ملخص
لم يكن غاليليو يتصور وهو يخوض في كتابه مسألة علمية خالصة أن ذلك سيضعه تحت طائلة محاكم التفتيش
لا شك أن صاحب العلاقة كان من أول المدهوشين حين طلبته محاكم التفتيش لتحاكمه تلك المحاكمة الشهيرة التي خلدها برتولد بريخت في القرن العشرين من خلال مسرحية يعتبرها كثر من أهم أعماله، واشتهرت بجملتها الأخيرة التي أعلن فيها المحكوم أن "الشمس ما زالت تدور على أية حال"، لافتاً أن إذعانه لما طلبته منه المحكمة الدينية من الاعتراف بأن الشمس هي التي تدور حول الأرض، وليس العكس، قد يعني أي شيء، ولكن ليس أن الشمس هي التي تدور فعلاً.
نعرف طبعاً أن من نتحدث عنه هنا هو العالم والمفكر الإيطالي النهضوي غاليليو غاليلي الذي يدور حديثه هنا حول واحد من الكتب التي ستحدث تغييرات أساسية، ليس فقط في مساره الفكري الخاص، ولكن أيضاً في مسار الفكر والعلم العقلانيين. والكتاب المعني هنا هو "حوار حول منظومتي العالم الكبيرين، منظومة بطليموس، ومنظومة كوبرينكوس".
أما دهشة غاليليو فنبعت من أنه لم يكن يتصور وهو يخوض في كتابه مسألة علمية خالصة، أن ذلك الكتاب سيجر عليه المتاعب. لكنه كان مخطئاً، إذ على الفور، ما إن اطلعت السلطات الكنسية على الكتاب يومها حتى أحست بقدر كبير من الرعب والغضب، وسارعت إلى البدء في محاكمة الرجل، تلك المحاكمة الشهيرة.
كان من المنطقي في ذلك الحين أن تعهد سلطات الفاتيكان الكنسية بإجراء المحاكمة إلى ما كان يسمى "محاكم التفتيش" التي كان مجرد ذكر اسمها يثير الرعب في فؤاد أي مفكر حر، أو أي مبدع يريد أن يعبر عن فكرة جديدة.
كانت محاكم التفتيش، ومنذ نشاطاتها في إسبانيا بعد استعادتها من المسلمين قد آلت على نفسها أن ترجع بالفكر العلمي قروناً إلى الوراء، إلى عصور الظلمات، فكان أكثر ما يثير حنقها أنها على رغم مرور العقود والقرون لا يزال ثمة من يفكر. ومن هنا كانت كل محاكمة تجريها، وكل حكم تصدره، يعد حجراً في بناء سور سميك ضد كل ما هو عقلاني.
إقامة جبرية
يومها، دامت محاكمة غاليليو قرابة السنة. وأمام دهشة كثر تبدت محاكم التفتيش متهاونة إلى حد ما مع ذلك العالم، إذ اعتبرت أنه لا يأتي بجديد، بل ينسخ عن سابقين له ما توصلوا إليه، لذلك سيكتفى بأن يطلب منه كحكم صادر عليه أن يعود عما جاء في كتابه، لا سيما فيما يتعلق بالتأكيد على أن الأرض ما هي سوى كوكب من الكواكب يدور من حول الشمس.
كان رأي الكنيسة في ذلك الحين أن الأرض ثابتة مسطحة، لا أكثر، ولا أقل. أي إنها لا تدور. إذاً، عند نهاية المحاكمة قبل غاليليو بالتسوية كما نعرف. ومهما يكن، بدءاً من ذلك اليوم عاش معزولاً عن العالم في قريته الصغيرة آركتري تحت حراسة رجال الكنيسة الذين وقفوا حائلاً بينه وبين اختلاطه بأي أحد كان، مانعين بما في ذلك زيارة أصدقائه له. غير أنه، مع هذا وفي غفلة عن حراسه تمكن غاليليو من أن يتصل في شكل متواصل مع زملاء له من العلماء والمفكرين، لا سيما الأجانب منهم، من العقلانيين المقيمين في بلدان الشمال البروتستانتي التي كانت تتيح قدراً ما من حرية الفكر في ذلك الحين.
يقول لنا التاريخ إنه في الوقت الذي عتم فيه الإيطاليون والإسبان بشكل عام على "مأساة" غاليليو وأفكاره، تمكن الشماليون من احتضان تلك الأفكار واستعادتها، محاولين بين الحين والآخر نشر هذا الكتاب من كتبه، أو توزيع ذلك النص.
جون ملتون وحرية الفكر
وهكذا، حدث للعالم المعاقب أن استقبل ذات يوم الفيلسوف الإنجليزي توماس هويس، الذي فاتحه يومها في شأن ترجمة كتابه "حوار حول المنظومتين" إلى الإنجليزية. وفي يوم آخر زاره الشاعر، الذي كان شاباً في ذلك الحين، جون ميلتون، صاحب "الفردوس المفقود". وطبعاً لن يعرف أحد بالضبط ما دار بين الاثنين من أحاديث خلال تلك الجلسة، ولكن يعرف الجميع أن ملتون بدا متأثراً بمأساة العالم الكبير، إلى درجة أنه لاحقاً في بعض صفحات ملحمته الشعرية الكبيرة "الفردوس المفقود" وصف توسكانا، حيث يقيم غاليليو سجيناً، بأنها "وكر الشيطان".
ولسوف يرى كثر من مؤرخي الفكر لاحقاً أن عديداً من الأفكار التي أوردها ميلتون في نصه الشهير الذي دبجه لاحقاً حول "حرية الفكر"، إنما أتى وليد تلك الجلسة اللافتة بين عالم عجوز يعاني ظلم المتشددين، وشاعر شاب يقف مدافعاً عن حرية التعبير وإنسانية الإنسان.
حوار 4 أيام
هنا، بعد كل شيء، ما هو هذا الكتاب الذي أدى إلى ذلك كله؟ ما هو الخطر فيه؟
في الحقيقة، إن العنوان الأصلي والطويل جداً للكتاب، من شأنه أن يعطينا بداية أساسية لجواب هنا، فهو في الأصل "حوار تم فيه خلال أربعة أيام الدفاع عن المنظومتين الفلكيتين الأساسيتين، منظومة بطليموس ومنظومة كوبرينكوس، حيث جرى فيه استعراض المحاججات الفلسفية والعلمية لدى الفريقين، دون الحسم باتجاه أي منهما".
هذا هو العنوان الأصلي للكتاب، وهو يعني بالطبع أنه يستعرض حواراً مطولاً دار بين فريقي النزاع حول المنظومتين، غير أن ما يتوجب التوقف عنده هنا هو أن المقطع الأخير من العنوان، الذي يشير إلى أن الحسم لم يكن ممكناً بين الفريقين، كان أقرب إلى أن يكون خدعة، لا سيما بقلم غاليليو، وذلك لأن هذا الأخير كان في حقيقة الأمر قد حسم موقفه، هو الذي كان على قناعة تامة بصواب المنظومة الكوبرنيكية المتحدثة عن دوران الأرض حول الشمس، وهي النظرية التي كانت تلقى معارضة شرسة من جانب الكنيسة.
أما بالنسبة إلى بطليموس، فإن فكرته حول ثبات الأرض كانت هي السائدة منذ 1500 سنة، حيث تبنتها الكنيسة ولم ترض بأي محيد عنها، بل كان ثمة من بين أهل الكنيسة أساقفة وقفوا ضد أرسطو في هذا المجال وحده مع تأييده في عديد من أفكاره ونظرياته الأخرى، وذلك لأن أرسطو صور دائماً، في عديد من الأدبيات والنصوص العلمية كمؤيد لنظريات بطليموس في هذا المجال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع هذا، ثمة لوحة نحاسية كانت شهيرة في القرن الثامن عشر للألماني جوزيف مولدر تصور نقاشاً حاداً بين أرسطو وبطليموس حول الموضوع نفسه، استخدمت غلافاً لإحدى طبعات كتاب غاليليو، وفيها يشرح بطليموس نظريته حول ثبات الأرض، فيما لا يبدو أرسطو مقتنعاً هو الذي كان، وإن جزئياً من أوائل المعتمدين على نظرية الحركات الفلكية، علماً بأن غاليليو كان يرفض أيضاً كل أطروحات أرسطو حول هذا الموضوع.
الحرية ثمن التفكير
إذاً، دفع غاليليو غالياً ثمن فكرته المدافعة عن دوران الأرض حول الشمس، وكان من بين الثمن حريته، إذ نعرف أنه أبقي في تلك "الإقامة الجبرية" معظم سنوات حياته، غير أن هذا لم يكن مصير أفكاره وكتبه، ولا مستقبل نظرياته، بل إنه في سجنه، أي دارته الواقعة غير بعيد من مدينة فلورنسا، تابع أشغاله الفكرية والعلمية على رغم اعتلال صحته، وكتب خلال تلك السنوات الصعبة واحداً من كتبه سيصبح في الزمن اللاحق من أشهر تلك الكتب، وهو كتاب "خطاب حول العلوم الجديدة"، وفيه درس جمودية ودينامية الأجسام، كما أنه دنا، دون أن يجد حلاً مرضياً له من معضلة تحديد سرعة الضوء التي ستحل بعد أزمان طويلة، ولكن يبقى لصالحه أنه كان من أوائل الذين أمسكوا بداية الخيط لحلها، وكان قد بدأ الاشتغال على هذا الموضوع قبل سنوات عديدة حين عين، قبل غضب الكنيسة عليه، فيلسوفاً ورياضياً أولاً في بلاط دوق توسكانيا.
والحال أن غاليليو استند حينها إلى قوة وظيفته وعلاقته بالبلاط التوسكاني كي يجابه الكنيسة، التي في نهاية المطاف، حين رأت خطره ماثلاً استعانت بمحاكم التفتيش، كما أشرنا أعلاه. وكان أن حققت عليه ذلك "الانتصار" الذي رماه جسدياً في السجن، لكنه لم يتمكن من أسر أفكاره التي ظلت تعتمل في رأسه ويشتغل عليها حتى أصيب بالعمى في آخر سنوات حياته، ليهدأ أخيراً ويموت في عام 1642، العام نفسه الذي ولد فيه إسحاق نيوتن الذي سيكون من بين مكملي مسيرته عن عمر يناهز الرابعة والثمانين.