Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كرنفال رومنطيقي للمبدعين يتحول تظاهرة صباحية صاخبة في قلب باريس

ألكسندر دوما يدعو رفاقه إلى المشاركة فيتأخر ديلاكروا ليصبح نجم الاحتفال الغامض

ألكسندر دوما (1803 - 1870) (غيتي)

ملخص

تألق الرسام أوجين ديلاكروا عبر فنه ولكن أكثر من ذلك عبر لعبته الذكية التي حطمت أعصاب صديقه ألكسندر دوما لأيام

حدث ذلك مع إطلالة ربيع عام 1833 في زمن كان التيار الرومنطيقي في شتى أنواع الآداب والفنون قد وصل إلى ذروته، وما إن حلت أواسط شهر مارس (آذار) من ذلك العام حتى قرر الكاتب ألكسندر دوما، ولمناسبة موسم كرنفالي يحتفل به بصخب عادة، أن يقيم احتفالاً كبيراً يدعو إليه رفاقه الرومنطيقيين آملاً في أن يكون الكرنفال مناسبة ترسخ زعامته، المعلنة على أية حال، للجانب الروائي من التيار، حينها، إذ أجرى دوما حساباته واضعاً لائحة بمدعويه وجد أن عددهم يربو على الـ400، غير أن دارته على اتساعها اللافت لم تكن لتتسع لأكثر من نصف ذلك العدد، فما العمل؟ الجواب ليس عسيراً، فصاحب "الفرسان الثلاثة" تمكن من العثور على الحل بسرعة: اكتشف أن ثمة قاعة للإيجار لمثل تلك المناسبات تقع على بعد يسير من دارته يمكنها أن تستوعب الـ400 مدعو وأكثر، فسارع إلى استئجارها، لكن جدرانها كانت خالية من أية زينة بل من أية ألوان، فكانت النتيجة أن بعث دوما بالرسائل الملحة إلى كل أصدقائه الرسامين طالباً منهم التعاضد لإنجاز لوحات وجدرانيات وما شابه ذلك تكون زينة فنية للاحتفال وتسير على خطى الفن الرومنطيقي.

 

الكل ما عدا واحداً

خلال أيام قليلة، حمل عشرات الفنانين وبينهم كبار الكبار ألوانهم وريشهم وبقية ما يحتاجون إليه من معدات وأسرعوا يقتحمون القاعة ليتخذ كل واحد منهم زاوية يمارس فيها فنه، وسيستمر ذلك العمل أياماً، وكان دوما يتابع نشاط رفاقه يوماً بيوم بل ساعة بساعة، ولكن مع مرور الأيام راحت غصة حادة تعصر قلبه: فإذا كان جميع الفنانين قد استجابوا وبحماس شديد، إذ تحولت القاعة بالتدرج إلى متحف فني حقيقي، ظل زعيم الفنانين الرومانطيقيين أوجين ديلاكروا خارج السمع والبصر، وهو منذ البداية لم يرد على دعوة دوما الذي وجد أن كرامته لا تسمح له بالإلحاح، لقد بدا واضحاً أن ديلاكروا لم يعبأ لا بدعوة دوما ولا بكرنفاله، وظلت الحال على ذلك النحو حتى الصباح المبكر ليوم الكرنفال نفسه، عند ذلك الصباح بدا كل شيء معداً على أية حال لذلك المساء التاريخي الذي بات دوما على يقين من أنه سيكون من دون ديلاكروا، ومع ذلك ترك له فسحة خالية في مكان بارز لمجرد أن يكون قد قام بما عليه فعله وما تمليه عليه ضرورات الصداقة التي بات واثقاً من أن الرسام الرومنطيقي الكبير قد أخل بها، ولكن من قال إنه أخل بها؟

ووصل ديلاكروا أخيراً

فالحال أنه ما انقضت ساعة على فتح أبواب القاعة صباحاً لاستكمال الاستعدادات التي تسمى في أيامنا هذه "لوجيستية" وتحضير أطنان الأطعمة والمشروبات، حتى أصاب الذهول ألكسندر دوما، إذ أبلغه المشرفون على الاستعدادات الأخيرة في القاعة بأن ديلاكروا قد وصل محملاً بألوانه وفرشه مصحوباً بمساعدين له، بل إنه شرع منذ لحظة وصوله، وإذ دُل على الفسحة المخصصة له، فسره مكانها المميز، شرع في إنجاز لوحة من وحي موضوع الاحتفال.

في البداية، لم يصدق دوما ذلك بل أسرع من دارته إلى القاعة مضطرباً ليرى رفيقه غارقاً بالفعل في رسم لوحة ضخمة تمثل بطلاً شعبياً إسبانياً تسميه الأساطير المتداولة "دون رودريغو"، ويعتبر في البلد المجاور لفرنسا بطلاً رومنطيقياً من طراز رفيع، بل إن ديلاكروا لم يكتف بأن يسبغ على البطل الإسباني سمات رومنطيقية بل جعل له سمات تقربه من القديس جورج وهو يصارع ويصرع التنين في الأيقونات الدينية، محاولاً من خلال ذلك ضم الأسطوريات الدينية إلى العالم الرومنطيقي ولسان حاله يقول فلنخترع طالما أن الحكاية كرنفال في كرنفال وما نقوم به مجرد فن عارض موقت سيختفي تماماً منذ صبح الغد!

ساعات قليلة للوحة مميزة

لقد احتاج أوجين ديلاكروا إلى ساعات قليلة لإنجاز تلك اللوحة التي راح يشتغل عليها على مرأى صديقه الكاتب الكبير، بل حتى على مرأى الخدم الذين كانوا يروحون ويجيئون مصلبين أيديهم على وجوههم معتقدين أن الفنان الكبير يرسم لوحة دينية! وسيدرك دوما من فوره أن رفيقه الرسام قد اشتغل على فكرته في "إخراج مسرحي" مقصود طوال الأيام السابقة بل تمرن حتى على رسم اللوحة بسرعة عجائبية، تاركاً الأمور غامضة ومعلقة لمجرد أن يصبح هو نجم الكرنفال بدلاً من أن ينجز ما هو مطلوب منه كما فعل الآخرون. ومن هنا، صحيح أن الكرنفال كان حديث الباريسيين وغيرهم طوال الأسابيع التالية، لكن ديلاكروا تمكن من أن يجعل من لوحته كما من أسلوبه الغامض المدروس بعناية في تنفيذها، حديث الساحة الفنية والأدبية الفرنسية وربما الأوروبية أيضاً طوال أشهر وربما سنوات، ومهما يكن من أمر هنا، من المؤكد أن شعب باريس نفسه ما كان من شأنه أن يهتم لا بمأثرة ديلاكروا ولا بحيلته الاجتماعية - الفنية التي أملاها عليه هوس الزعامة الذي كان مستبداً به حينها.

هجوم في الأزقة الباريسية

ما اهتم به شعب باريس بشكل خاص كان ما حصل عند صباح اليوم التالي ومنذ ساعات الفجر الأولى، حتى من دون أن يكون على علم بأن ما يراه الآن في الأزقة والشوارع الباريسية ليس سوى الخاتمة الصاخبة لليلة كانت أكثر منها صخباً، ذلك أن الاحتفال بالكرنفال داخل القاعة كان احتفالاً شارك فيه الفنانون والأدباء بثياب تنكرية وأقنعة تذكر بما كان يشاهد في كرنفالات البندقية، لكن الأجمل من ذلك كان اختيار المدعوين بل بخاصة المدعوات التنكر في أزياء ملكات فرنسا السابقات وكبار رجال تاريخها من دون أن يسهو عن البال اختيار كثر منهم استعارة ملابس شخصيات من المسرحيات التاريخية بل حتى من روايات لدوما نفسه، والواقع أن ذلك التنكر الذي شمل العدد الأكبر من المدعوين، وهم من كبار الكبار من قاطني العاصمة الفرنسية وعلى رأسهم السبعيني ماركيز دي لافاييت الذي كان معروفاً بكونه "الفرنسي الذي صافح الرئيس الأميركي جورج واشنطن"، وها هو ذا "بين الضيوف يبتسم بود للجميع الذين عرفوه حتى مرتدياً ثياب شخصية الدومينو" كما يروي دوما في مذكراته، ولعل من المسلي هنا أن نشير إلى أن ما حدث داخل القاعة واستغرق الحديث خلاله عن إنجاز ديلاكروا ساعات وساعات لن يكون شيئاً مقارنة بما شاهده الباريسيون كما أشرنا.

ما رآه الشعب البسيط

فالباريسيون الذي لم يكونوا يعرفون شيئاً عن حفلة الرومنطيقيين، راحوا يفاجأون وقد بدأوا بفتح حوانيتهم والاستعداد للانطلاق في يوم عمل عادي من أيام حياتهم، بالرومنطيقية تنتشر من حولهم من طريق عشرات الشخصيات المتنكرة في ثياب غريبة تبدو طالعة من الروايات والمسرحيات بل حتى من اللوحات التشكيلية التي كان بعضهم على معرفة بها، كان هجوماً مباغتاً غريباً تملأه الضحكات الصاخبة والصراخ الثمل وتعثر السكارى متنقلين من زقاق إلى آخر، محيين الرومنطيقية والرومنطيقيين بعبارات من المؤكد أن الباريسيين البسطاء لم يفهموا منها شيئاً حتى وإن كان أكثرهم ذكاء قد خمنوا أن سراة القوم الموسرين يتابعون لهواً كان قد بدأ عند العشية السابقة، وهو أمر كان على أية حال معتاداً ولا يقابل من الباريسيين إلا ببعض التعليقات المشمئزة طالما أن القائمين به كانوا دائماً 10 أشخاص أو أكثر، أما الآن، فثمة مئات منهم، بالتالي سيستغرق الباريسيون زمناً قبل أن يفهموا أن باريس الأدبية والفنية الرومنطيقية إنما كانت عند ذلك الصباح، تعلن عن ذروة انتصارها في المعارك التي كانت تخوضها ضد مناوئيها من النيو – كلاسيكيين، لكنه كان إعلاناً متأخراً بالنظر إلى أنه لم تمض نصف دزينة من السنوات إلا وكانت الحركة الرومنطيقية قد لفظت أنفاسها الأخيرة ولم يبق منها سوى منجزات فنية تملأ المتاحف بالنسبة إلى هواة الفن، إلى جانب نصوص رائعة لهواة الأدب، إلى جانب الذكرى المسلية لعشية وصباح ضجت فيهما شوارع باريس وتألق الرسام أوجين ديلاكروا عبر فنه، ولكن أكثر من ذلك عبر لعبته الذكية التي حطمت أعصاب صديقه ألكسندر دوما... لأيام.

المزيد من ثقافة