Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جورج أورويل تردد طويلا قبل أن يطلق النار على الفيل

الكاتب الإنجليزي يمهد في ذكرياته الكولونيالية لكتاباته الغاضبة وصولاً إلى "1984"

جورج أورويل (1903 – 1950) (بي بي سي)

ملخص

الكاتب الإنجليزي يمهد في ذكرياته الكولونيالية لكتاباته الغاضبة وصولاً إلى "1984"

قبل أيام قليلة نشرت "اندبندنت عربية" عرضاً مشوقاً قيماً وغنياً بالمعلومات لكتاب سيرة جديد صدر عن الكاتب جورج أورويل. والحال أن المحرر جعل للعرض عنواناً يستشف منه القراء المتعجلين أن صاحب "1984" و"مزرعة الحيوانات" كان في فترة من شبابه شرطياً يقتل بلا رحمة في "بورما" أو ما سيسمى لاحقاً "ميانمار". صحيح أن سياق العرض يعدل الأمر، ولكن فقط بالنسبة إلى القارئ المدقق، ولكن يبقى أن الأمر يحتاج إلى تعليق ليس لإعادة الاعتبار إلى الكاتب ولكن خدمة للحقيقة. ومن هنا، حتى وإن غضضنا النظر عن تغاضي مقدمة التعليق عن ذكر واحد من كتب السيرة الأساسية التي وضعت لحياة أورويل (كتاب برنارد كوك الذي نقله الراحل ممدوح عدوان إلى العربية نقلاً رائعاً)، نجدنا نستعيد هنا ما كتبه أورويل نفسه عن حكايته كـ"شرطي قاتل" للحكم على الأمور بشكل أفضل. ومن هنا ولدت ضرورة استعادتنا هذا النص.

هكذا تكلم أورويل

"عندما يتحول الرجل الأبيض إلى طاغية، تكون حريته أول شيء يفقده". بهذه العبارة تحدث أورويل ذات يوم عن السبب الحاسم الذي دفعه إلى كتابة ذلك النص القاسي والمحير "إطلاق النار على فيل" الذي كان، حين كتبه في خريف عام 1936، واحداً من أول نصوصه الكبرى، على رغم أنه كان نصاً قصيراً. كتب أورويل هذا النص في الوقت نفسه الذي كان ينجز روايته الكبرى الأولى "أيام بورمية" التي استقاها من الحياة التي عاشها في بورما، يوم كانت هذه جزءاً من الإمبراطورية البريطانية. حينها كان ضابطاً في الشرطة الملكية البريطانية هناك. وما رواية "أيام بورمية" ونص "إطلاق النار على فيل"، سوى انعكاس لمشاهداته في تلك المنطقة من العالم، والمعاناة التي تلبسته هو الذي كان اشتراكي النزعة إنسانيها منذ يفاعته، وكان يكره كل أنواع الإمبريالية والحكم الشمولي إلى درجة أنه، لاحقاً، وبعد أن اكتشف شرور الستالينية، كتب أهم روايتين فاضحتين للشمولية: "1984" و"مزرعة الحيوانات". غير أن أورويل يوم كتب "إطلاق النار على فيل" كانت كراهيته لا تزال محصورة في الإمبراطورية البريطانية التي كان من بين مآخذه عليها ليس فقط كونها تضطهد الشعوب التي تحتل أراضيها، بل كونها أيضاً وبخاصة "تحول البريطانيين أنفسهم إلى طغاة وأشرار"، لا سيما حين تطلب منهم أن يخدموها في البلدان المحتلة، ما يضعهم على تماس غير حميد مع السكان الأصليين، الذين لا يمكنهم أن يعتبروهم شيئاً آخر، غير جنود في خدمة هذه الإمبريالية.

الشرطي يروي الحكاية

إذاً، فإن الصورة التي يرسمها قلم أورويل في "إطلاق النار على فيل" هي صورة مرسومة بقلم الراوي، الذي كان، عام 1926، شرطياً في ميانمار (من 1922 إلى 1927). ومن هنا فهو، إذا كان كتب النص عام 1936، فإنه كتبه من ذاكرته، متحدثاً عنه بصفته نصاً يروي ما حدث حقاً. ومع هذا فإن كثراً من الباحثين يرون أن الحادثة لم تحصل، وإنما ابتدعتها مخيلة أورويل، فقط للتعبير سيكولوجياً، عن عدائه للإمبريالية التي تضعه في أمكنة لا يريدها. فما الذي يرويه هذا الراوي هنا؟ يروي، بالتحديد، حكاية رجل شرطة يجد نفسه ذات يوم في مواجهة وضعية تتطلب منه أن يطلق النار على فيل جامح تمكن من الفرار ويدور الآن في الشوارع مهدداً الناس من دون أن يتمكن أي من السكان المحليين من الإمساك به أو إبعاده. والحادثة هي، في نهاية الأمر، تقوم في إطلاق النار بالفعل، حتى مات الفيل، ولكن في النص الذي كتبه أورويل، ليس هذا هو المهم... المهم هنا الطريقة التي بها تعامل أورويل/ الراوي مع الحكاية كلها... وكيفية انعكاسها عليه، والتفاصيل المتعلقة بكونه شرطياً أجنبياً تابعاً للدولة الإمبريالية، طلب إليه أن يقوم بفعل محدد أمام السكان الأصليين، هؤلاء السكان الذين يكرهونه، لأنه إنجليزي، بقدر ما يخافونه، بالتالي يتابعونه في مسعاه وقد تحكمت بهم، وبه، مجموعة من المشاعر المختلطة.

قسوة الواجب

يحدث هذا كله، إذاً، في مدينة مولماين، حيث نخبر منذ البداية بأن الضابط الذي يروي الحكاية تتجه عواطفه نحو الشعب البورمي، في نضاله، الصامت حيناً والصاخب حيناً آخر، ضد الإنجليز. فهو من النوع الذي لا يستسيغ حكم شعب لشعب آخر. غير أنه في الوقت نفسه وكما يجدر بكل رسمي إنجليزي أن يكون، لا يمكنه إلا أن ينفذ الأوامر، متبعاً دوره الرسمي كـ"ممثل للسلطة الإمبريالية القمعية". وهو، انطلاقاً من هنا، يجد نفسه على الدوام عرضة لإهانات واعتراضات البورميين، لا سيما منهم الرهبان البوذيون الشبان الذين يعتبرهم "أسوأ الجميع". ويكون من سوء طالع هذا الضابط أن يتلقى ذات يوم مكالمة تفيده بأن عليه أن يخلص المدينة من الفيل الجامح، فلا يكون منه، وهو المزود بمسدس ونشستر عيار 0.44 والممتطي صهوة حصان قزم، إلا أن يتوجه من فوره إلى بازار المدينة حين شوهد الفيل. وهناك إذ يجد نفسه يدخل واحداً من أفقر أحياء المدينة، تصله عدة تقارير متناقضة عما يحدث، فيندفع إلى الاستنتاج من خلالها أن الأمر كله خطأ في خطأ، وبات عليه أن يعود إلى المكان الذي أتى منه، لكنه عند تلك اللحظة بالذات يشاهد امرأة قروية تشتم فتياناً لأنهم راحوا، باستهتار، يتفرجون على جثة رجل هندي كان الفيل نفسه قد سحقه. وهكذا يتيقن ضابط الشرطة أن الفيل موجود وخطر، لذا يطلب أن ترسل إليه في مكانه بندقية أقوى من سلاحه تكون قادرة على قتل الفيل، ثم يتوجه، يتبعه مئات من الشبان من أهل المنطقة إلى حقل يقف الفيل في وسطه لا يلوي على شيء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هنا تبدأ الحكاية

وهنا في الحقيقة يبدأ النص العميق: ذلك أن الراوي كان قد طلب البندقية كي يحمي نفسه بها من هيجان الفيل، لكنه يجده هادئاً ولا يبدو عليه أنه يشكل أي خطر، فيقرر أنه لا يجدر به أن يطلق النار عليه. غير أنه إذ ينظر إلى الجموع المحيطة والشاخصة ببصرها إليه وإلى الفيل، يدرك من فوره أن هذه الجموع تتوقع منه أن يقتل الفيل، فإن لم يفعل، "ستكون هيبة الإمبراطورية كلها على المحك". ويجد صاحبنا نفسه بين فكي كماشة: فهو إما أن يوقف المسألة برمتها وسط احتقار الجموع وشماتتها به، وإما أن يقتل الفيل، فيبدو أكثر جنوناً من هذا الأخير. والحقيقة أن أورويل سيصف هذا المشهد لاحقاً مفسراً: "لقد شعرت في تلك اللحظة بالذات أنني لم أعد أكثر من دمية يتقاذفها ذوو الوجوه الصفراء المحيطون بي". أي إن كل تصرفات ضابط الشرطة الراوي هنا، لم تعد محكومة بتصرف الفيل، الذي ستبدو عليه لا مبالاة مدهشة إزاء ذلك كله، بل صارت محكومة بتصرفات الجموع... تماماً كما يحدث في حلبات مصارعة الثيران حيث يتعين على المصارع وقبل أي شيء آخر، أن يأخذ في اعتباره ما جاء الجمهور المتفرج ليفعله هنا. وعلى هذا النحو، إذ يعرف الراوي أن مواقفه ومشاعره صارت كلية خارج اللعبة، ليس عليه إلا أن ينفذ من ناحية الأوامر المعطاة له بقتل الفيل، ومن ناحية أخرى توقعات الجمهور. وعلى هذا النحو لا تعود النيات الطيبة ذات بال بين مطرقة السلطة وسندان المتابعين. وفي النهاية يطلق الراوي النار على الفيل مرات عدة، ثم يتركه وسط حملقة الجمهور، ليخبر لاحقاً بأن الفيل تعذب نصف ساعة قبل أن يلفظ الروح.. ولكن ما العمل، هل كان في وسعه أن يفعل أي شيء آخر؟

تمهيد لأعمال كبيرة

على رغم أن هذا النص قصير، وقد لا يكون محملاً بأي دلالة لو لم يحمله الكاتب دلالته المهمة، فإنه اعتبر الممهد الأكثر قوة للمواقف التي ستجعل جورج أورويل (واسمه الأصلي، إريك آرثر بلير) يقف ضد كل أنواع الأنظمة الشمولية والإمبرياليات. ومن المعروف أن أورويل (1903 - 1950) كان خلال النصف الأول من القرن الـ20 واحداً من أكبر الروائيين والصحافيين الإنجليز، إضافة إلى أن نزعته النضالية الاشتراكية قادته إلى المشاركة في الحرب الأهلية الإسبانية، في صفوف الجمهورين قبل أن تخيب آماله، ويتحول إلى ناقد للممارسات الاشتراكية والستالينية منها بخاصة... وهو ما نقرأه في معظم أعماله التي كتبها ونشرها طوال أربعينيات القرن الـ20 وصولاً، طبعاً، إلى رائعته وأشهر كتبه "1984" التي كثيراً ما تستعاد وتطبع من جديد وتؤفلم في مناسبات لعل أشهرها في السنوات الأخيرة وصول الرئيس السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض!

المزيد من ثقافة