خلال مأتم عمي قبل سنوات، جلست بقربي سيدة تربطني بها صلة قرابة بعيدة وهمست لي "الحمد لله، تحرّرت زوجته المسكينة منه أخيراً". نزلت كلماتها كالصاعقة عليّ، أنا المفجوعة بألم الفقد. ما هذه القسوة التي تجعل إنساناً يشتم الموتى حتى قبل أن تتلقفهم الأرض؟ وفي النهاية، اكتشفت أنّ عمي درج على ضرب زوجته التي كانت على الرغم من شجاعتها، سجينة الأعراف والتقاليد.
تحضر تلك الكلمات في ذهني اليوم بعد مرور أكثر من عقد على الحادثة، مع انتشار حملة رفض العنف الأسري #saynotodomesticviolence في باكستان. هل كان على زوجة عمي أن تسرّ إلى أحدٍ بما تتعرض إليه؟ ما الذي غفلنا عنه؟ هل أقدّم إلى بناتي النصائح الرائجة حالياً حول الموضوع؟ لكن قبل كل ذلك، ما الذي يعتبر حادث عنف أسري؟ هل تصحّ ذريعة "انظري إلى ما دفعتيني لفعله"؟ إذا تخطينا مرحلة اللوم، كيف نصلح الوضع؟ تلك الأسئلة معقدة ومقلقة وقد تفاداها المجتمع الباكستاني إجمالاً.
في ذلك الوقت، أعطتني الكلمات التي سمعتها في المأتم شعوراً بالراحة لأنّني اعتبرتُ أنّ المرحلة الأسوأ قد انتهت أخيراً في حياة زوجة عمي. أما اليوم فأرى أنّ الترهيب الذي مارسه شخص موضع ثقة في عائلتي الكبيرة على شريكته، كان إشارة إلى أزمة أعمق مفادها أنّ العنف الأسري يعتبر طبيعياً والضغائن والأحقاد التي تقابل كل من يفشي بذلك السرّ تجبر الضحايا على السكوت.
أنهيتُ سنوات الجامعة ودخلتُ سوق العمل. وأخذتُ أسمع قصص زميلاتي في العمل والمساعدات المنزليات وحتى امرأة غريبة التقيت بها على متن رحلة جويّة. واكتشفتُ كيف يسود العنف الأسري في المجتمع ويتغلغل من دون تمييز بين طبقة أو عرق أو دين في باكستان. إذ تتساوى الطبّاخة المُسنّة التي تعمل في بيت والدتي مع تلك الشخصية الشهيرة في عالم الأزياء التي تكسب الملايين، في أنهما عرضة للتعنيف. تراوحت القصص التي سمعتها بين العنف المفضوح والكدمات المخفية من دون أن يقلّ الأول فظاعةً عن الثاني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في 2018، توصّل تقرير صادر عن الأمم المتحدة إلى خلاصة الموضوع، إذ أبرز أن منزل المرأة أخطر الأماكن عليها. وعلى نحوٍ مُشابِه، يفيد "البنك الدولي" إن نحو واحدة من بين كل ثلاثة باكستانيات متزوجات تُبلّغ عن تعرّضها للتعنيف الجسدي. لذا، في كل مرّة تتعرض امرأة للإذلال لأنها رفعت صوتها ودافعت عن نفسها، أو ترفض المحكمة إدانة أحد المعتدين، أو يسخر برنامج تلفزيوني من العنف الأسري، تعتبر تلك الأفعال تشجيعاً على الإرهاب المنزلي وتعزيزاً له.
استطراداً، غالباً ما يكون مردّ الإلتباس في مسألة العنف الأسري إلى تبريراته المنتشرة والمتوافق عليها على غرار كونه ضربة حظ عاثر، أو وجود الشخص في المكان والزمان غير المناسبين، أو تعاطي المخدرات أو الكحول، أو الضغوط المالية، أو الحسّ الحسن بالتملّك، أو نهاية سيئة للعبة الجنس، أو طبع الرجل الميّال إلى الأذى، أو التأكيد الكاذب على أنها مجرد مرحلة لا بدّ أن تنتهي مع الوقت. يتوجّب هدم تلك الأساطير. إذ ترجع المسؤولية في العنف الأسري إلى حسّ ذكورية مسموم ومتأصل في تنشئة فتية شبّوا عليه في جنوب آسيا، ما يجعل الاختلال في موازين القوة بين الجنسين أمراً طبيعياً، بل مبجّلاً. كذلك يؤدي تعزيز الصفات "الذكورية" التقليدية مثل العدائية والتسلّط وغريزة القتل "الطبيعية"، إلى جعل العنف الأسري جرعة تغذّي حس الأنا عند الرجل، كما تدعم المعتقد الذي يزعم أن العالم ملك الرجال قبل كل شيء. عندما يحوّل المجتمع نظره عن تلك الممارسات، يزداد التعنيف، وسكوتنا عليه يجعلنا متواطئين مع الجريمة.
في المقابل، قبل أن نحكم على الضحايا لأنهن قبلن التعذيب، يتوجّب علينا التدقيق في ثمن الإفصاح عن التعنيف. ومن بعيد، يبدو السكوت دلالة على الجبن، لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. وغالباً تكون الضحايا مطحونات تحت وطأة الإذلال المُتوّقع، ويضنيهن الخوف، لكنهن على الرغم من ذلك لا يتوقفن عن التساؤل عن وجوب أخذ المخاطرة. ويخطّطن بتأنٍّ للهروب، ويدرسن المخاطر، ويضعن استراتيجيات كي لا يشكل الأمر خطراً على أطفالهن. وليست تلك الخطوات سهلة، خصوصاً في باكستان، حيث يُحكم حتى على الثريات من بين النساء بأنهنّ مثيرات للمشاكل إن اتخذّن تلك الخطوة ضد رجالهن.
قبل سنة، انفجرت إحدى زميلاتي السابقات بالبكاء في منتصف الحديث فيما كانت جالسة إلى مائدتنا. كان زوجها يرميها بالأثاث أمام أعين ابنهما البالغ من العمر ست سنوات، كما كان قد بدأ مؤخراً بخنقها أثناء تأديتهما إحدى الألعاب الجنسية. كان بكاؤها نقطة تحوّل حرّكت في داخلي أقوى شعور بالاشمئزاز، لكنني لم أسمح لغضبي بالتحوّل مرارة وحقداً. بالأحرى، كان ذلك مناسبة كي أفكر بطريقة تكفل لنا تحويل الغضب عملاً مجدياً.
في ذلك السياق، أعلم أنّ باكستان بحاجة إلى ثورتها الخاصة كي تتحرّك الأمور، لكن كيف يمكن إشعال فتيل تلك الثورة؟ يكمن الجواب في مقاربة من شقين.
أولاً، يتوجّب أن يحتل موضوع العنف الأسري موقعاً أكثر بروزاً في كافة جداول الأعمال، سواء أكانت عالمية أو محلية أو سياسية أو شخصية. وبما أنّ الكلام سهل يجب استبدال ما تعوّدنا على سماعه من الجميع بدءاً بشركائنا ووصولاً إلى رئيس الجمهورية، بصوغ حلول فعلية من شأنها إنقاذ حياة الناس. يشمل ذلك السياسات وخطوط المساعدة الساخنة، وإنشاء مكاتب المساءلة، وتسريع إصدار الأحكام في المحاكم، واستحداث وحدات العلاج النفسي وتأمين التمويل للملاجئ. في تلك الحالة وحدها، تغلب المنفعة من وراء الإفصاح على الأثمان التي تترتب عليه. لكن يجب أن تترافق إجراءات معالجة مشكلة التعنيف مع الحوار الذي يكون هدفه تغيير ثقافة تعتبر العنف الأسري طبيعياً. وإذا تحقق ذلك، تتوقف الأمهات عن إبداء الإعجاب بأبنائهنّ إذا عنّفوا زوجاتهم لأنهن عانين قبلاً معاملة مماثلة أو "لأنها استحقت التعنيف". وإذا تحقق ذلك، نتوقف عن محاولة تجبير ما تعرّض للكسر ونقدم عوضاً عن ذلك الدعم الوقائي الذي يدفع المعتدين إلى إعادة التفكير في أفعالهم قبل أن يقدموا عليها.
وحاضراً، عندما أفكر في الماضي، أجد أن أفضل نصيحة كنت لأسديها إلى زوجة عمي وزميلتي في عالم مثالي، كانت لتكون "لا تمشي بعيداً عنه، بل اركضي". لكن لا شي مثالي في عالمنا. لذا، كتبتُ عن قصتيهما بوصفهما دليلاً على أن العنف غير قابل للتفاوض والمساومة، والتعنيف ليس مادة للفكاهة على الإطلاق، وكُلنا مسؤولون عن ترميم الكسور وتضميد الجراح. إذ تستطيع الإرادة الجامعة وحدها أن تعطي الأمل بحصول تغيير نحو عالم لا يضطر فيه المرء أن ينتظر وفاة شريكه كي يتحرّر.
( تعمل صبا كريم خان في جامعة نيويورك في أبو ظبي)
© The Independent