يولد هيثم وينشأ ويكبر على غرار أترابه جميعهم، في ظل مجتمع قاسٍ منغلق. يعيش طيلة سني حياته في وهم حماية القرية وبناء الأسوار حولها ودفع الشر الآتي إليها من الخارج، عبر الانغلاق والانصياع للآغا والطبيب وتناول الحبة البيضاء. وللحبة البيضاء قصة أخرى برمزيتها وآثارها والوهم الذي تخلقه. فالحبة البيضاء هي فعلاً حبة دواء يتناولها أهل القرية ليحافظوا على هدوئهم وطاعتهم، لكنها رمزياً، كناية عن المفاهيم والتقاليد والأحكام التي تتناقلها الأجيال وتتشبع منها لتصبح في ما بعد ضحيتها وسجينتها. تقيد الحبة البيضاء أهل عين توران وترفع أسواراً داخلية في نفوسهم، تمنعهم عن التماهي مع العالم الخارجي وتحول دون بلوغهم التقدم والحرية والحياة. إن عين توران عبارة عن مجتمع ترتفع حول أهله أسوار داخلية ذاتية نفسية، قبل أن ترتفع الأسوار الجغرافية والمكان، وهو أخطر ما في الأمر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يكتشف هيثم في خلال مسيرته للمطالبة بالحرية والعدالة والحق والمدنية والانفتاح "أن هذا العالم منقسم إلى صنفين من البشر: أصحاب السلطة والآخرين" (ص: 98). فيروح يحاول أن يثور على هذا الواقع وعلى الطبقية داخل قريته وعلى الأسوار القائمة حولها ليحررها ويحرر أهلها من بؤسهم وفقرهم والظلم اللاحق بهم. لكن المسألة ليست في هذه البساطة، فما من ثورة سهلة وما من تغيير يأتي من دون أثمان. وتتدهور حال هيثم ومحاولاته للثورة عندما يدخل الشيخ في المسألة ويقف في صف الآغا والطبيب. وكأن السلطة قائمة على ثلاثة أطراف متماهية متحالفة هي الدين والسياسة والعلم، تصطف ثلاثتها لتخمد ثورة العدل والإحساس والحرية. هنا يبقى السؤال الأخير والأهم الذي تطرحه الحسن بشكل مبطن حول قدرة هيثم على دخول لعبة السياسة والفوز فيها من دون التحول هو نفسه إلى طاغية جديد. وهو السؤال نفسه الذي طرحه سابقاً الفيلسوف الألماني نيتشه (1844- 1900) قائلاً: "عند محاربة الوحوش عليك أن تتأكد أنك لن تصبح وحشاً في هذه الحرب؛ ومَن ينظر إلى الهاوية طويلاً يسقط فيها". فهل يسقط هيثم في هاوية الديكتاتورية هو الذي كان ثائراً عليها؟
"أسوار عين توران" رواية ديستوبية رمزية هادئة تروي، قصة قرية متخيلة قابعة تحت سلطة النفوذ السياسي والإقطاعي والديني، يناضل فرد واحد من أفرادها للتحرر ونيل المساواة والانفتاح. هل يشهد الأدب العربي اليوم والرواية العربية تحديداً توجهاً نحو المدن الرمزية والسرد الألليغوري ونوع الديستوبيا؟ وهل تكون هذه طريقة الروائيين العرب اليوم لرفض الظلم والبؤس والصمت والديكتاتوريات؟