ملخص
وثائق الأرشيف الوطني البريطاني المرتبطة بحادثة طائرة لوكربي تشير إلى تحذير ثلاثي بعثت به واشنطن ولندن وباريس إلى جامعة الدول العربية عبر تونس من محاولات مساعدة نظام القذافي عام 1993 في محاولات التفاف على العقوبات الأممية.
لا تزال وثائق الأرشيف الوطني البريطاني المرتبطة بحادثتي تفجير طائرتي الركاب الأميركية فوق اسكتلندا (لوكربي) والفرنسية في سماء النيجر عامي 1988 و1989 تبوح بأسرارها، لتزيح الستار عن مجموعة أخرى من التحركات الدبلوماسية الليبية لضمان وساطة ودعم عربي في وجه المثلث الأميركي البريطاني الفرنسي.
أحداث الواقعتين تعود إلى 21 من ديسمبر (كانون الأول) 1988 حين انفجرت طائرة ركاب أميركية كان على متنها 259 شخصاً قتلوا جميعاً كما قتل 11 مواطناً اسكتلندياً على الأرض بعد سقوط حطام الطائرة، وعرفت القضية باسم "لوكربي"، وتصدرت القضايا الدولية على مدى أكثر من عقد وأشعلت فتيل أزمة سياسية وحقوقية بين النظام الليبي من جانب وأميركا وبريطانيا ومجلس الأمن الدولي من جانب آخر.
بعد 10 أشهر شهدت سماء النيجر في 19 سبتمبر (أيلول) 1989 سقوط طائرة أخرى تابعة لـ"يو تي أي" الفرنسية، كانت متوجهة من باريس إلى تشاد، جراء انفجار قنبلة وضعت داخل حقيبة كانت ضمن الأمتعة في مخزن الطائرة، حيث قتل جميع من كانوا على متنها وعددهم 170 شخصاً، واتجهت أصابع الاتهام فوراً إلى النظام الليبي.
تحركات ليبية
بالتوازي مع تحركات واشنطن ولندن وباريس سارعت ليبيا إلى دعوة جامعة الدول العربية إلى عقد اجتماع عاجل على مستوى وزراء الخارجية لدعمها في معالجة أزمتها مع العواصم الغربية الثلاث، مقترحة تونس مكاناً لاستضافة الاجتماع، نظراً إلى الظروف التي فرضتها العقوبات الدولية وصعوبة الوصول إلى طرابلس.
هنا يشير تقرير بريطاني إلى لقاء جرى بين سفراء الدول الغربية الثلاث مع وزير خارجية تونس (آنذاك) الحبيب بن يحيى، في 16 مارس (آذار) 1993، حدد نهج حكومته تجاه الاجتماع المرتقب للجنة السباعية التابعة للجامعة العربية بخصوص حادثة لوكربي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التقرير نفسه قال "تم استدعاء لجنة جامعة الدول العربية من قبل الليبيين الذين طرحوا الفكرة لأول مرة في اجتماع اتحاد المغرب العربي، يناير (كانون الثاني) الماضي. تم اختيار تونس كمكان أكثر ملاءمة، وإدراكاً منهم لفشل ليبيا في إرسال وزير إلى اجتماع اتحاد المغرب العربي، سعى التونسيون إلى الحصول على تأكيد من طرابلس بترشيح وزير لهذه المهمة، إذ كانت اللجنة المشار إليها ستتولى بحث قرار مجلس الأمن رقم 731 وآلية التنفيذ".
يذكر التقرير السري البريطاني أن وزير خارجية تونس أعرب عن قلقه إزاء استمرار الأزمة وتطورها وتداعياتها على دول الجوار الليبي، ومنها بلاده على وجه التحديد، إذ أثرت سلباً في القطاع السياحي، موضحاً أن اللجنة العربية لن تبحث سبل تجنب تنفيذ قرار مجلس الأمن أو طرقاً تساعد الليبيين على الهرب من العقوبات.
في فقرته الرابعة يتحدث التقرير السري عما قاله الحبيب بن يحيى "إن الليبيين مستعدون لاستقبال بعثات تقصي الحقائق وزيارة بلدهم والتوقيع على اتفاقية الأسلحة الكيماوية". قبل أن يرد السفير الأميركي على الوزير التونسي بقوله "كل ما هو مطلوب الآن أن يصدر الليبيون تعليمات بوقف العمل في مصانع تصنيع الأسلحة الكيماوية"، ثم سأل بن يحيى عما إذا كانت هناك معلومات متوفرة لدى (الأميركان) تؤكد أن الليبيين يواصلون هذا العمل.
وبحسب الوثائق فإن السفيرين الأميركي والفرنسي، خلال اجتماعهما مع وزير خارجية تونس، طالبا بضرورة تسليم المشتبه فيهما إلى محاكمة عادلة، منتقدين تعدد الاتصالات الليبية الثنائية ومتعددة الأطراف، بما في ذلك مع لندن وباريس علاوة على رسائلهم إلى واشنطن، والتي تركت حالة من الارتباك، رافضين الاقتراحات القائلة إن الليبيين أوفوا بالفعل بجزء كبير من التزاماتهم تجاه مجلس الأمن.
وينتهي التقرير بتعليق السفير البريطاني في ليبيا حول الاجتماع المذكور "يبدو أن بن يحيى، على رغم حرصه على إيجاد طريقة لإحراز تقدم في شأن لوكربي، فإنه أشار إلى أن موضوع تخفيف تنفيذ قرارات مجلس الأمن أو تقييد حرية العمل في المحاكم البريطانية أو الأميركية أمر غير مطروح للنقاش". وكان الوزير التونسي يتحدث عن اجتماع مرتقب للجنة السباعية التابعة لجامعة الدول العربية.
اتصالات لجنة العقوبات
وثيقة بريطانية أخرى تتحدث عن تواصل ليبيا مع لجنة العقوبات لأول مرة، طالبة منها الإذن لها بانضمام موفدها إلى اجتماع اللجنة السباعية التابعة لجامعة الدول العربية. وكانت ردود الفعل الأولية للبعثات الأميركية والبريطانية والفرنسية على الطلب الليبي إيجابية.
تقول الوثيقة "الطلب الليبي هو تطور مثير للاهتمام. وهذه هي المرة الأولى التي يتوجه فيها الليبيون إلى لجنة العقوبات وطرح موضوع. ومن الواضح أن لدينا مصلحة في أن نبدو معقولين قدر الإمكان في الفترة التي تسبق الإعلان عن العقوبات ومحاولتنا إقناع مجلس الأمن بقبول قرار مبدأ (العصا والجزرة). ولن يكون من المفيد لقضيتنا في المجلس أن يشتكي الليبيون بأننا رفضنا طلب السماح لممثليهم حضور اجتماع عربي يهدف إلى المساعدة في حل مشكلة لوكربي".
لم يختلف الموقف الروسي في هذه القضية عن الموقف الأميركي والبريطاني والفرنسي، إذ ورد في التقرير "اتصل بنا زملاؤنا الروس أيضاً ليقولوا إن الرد المرن سيكون مفيداً في سياق الإعلان المقبل عن العقوبات، بخاصة إذا كنا نخطط لمحاولة إقناع مجلس الأمن بالموافقة على قرار العصا والجزرة".
وكان السفير الليبي لدى الأمم المتحدة حينها بعث رسالة إلى رئيس لجنة العقوبات المفروضة على بلاده عن طريق الفاكس يطلب فيها الموافقة على رحلة تقل أمين اللجنة الشعبية العامة الليبية إلى اجتماع جامعة الدول العربية المشار إليه.
تحذير بريطانيا للعرب
لكن الوثيقة لا تخفي أن الحكومة البريطانية طلبت من وزير خارجية تونس الحبيب بن يحيى إبلاغ جامعة الدول العربية والمصريين خصوصاً رسالة وهي عدم اتخاذ قرارات غير مفيدة. تقول الوثيقة الموجهة إلى الوزير التونسي "نحن ممتنون للنظرة العامة حول اجتماع جامعة الدول العربية في تونس، لا نزال نأمل في أن نطلب منكم إطلاع المصريين بشكل كامل على موقفنا بمجرد توصلنا إلى اتفاق المجموعة الثلاثية بخصوص سبل معالجة القضية، فإننا نرى فائدة في حديثكم إلى القاهرة (قبل اجتماع تونس) كمحاولة لتجنب عمل غير مفيد من قبل الجامعة العربية".
وثيقة الأرشيف الوطني البريطاني أوضحت طلب لندن من تونس توضيح مجموعة من النقاط للعرب لعل في مقدمتها "ما زلنا (لندن) نتشاور مع واشنطن وباريس حول كيفية المضي قدماً، وتحديداً كيفية التعامل مع مراجعة العقوبات، سنطلعك (المقصود الوزير التونسي) بشكل كامل على النتائج في أقرب وقت ممكن".
أما النقطة الثانية فذكرت "هدفنا العام (لندن) هو حل هذه المشكلة في أسرع وقت ممكن ومن دون أضرار. ليس لدينا أي رغبة في فرض مزيد من العقوبات على الليبيين من أجل ذلك، وليس لدينا أجندة خفية تتجاوز الامتثال الليبي الكامل لقراري مجلس الأمن 731 و748، لكن الليبيين يعرفون ما يجب عليهم فعله، وإذا استمروا في تحدي المجلس فلن يكون أمامنا خيار سوى البحث عن طرق لزيادة الضغط على القذافي".
وتابعت "مهما كانت العقوبات الإضافية التي قد نضطر إلى وضعها، يمكننا أن نؤكد للمصريين أننا لم نفكر ولن نفكر في فرض حظر على المواصلات البرية مع ليبيا. وكنا ممتنين للإشعار المسبق باجتماع جامعة الدول العربية في تونس. نأمل أن يكون المشاركون حذرين في ردهم على أي مبادرات ليبية. لا نرغب في المخاطرة بأن تصبح هذه القضية موسعة بين الغرب والعالم العربي بينما يجب أن تظل قضية بين مجلس الأمن وليبيا، بل نريد حلها في أقرب وقت ممكن، حتى يمكن إزالتها من جدول أعمال المجلس تماماً".
تشدد أميركي
في 17 مارس من عام 1993، أي قبل الاجتماع العربي المزمع بطلب ليبي، أرسل وزير خارجية تونس إلى البريطانيين نص رسالة كان قد تلقاها من الحكومة الأميركية يقول "ترفض الحكومة الأميركية في هذه الرسالة فكرة إجراء مفاوضات ثنائية مع النظام الليبي بشدة، كما تضيف نقاطاً عدة وتضع شروطاً تعجيزية لا يمكن لليبيا تنفيذها".
أما رسالة واشنطن إلى تونس فحمل نصها "لا حوار بين الحكومة الأميركية وليبيا - رفضت الولايات المتحدة إجراء حوار مباشر مع ليبيا منذ تورطها في تفجير ملهى لابيل في برلين عام 1986. ومنذ فرض عقوبات الأمم المتحدة عام 1992، حاولت ليبيا التفاوض على إلغائها وإنهاء عزلتها الدولية من خلال عشرات الوسطاء الدبلوماسيين والخاصين. نعتقد أن هذه المحاولات للتفاوض خارج قنوات الأمم المتحدة غير مفيدة وتؤدي إلى نتائج عكسية، لأنها تشجع طرابلس على الاعتقاد أن بإمكانها حل مشكلاتها الدولية من دون الامتثال لقرارات الأمم المتحدة".
وقالت الرسالة الأميركية أيضاً "المقترحات الليبية في شأن أماكن بديلة للمحاكمة، أو جلسات المحكمة الدولية، أو تدابير حفظ ماء الوجه لإنهاء نزاع لوكربي مخادعة. وهي تمثل محاولة متعمدة لتأخير أو تجنب الامتثال لقراري مجلس الأمن 731 و748".
وأضافت "يجب أن تفهم حكومة معمر القذافي أنها برفضها الامتثال للمطالب المشروعة لقراري الأمم المتحدة 731 و748، فإنها لا تتحدى الولايات المتحدة أو المجموعة الثلاثية فحسب، بل تتحدى مجلس الأمن نفسه. وفي هذه القرارات اتخذ المجلس قراراً تاريخياً بالإشارة إلى أن العالم لن يتسامح بعد الآن مع رعاية الدول للإرهاب".
وكانت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وافقت على عدم التفاوض بشكل منفصل مع ليبيا في شأن تفجيرات لوكربي، متمسكة بأن القناة الوحيدة المتاحة لطرابلس في هذا الصدد هو الأمين العام للأمم المتحدة، بعد تردد إشاعات عن انخراط واشنطن في حوار مع ليبيا أو أن مناقشات خاصة تجري من شأنها تعديل التزام ليبيا التنفيذ الكامل لقراري مجلس الأمن الدولي 731 و748.
شروط تعجيزية
صحيح أن الرسالة الأميركية المرسلة إلى وزير خارجية تونس تضمنت نقاطا عدة تتعلق بقرارات مجلس الأمن الصادرة ضد ليبيا، لكنها في نهايتها تضع شروطاً تعجيزية من قبل واشنطن وتتجاوز قرارات مجلس الأمن، وتضمنت أن "الرسالة الوحيدة التي توجهها الحكومة الأميركية لليبيا هي أن طرابلس يجب أن تمتثل بالكامل لقراري مجلس الأمن 731 و748 من خلال تسليم المشتبه فيهما بتفجير لوكربي لمحاكمتهما في الولايات المتحدة أو بريطانيا".
ومن بين الشروط التعجيزية أيضاً ضرورة "تعاون ليبيا مع التحقيقات الأميركية والبريطانية والفرنسية في التفجير المشار إليه"، و"دفع التعويض المناسب، وإنهاء جميع أشكال الدعم للإرهاب الدولي".
علاوة على ذلك طالبت الولايات المتحدة ليبيا "بإنهاء تورطها في أنشطة زعزعة الاستقرار (والإرهاب) من خلال الشركات الأمامية للمكاتب الشعبية الليبية ومركز مناهضة الإمبريالية، والتخلي عن جميع الجهود المبذولة لتحقيق الحرب الكيماوية أو أي قدرة حرب غير تقليدية، وهذا يشمل، على سبيل المثال لا الحصر، تفكيك مصنع الأسلحة الكيماوية الليبي الجديد والحد من مشتريات منظومات الأسلحة ذات القدرات الهجومية بعيدة المدى".