ملخص
مع استمرار الاشتباكات يبن الجيش وقوات الدعم السريع التي شارفت على شهرها الثالث، تفتح أبواب جحيم آخر يعيشه الناجون من القتال ولكن بجروح عميقة في نفوسهم
لم تقتصر مأساة الحرب في السودان على القتل والنزوح والآثار الكارثية التي لا تطال الأرض والبنية التحتية فحسب بل تمتد تداعياتها المدمرة إلى الإنسان.
ففي حالات الصراع المسلح يحرص كثيرون على الابتعاد عن الأذى الجسدي، لكن الواقع يؤكد أن المعارك الحربية تخلف عبئاً نفسياً فادحاً لا يبارح عقول معظم الناجين منها.
ومع استمرار الاشتباكات يبن الجيش وقوات الدعم السريع التي شارفت على شهرها الثالث، تفتح أبواب جحيم آخر يعيشه الناجون من القتال، ولكن بجروح عميقة في نفوسهم، وبحسب متخصصين في مجال العلاج النفس فإن استرجاع أصوات القنابل ودوي المدافع وصور أشلاء الجثث في مخيلة الكبار والصغار من أقوى الصدمات التي شكلت تبعات نفسية قاسية.
صدمات واضطرابات
الاستشاري النفسي عمرو إبراهيم مصطفى قال، إن "الحرب تؤثر بشكل مباشر على حياة غالبية السودانيين، ومن واقع تخصصي وجدت أن أكبر التأثيرات وأشدها هو الصدمات والاضطرابات، فمنذ اندلاع المعارك تابعت مئات الناجين وتوصلت إلى قناعة بأن كبار السن والأطفال والنساء هم الفئات الأكثر تضرراً، وظهرت على كثيرين منهم أعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة، إضافة إلى أزمات نفسية أخرى، ومن خلال مقابلاتي مع المئات برزت أعراض التجنب، وتتمثل في فقدان الذاكرة والنسيان، وقد يبلغ مداها أن يهيم أحدهم على الطرقات في حال من الذهول الكامل من هول ما شاهده أو سمعه أو أخبر به".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يرى مصطفى أن "التجنب سلوك قد يدفع المرء في حال الصدمات إلى تجنب كل ما هو قاس أو مخيف، وفي حالات الصراع المسلح يكون أكثر ما يثير الذعر أحياناً هو امتلاء الذاكرة بالمشاهد العنيفة والمخيفة وغير المعتادة مما يؤدي إلى أعراض القلق والخوف والتوتر والاكتئاب والإحباط، وهنا يظهر النسيان نتيجة صعوبة تعامل العقل مع هذه التجارب، بالتالي يهيم المرضى في الطرقات من دون تفكير أو وعي، مما يسهم في تزايد أعداد كبار السن المشردين وفاقدي الذاكرة".
واعتبر الاستشاري النفسي أن "المعارك القتالية الدائرة حالياً لا تدمر مباني العاصمة الخرطوم وحدها، بل وتهدم أهم العناصر في هذا البلد وهو الإنسان".
إحباط وانعزال
في غضون ذلك، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي بالسودان إعلانات عن كثير من الحالات لمرضى فاقدي الوعي، بخاصة كبار السن من الجنسين، تائهين في الطرقات بسبب عدم تحملهم تبعات القصف الجوي والمدفعي المرعب.
تصف الطالبة الجامعية نهى الطاهر فضل، أوضاع بعض الناجين من الحرب بالمأسوية نظراً إلى تعرض عدد منهم إلى صدمات نفسية قاسية، مطالبة بـ"وقف القتال العبثي وإعادة الأمن والاستقرار إلى السودان".
وتوضح أن "المعارك الشرسة بالقرب من ضاحية بري بالخرطوم تركت أثراً كبيراً في نفسي، فقد كنت أفكر في اللحظة والطريقة التي سيتم بها قتلي وأهلي في أي لحظة بعد تساقط الرصاص ودوي المدافع بشكل متواصل من دون ما انقطاع، وعلى رغم مغادرتي العاصمة إلى منطقة آمنة فإنني ما زلت أشعر بالخوف، وأصبحت أخشى أي صوت قوي، وأبقى أحياناً في عزلة تامة أو أدخل في حداد مطول على فقدان المنزل، وزاد من ذلك شعوري بعدم الاستقرار".
تتحسر الطالبة على توقف الدراسة وتهديد مستقبلها في ظل الظروف الحالية، وتشير إلى أن "حياتها توقفت وشعرت بالإحباط واليأس من توالي الصدمات"، كاشفة عن سعيها للعلاج في أحد المراكز الصحية بولاية الجزيرة جنوب العاصمة الخرطوم ومقابلة متخصصين لتلقي الدعم النفسي".
استجابة محدودة
نسبة كبيرة من الفارين خارج ولاية الخرطوم تحمل إحباطاً وانعزالاً وأرقاً وغضباً، مما يمثل جزءاً من المشكلات النفسية والعصبية والاجتماعية التي قد تصبح لصيقة بحياتهم في المستقبل.
تقول المتخصصة النفسية تهاني أحمد سعد إن "الاضطرابات النفسية تهدد حياة المئات ومستقبل كثير من الأطفال في ظل الاستجابة المحدودة للمنظمات الدولية لهذا التهديد، باعتبار أنها تركز أنشطتها على معالجة الآثار الرئيسة للنزاع وتتجاهل المصابين بصدمات نفسية وحالات مشابهة، وعلى رغم هرب الآلاف من مسرح القتال فإن بعضهم يحتاج إلى الدعم النفسي".
ونبهت إلى أن "أبرز الحالات تعاني أمراضاً عصبية مثل الاكتئاب الحاد والهلع وقلق ما بعد الصدمة والهستيريا والتبول اللاإرادي والنشاط الزائد وكوابيس النوم والتأتأة لدى الأطفال".
وفي شأن الفئات التي تعرضت لصدمات واضطرابات، تنوه تهاني إلى أن "أكثر المتضررين نفسياً هم الأشخاص الأضعف وغير القادرين على الاستجابة للضغوط، خصوصاً النساء والأطفال وذوي الإعاقات".
وتحذر من إهمال هذه الفئات وعدم استحداث أقسام وعيادات لتقديم استشارات ودعم نفسي، لأن تداعيات آثار الحرب على الصحة النفسية للسودانيين ستلقي بظلالها لسنوات على كثيرين، مما يستوجب اتباع نهج شامل وطويل الأمد لتوفير خدمات معالجة المشكلات النفسية التي تلوح في الأفق".
مشكلة أزلية
في الأعوام التي سبقت اندلاع الحرب عانت خدمات الصحة النفسية في الأصل من نقص حاد بالمرافق التي تقدم الخدمات في السودان، وعقب اندلاع المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع تعرض مستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية والعصبية في مدينة أم درمان، والمعروف شعبياً لدى السودانيين بمستشفى (المجانين)، إلى الإخلاء بالقوة من جميع المرضى الذين كانوا يباشرون علاجهم داخله، كما أن الصرح العملاق الذي يقصده المرضى من جميع أنحاء البلاد ويدرب الأطباء وطلاب الطب والتمريض وعلم النفس تعرض لدمار كبير جراء القصف ليخرج من الخدمة تماماً.
تشير الباحثة الاجتماعية والنفسية مروة علي عيسى إلى أن "إهمال علاج المتأثرين بالصدمات والاضطرابات يضاعف من مخاطر إصابتهم بأمراض مزمنة مثل الاكتئاب والسلوكيات الاندفاعية، ويرفع معدلات النزوع للانتحار لدى البعض، بخاصة إذا لم تتم الاستجابة لمعاناتهم على النحو السليم، كما أن تحمل الصدمة يختلف من شخص لآخر لأن هناك فروقاً فردية بين البشر".
وتضيف أن "أطفالاً لا يزالون خائفين على رغم هربهم إلى مناطق آمنة، والتعافي لن يتم بين يوم وليلة، فهناك صدمات نفسية وقتية مثل الإغماء والهلع يمكن أن تصل حد الموت، وهو ما حدث في الأسبوع الأول من الحرب في واقعة وفاة طفلة خوفاً نتيجة رؤيتها مشاهد مؤلمة".
وتوضح عيسى أن "كبار السن تأثروا بالتداعيات النفسية والاجتماعية للحرب، كما أن هناك أطفالاً يعانون التبول اللاإرادي والفزع أثناء النوم، إضافة إلى حركة الجسد والأطراف".