Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجدل يحتدم حول احتفالات روسيا بعيدها الوطني

موسكو تحاول التسامي فوق أحزان الماضي بـ"عيد" يحار أبناؤها أمام تاريخه وسابق أهدافه

أعضاء في حركة الشبيبة الوطنية الروسية يشاركون في إحياء يوم روسيا في مدينة ماريوبول الواقعة جنوبي شرق أوكرانيا، الإثنين 12 يونيو الحالي (أ ف ب)

ملخص

ذلك ما جرى إقراره في الجلسة "التاريخية" التي عقدت في الـ26 من يونيو 1990 لاعتماد وثيقة "سيادة روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية"

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ    بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ

أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ     فَلَيتَ دونَكَ بِيدًا دونَهَا بِيدُ

في مثل هذا اليوم من كل عام، الـ12 من يونيو (حزيران)، يعود عدد من أبناء روسيا لشاعرنا العربي أبو الطيب المتنبي ليتغنون معه ومع أبناء العاربة، بقصيدته التي يعود تاريخها إلى ما يزيد على ألف عام، وكأنما يريدون التذكير بما كابده بعضهم من آلام وأحزان ما راودهم من "خيبة أمل" في من كانوا يعقدون عليه الأمل والرجاء.

وإذا كان هناك من يقول إن الفارق كبير في جوهر المناسبة والتاريخ بين سيف الدولة الحمداني في الشام وكافور الإخشيدي في مصر وبين بوريس يلتسين "قيصر" روسيا الذي يرتبط به تاريخ الـ12 من يونيو 1990، فإن هناك من أوجه الشبه كثيراً مما يمكن استيضاحه في الأسطر التالية أدناه، وما يمكن أن يكون هادياً ودليلاً وتفسيراً لبعض ما يحتدم من جدل في مثل هذا اليوم، حول ما ارتبط ويرتبط به من "ذكريات" سواء في روسيا أو في البلدان العربية، على حد سواء.
بداية نقول إن تاريخ الـ12 من يونيو 1990 هو اليوم الذي اختاره الرئيس الروسي الأسبق لتوقيع "مرسوم سيادة روسيا الاتحادية" الذي راحوا يتداولونه إعلاناً عن استقلال روسيا، وإن جاء ذلك مقروناً بكثير من الجدل الذي يدور حول معنى المناسبة وحقيقة الاحتفال بها، وما إذا كانت المناسبة هي بداية النهاية للاتحاد السوفياتي السابق، من حيث كونها إعلاناً عن "استقلال روسيا".

ومن هنا راح خصوم ذلك المرسوم ينطلقون في مواقفهم من أنه إذا كان التاريخ إعلاناً عن بداية النهاية، فلماذا تكون روسيا في صدارة الجمهوريات التي سارعت إلى معاول الهدم والتدمير، وهي التي تعود اليوم إلى "البكاء على اللبن المسكوب" أسى وحسرة على ما كان، وما سجله الرئيس فلاديمير بوتين بقوله إن "انهيار الاتحاد السوفياتي السابق أكبر كارثة جيوسياسية في القرن الـ20". أما إذا كان الأمر يتعلق بسيادة واستقلال روسيا الاتحادية، فلعله يكون منطقي أن نتساءل اليوم مع السائلين: "السيادة والاستقلال؟ عمن؟".
وثمة ما يشير في هذا الصدد إلى أن هذه "الخطوة" من جانب يلتسين، كانت فاتحة "كوارث ومصائب" سرعان ما حلت بالاتحاد السوفياتي، بعد أن كانت سبباً في كثير من مثيلاتها، ومنها ذلك القرار المماثل الذي بادرت أوكرانيا باتخاذه في الـ16 من يوليو (تموز) من العام نفسه حول "سيادة الدولة".

ومن اللافت أن هذا القرار كان أكثر راديكالية من قرار روسيا الاتحادية، بما نص ضمناً عليه من أن يكون لمواطني أوكرانيا جنسيتهم الخاصة، وللدولة الأوكرانية قواتها المسلحة المستقلة، وأجهزتها الأمنية الداخلية التابعة لمجلس السوفيات الأعلى الأوكراني بكل تبعات هذه الامتيازات التي كانت مقدمة لما اتخذته أوكرانيا لاحقاً في الـ24 من أغسطس (آب) 1991 من قرار حول الاستقلال، وما تلا ذلك من توقيعها لمعاهدة الخروج من الاتحاد السوفياتي، مع روسيا وبيلاروس في ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، وهو ما نستعرض تفاصيله في هذا التقرير.  

شخصية يلتسين

وكان المؤتمر الأول لنواب الشعب في روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية وراء "إعلان سيادة روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية"، الذي سرعان ما أثار كثيراً من الجدل الذي ارتبط في كثير من جوانبه بشخصية بوريس يلتسين ولم يكن انتخب بعد رئيساً لروسيا الاتحادية. وحارت الغالبية تجاه مضمون هذا المرسوم وحقيقة توجهاته وإن توقفت أكثر عند مضمونه، فصائل عدة من اليسار والقوى الوطنية التي لطالما ربطت بين يلتسين وما كان يصدر عنه من توجهات أو تصريحات أو قرارات.

ويذكر التاريخ أن المجتمعين خلصوا آنذاك إلى اختصار صياغة النسخ المختلفة المقترحة للمرسوم، التي بلغ عددها في البداية ست وثائق في نص واحد، تمحورت حول شخصية يلتسين بوصفه أبرز المرشحين لرئاسة "السوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية".
ويقول التاريخ إن مؤتمر نواب الشعب لروسيا الاتحادية السوفياتية الاشتراكية اعتمد واحدة فقط من تلك الوثائق، إذ قدمت للمناقشة بوصفها الصيغة الأكثر ملائمة للمرسوم المقترح لـ"إعلان السيادة" خلال الفترة من الـ16 من مايو (أيار) وحتى الـ22 من يونيو 1990. ولم تكن قضية السيادة الروسية سوى واحد من المواضيع الرئيسة على جدول أعمال المؤتمر.

وكانت كتلة "روسيا الديمقراطية" ذات التوجهات اليمينية الليبرالية أكثر الفصائل المؤيدة لفكرة إعلان "سيادة روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية"، التي طرحت بوصفها السبيل إلى معالجة مشاريع أخرى مختلفة للسيادة السياسية والاقتصادية، ومنها ما كان يتعلق بتحديث النظام السياسي، وبناء الدولة المدنية من خلال البحث عن شرعية جديدة للسلطة، بعيدة من الأيديولوجية الشيوعية. وذلك ما كان يكفي لإيضاح "جوهر الإصلاحات الاقتصادية المتوقعة، والمواقف تجاه الحزب الشيوعي السوفياتي والاشتراكية، والهيكل الفيدرالي لجمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية وسيادة الدولة". وذلك ما جرى إقراره في الجلسة "التاريخية" التى عقدت في الـ26 من يونيو 1990 لاعتماد وثيقة "سيادة روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية" و"نتائج المؤتمر الأول لنواب الشعب".

وننقل عن أوليغ سمولين، أحد الحضور والمشاركين التاريخيين في هذه الجلسات، ما قاله في حديثه إلى إذاعة "كومسومولسكايا برافدا" تعليقاً على الاحتفالات بهذه المناسبة التى سبق وجرى إقرارها "عطلة رسمية"، "بالنسبة إلي هذه ليست عطلة، بل يوم حداد. أتذكر جيداً أنه في الـ12 من يونيو عندما تبنى المؤتمر إعلان نواب الشعب في روسيا بفرحة كاملة مع تصفيق مدو مع هتافات ’مرحى‘، هناك تم الحصول على نتائج رائعة تمثلت في أكثر من 900 ’مع‘ و13 ’ضد‘، وكنت من أولئك الذين لم يصوتوا لإعلان ’سيادة الدولة‘ وأتذكر مشاعري جيداً. اعتقدت أنني إما أصبت بالجنون أو أن أعضاء المؤتمر أصيبوا بالجنون، الآن أنا فخور لأنني لم أكن ضمن من أدلوا بأصواتهم".

ومضى ليقول إنه "وعلى رغم التأكيد أن روسيا يجب أن تحصل على السيادة في إطار الاتحاد السوفياتي بشكله الجديد، فقد تضمن الإعلان بنداً أصبحت بموجبه قوانين روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية ذات أولوية، تضعها في درجة تعلو قوانين الاتحاد السوفياتي. وذلك ما خلق حوافز هائلة لتدمير الاتحاد السوفياتي سرعان ما تلقفتها أوكرانيا ثاني كبريات الدولة السوفياتية كما أسلفنا، وذلك فضلاً عن اليقين بأن الحرب الأهلية في طاجيكستان والحرب الأهلية في مولدوفا والحرب الأهلية في الشيشان لم تكن سوى نتاج لذلك القرار الذي اتخذ في الـ12 من يونيو".

ولمزيد ممن تقترب رؤاهم وتقديراتهم مما قاله سمولين، نشير إلى آخرين كثيرين قالوا إن "أولئك الذين يعزون انهيار اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية إلى اعتماد إعلان ’السيادة الروسية‘ على حق جزئياً، نظراً إلى ما فقده الاتحاد السوفياتي من وضعية الدولة الاتحادية، إلى جانب أمور أخرى بسبب هذا القانون التشريعي. وكانت روسيا قدمت بذلك المثال الذي سارعت جميع جمهوريات الاتحاد السوفياتي إلى تلقفه لاتخاذه نبراساً تحذو حذوه، إذ بدأت في تبني "إعلانات السيادة" الخاصة بها، وأصبحت أكثر استقلالية عن السلطة المركزية للاتحاد السوفياتي.

مخاوف غورباتشوف

وتأكيداً لهذا التوجه، نشير إلى ما ساور الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف من مخاوف احتمالات الانهيار، على وقع "تغول" بوريس يلتسين وانفراده بالسلطة في روسيا، غير عابئ بأي تشريعات أو قيود تحد من شرعية الدولة الاتحادية، وانحيازه إلى ممثلي التوجهات الانفصالية في بلدان البلطيق التي سارع بالسفر إليها في مطلع يناير (كانون الثاني) 1991 للإعراب عن تأييده لما أعلنته من مراسيم "انفصالية". وهو ما يظل موضع إدانة وانتقاد من جانب كثيرين من أبرز رجالات الدولة حتى الآن، وما كان في صدارة أسباب اقتراح غريمه التاريخي الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف حول الاستفتاء الشعبي على "بقاء الاتحاد السوفياتي دولة اتحادية"، في الـ17 من مارس (آذار) 1991. ولذا لم يكن من الغريب آنذاك أن تقول الأغلبية الساحقة من أبناء الاتحاد السوفياتي السابق كلمتها تأييداً لبقاء الدولة الاتحادية بنسبة 77,85 في المئة من المشاركين في التصويت، في مقابل نسبة 22,15 في المئة أعلنت رفضها.

واستناداً إلى ما أسفر عنه الاستفتاء من نتائج عكف الرئيس السوفياتي السابق غورباتشوف وعدد من أبرز رموز الدولة السوفياتية ومنهم نورسلطان نزاربايف رئيس جمهورية كازاخستان على تدارس الموقف الجديد بما يكفل صياغة مناسبة للمعاهدة الاتحادية الجديدة، تدعو إلى لم شمل ما بقي من جمهوريات في إطار مغاير يكون مناسباً لخلق تجمع جديد يتسع لهذه الجمهوريات التي بلغ عددها تسعاً من أكبر جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. غير أن عدداً من كبار قيادات روسيا الاتحادية من ممثلي "الحرس القديم"، كانوا أعدوا العدة لذلك "الانقلاب" الذي قاموا به ضد غورباتشوف في الـ17 والـ18 من أغسطس 1991، بهدف الحيلولة دون الإقدام على مزيد من "التنازلات"، وهي التسمية التي كانوا يصفون بها ما طرحه من إصلاحات.

ولكم كان من سخريات القدر أن يعود يلتسين لينتهز فرصة محاولة الانقلاب الفاشلة لتدعيم مواقعه على حساب سلطات ومكانة غريمه التاريخي غورباتشوف، إذ انفرد بسلطة إصدار القرارات السيادية الفيدرالية، ومنها قرار حظر نشاط الحزب الشيوعي السوفياتي وتعيين المسؤولين عن الوزارات السيادية ومنها الخارجية والداخلية والدفاع، مما أسهم في تعظيم معارضة نظرائه في الجمهوريات الأخرى واحتجاجهم، وفي مقدمتهم أوكرانيا وبيلاروس وكازاخستان وكان سبباً في تعجل كل هذه الجمهوريات اتخاذ قراراتها حول إعلان استقلالها، ومنها أوكرانيا التي كانت أولى الجمهوريات التي سارعت إلى إعلان استقلالها في الـ24 من أغسطس 1991، بعد أن كانت أيضاً الأولى التي حذت حذو موسكو في "إعلان سيادتها"، وأذربيجان وقيرغيزستان في الـ31 من أغسطس، وأوزبكستان في الأول من (أيلول) سبتمبر، وطاجيكستان في التاسع من سبتمبر، وتركمنستان في الـ27 من سبتمبر.

ولم يتوقف الرئيس الروسي الأسبق عند هذا الحد، بل مضى في طريق الخصومة ومحاولات الإطاحة بغورباتشوف إلى ما هو أبعد، إذ دبر مع نظيريه في كل من أوكرانيا وبيلاروس ليونيد كرافتشوك وفياتشيشلاف شوشكيفيتش "مؤامرة" توقيع معاهدات "بيلوفجسكويه بوشا" في الثامن من ديسمبر 1991 حول خروج جمهورياتهم من الاتحاد السوفياتي، وهو ما كانت بلدان البلطيق أعلنته في وقت سابق من ذلك العام. وكان يلتسين بادر إلى الاتصال بالرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب لإخطاره بمثل هذه الأخبار قبل إبلاغ رئيس الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، الذي اعتبر ذلك "عاراً ما بعده عار" على حد تعبيره. وتقول الوثائق التاريخية وما تدفق من تصريحات من شهود عيان ممن نقلنا عنهم تصريحاتهم واعترافاتهم، بكارثية كل ما ارتكبه "فرسان ذلك الزمان" من خطايا تظل في مقدمة الأسباب التي أودت بالمنطقة والعالم إلى ما بلغته من كوارث ومآس تكاد تدفع بالبشرية إلى حرب عالمية ثالثة. وذلك ما تناولته "اندبندنت عربية" في أكثر من تقرير، تأكيداً للدور التخريبي الذي لعبه يلتسين في انهيار الاتحاد السوفياتي بحسب ما خلص إليه كثر من كبار المسؤولين في روسيا وخارجها.

على أن ذلك كله ورغماً عما ارتبط به من "خطايا" حقبة تسعينات القرن الماضي، فقد عاد الرئيس فلاديمير بوتين إلى الاعتراف بتلك المناسبة، وإن عمد إلى تغيير اسمها إلى "يوم روسيا" التي تحتفل به روسيا كل عام على نطاق يتسع يوماً بعد يوم، مما يشير ضمناً إلى أن الرئيس الروسي يركن في محاولات البحث عن "إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، إلى ما يتصوره سبيلاً إلى استعادة الدولة لكثير مما فقدته من وقار وما تعرضت له من انكسار، إلى اعتبار "إعلان سيادة روسيا" بوصفه نقطة البداية في مسيرة روسيا التاريخية، صوب بناء "الدولة الديمقراطية" القائمة على الحريات المدنية وبناء دولة القانون، بحسب تعبيره وهو الذي سبق وأعرب في أكثر من مناسبة عن أسفه لسقوط الاتحاد السوفياتي، وإدانته وانتقاده لما ارتكب في حق التفريط بوحدة أراضي روسيا الاتحادية.

المزيد من تحقيقات ومطولات