Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فهمي جدعان يراجع الفكر العربي المعاصر برؤية نقدية

"معنى الأشياء: رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر" كتاب جديد في توجهه وأسلوبه

لوحة للرسام أحمد الوعري (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

"معنى الأشياء: رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر" كتاب جديد في توجهه وأسلوبه

قريباً من العمل في حقل "تأريخ" الأفكار والحركات الفكرية والمشاريع السياسية/ الاجتماعية التي شهدها زمن ما يسمى النهضة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وصولاً إلى انتفاضات الربيع العربي ومآلاتها، يوجه المفكر وأستاذ الفلسفة فهمي جدعان ما يشبه الرسائل الفكرية، في رسالة أراد لها أن تكون قريبة من رسالة الجاحظ في "التربيع والتدوير". رسالة كتبها في معزل عن ضوابط البحث الأكاديمي التي حكمت كتاباته سابقاً، بل ضمن أكبر قدر ممكن من الحرية في التفكر والتعبير عن المشاعر. ولذلك فلا غرابة ولا ضير في حضور "ذات" جدعان، المفكر الكاتب الإنسان، المتسائل والقلق، في فقرات هذه "الرسالة" كلها.

فبعد متابعتنا عديد الإسهامات الفكرية التي قدمها جدعان على مدى عقود من الحياة الثقافية- الفكرية العربية، بدءاً من دراساته ذات الطابع الأكاديمي، خصوصاً "نظرية في التراث" ثم "أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث" وانتقالاً إلى "المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام" ثم "الطريق إلى المستقبل: أفكار- قوى للأزمة العربية المنظورة"، ودراسات في النسوية الإسلامية الرافضة، وصولاً إلى كتابه- سيرته "طائر التم" الصادر قبل عامين تقريباً، فضلاً عن دراسات بالفرنسية والإنجليزية... صدر له أخيراً كتاب جديد في توجهه وشكله وأسلوب اشتغاله، جاء بعنوان "معنى الأشياء: رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر).

يعتمد جدعان في كتابه هذا صيغة جديدة في البحث والتفكر، وأسلوباً يعتمد الفقرات بدل الفصول والأبواب، للابتعاد عن الصبغة الأكاديمية الخالصة في البحث، مستنكفاً عن ذكر المصادر والمراجع، وما أكثرها، إلا ما يرد في ثنايا النص، والميل إلى أسلوب مراجعة مجموع الأفكار التي قدمها في كتاباته ومشاريعه الفكرية السابقة، واستخلاص أبرز مقولاتها، واقتراح إضافاته الجديدة والمستجدة، فما هذا الكتاب؟

رسالة ومحاور أساسية

الكتاب بالنسبة إلى جدعان "رسالة تستقطب ثلاثة أمور متراكبة، الأول: أنها تنطق بما انتهى إليه تفكيري في ما أقدر أنه أكثر الأشياء أهمية في وجودنا المشخص المباشر. والثاني: أنها تتمثل في الآن نفسه ما يشخص في هذا الوجود من مستصعبات تخطر في أعطاف الصيرورة التاريخية لجماعات العرب (الأمة العربية)، والثالث: أمور ضاربة في معنى ما يحاد دارة الفلسفة ويخالطها بعض المخالطة، لأن ليس للفلسفة شاطئ بيِّن وحد قاطع. فمنذ أرسطو، الذي تمثلها أنطولوجياً أو نظراً في الوجود بما هو وجود، إلى جيل دلوز، الذي جعلها إبداعاً للمفاهيم، تقلبت الفلسفة في ألف فهم وفهم...".

وهو إذ ينظر إلى "الفلسفة" على أنها "نظر إنساني في أكثر الأشياء أهمية وجوهرية في وجودنا المباشر في العام"، ثم يجري تعديلاً بسيطاً، فيقول "هي تفكر إنساني في أكثر الأشياء جوهرية وأهمية في وجودنا الحي المباشر". ويشير إلى أن كلمة "تفكر" هذه هي "كلمة عظيمة الدلالة، عميقة الأغوار، شاملة، محيطة بالمعنى الذي أقصده، أي النظر والتبيين والفهم والاعتبار والتقدير. وأنا إذ أقول (إنساني) أجنح إلى ألا أحصر التفكر في ما علقته الفلسفات التقليدية بالعقل (الخالص)، وأذهب إلى أن أشرك في عملية التفكر ما جريت على أن أنعته بالعقل الوجداني، الذي يتموضع بقوة في الكينونة الإنسانية، إلى جانب العقل المعرفي، بما هو مكون جوهري ومقوم أساسي في تصوراتنا وفي أفعالنا الحيوية".

يحتوي الكتاب على ثلاث عشرة "فقرة" تبدأ من "الدين" و"التاريخ"، وتنتهي بمناقشة مفاهيم "الحرية/ الحريات" و"العدالة" وصولاً إلى مشاعر "الكرامة" ومعانيها المتعددة، ما بين كرامة الأحياء وكرامة الميت. وما بين هذه وتلك يقدم جدعان "مرافعاته" في الحداثة والتراث والنهضة والصراع العربي الصهيوني والحب والأصالة والإيمان، وغير ذلك من هموم وقضايا و"أشياء" تمس الجوهري والمباشر في وجودنا، حيث "الشيء اسم للموجود الثابت المتحقق الذي يصح أن يتصور ويخبر عنه سواء كان حسياً أم معنوياً". ويغوص جدعان في ذلك كله بعمق وتفاصيل لا نستطيع الإحاطة بها، ونكتفي بالتوقف سريعاً عند بعض ما يبرز من "جبل الجليد"، خصوصاً في ظل خوضه في تفاصيل دينية وفقهية وأخلاقية بلا حدود.

يأس من إمكان الإصلاح

يمكننا لفت الانتباه أولاً وابتداءً إلى ما نرى أنه سبب "مضمر" وراء هذا النمط من "التفكر" والكتابة، وذلك حين يعلن جدعان في الثلث الأخير من كتابه هذا، وتحديداً في فقرة تخص تعلقه بأهم ما جاء في العنوان، ما يشبه اليأس من قدرة الحركات القائمة على إجراء أي إصلاح، فيكتب عن ثلة من "الأشياء ذات المعنى التي تقع في المركزي والجوهري مما أعتقد وأفكر... بعد قنوطي من المذاهب الجاهزة، مذاهب الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين التي أشرت إلى جلها في ما مضى من هذه الرسالة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهنا يتساءل مستنكراً "هل ينطوي هذا التعلق بهذه الأشياء على شكل من أشكال العدمية؟"، وبالطبع فهو يجيب بـ"لا، بكل تأكيد، لأن ما أتعلق به ينتمي إلى الواقع المباشر، الواقع الحي، الواقع الجوهري". فما يتعلق به "لا ينتمي إلى (السياسي) الفج الذي يكاد يستبد بكل من يفكر"، فهذا كما يرى "حقل الكذب والخداع والقطيعة مع الأخلاقي"، في حين أن ما يتعلق به ويشتغل عليه "ينتمي إلى ما هو أبعد غوراً وأهم وأسمى"، لأنه "الجوهري" الذي يرد في عنوان الكتاب.

ثمة مسألة ثانية تستوقف قارئ الكتاب، هي ربما مسألة تقنية تتصل بترتيب "فقرات" الكتاب، وأعني تأخير البحث في موضوع الإنسان إلى الفقرة التاسعة، على رغم تسمية الفقرة بـ"في البدء، الإنسان"، فهي تأتي بعد ثماني فقرات يعالج فيها المؤلف قضايا ومشاريع كثيرة ترتبط كلها بالإنسان و"جوهره" وطبيعته. وهذا ما يجعل القارئ يتساءل عما إذا كان البحث في الإنسان أولوية على البحث في همومه وقضاياه وأسئلته الحياتية والوجودية؟! لكن هذا التساؤل لا مجال له الآن، خصوصاً أن الأمر يتعلق ببحث في الإنسان عموماً، لا الإنسان العربي الذي يركز عليه المفكر، كما أننا هنا في صدد مراجعة وقراءة لمقولات الكتاب الأساسية.

 أسئلة ومقولات

تتعدد المقولات والأطروحات في المجال الفكري هذا، وتشمل قضايا التراث الديني والإنساني، والهوية والنهضة والسلفية والقطيعة مع الموروث بوصفه تراثاً دينياً وحسب. وتشمل مسائل تراوح بين الفلسفي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وهي إذ تتركز في تناول مشاريع النهوض العربي/ الإسلامي التي تتوزع بين المذاهب المتعددة والمختلفة والمتعارضة، ما بين إسلامية وقومية عربية وماركسية، وغير ذلك من المشاريع النهضوية الساعية إلى استلهام التراث أو تثوير هذا التراث وحتى القطيعة معه. ولا يغيب عن المؤلف- المفكر "قراءة" البعد الحضاري للشعوب والأمم، ومنها الأمة العربية بشقيها المسلم والمسيحي. ولا تخلو من مناقشات حامية الوطيس مع المشاريع الاستعمارية البغيضة.

وفيما هو يتناول مشاريع أو جهود المفكرين "الإسلاميين" من أجل النهضة، من الكواكبي حتى محمد عبده وعلي عبدالرازق وغيرهم، لا يفوته أن يلفت إلى أن مشروعه الفكري، خصوصاً منذ بداياته في كتابه الشهير "أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث" لم يكن مناهضاً لمشروع ألبرت حوراني، الذي يرصد جهود عدد من المفكرين المسيحيين العرب للنهضة، بل كان رديفاً له. فالمفكرون العرب، عنده، المسلمون والمسيحيون، كان هاجسهم الهوية الحضارية أو المدنية، وكانوا يكافحون لردم الهوة الفاصلة بينهم وبين المدنية الأوروبية الغازية.

من الأمور الجديرة بالالتفات تمييز جدعان بين المفكر والفيلسوف من جهة، والمثقف في صوره من جهة ثانية، خصوصاً على صعيد العلاقة مع العمل السياسي و"الشارع". فهو يضع كلا الطرفين في حال الخلاف، مبتعداً بالمفكر عن نخبة المثقفين، بصفة كل منهما فئة مستقلة عن الثانية، بل إن لكل منهما شأنه ووظيفته وحدوده. وبينما يتمايز المفكر بالخطاب "البرهاني"، يكتفي المثقف بتكرار "القول الخطابي/ الجدلي"، بعيداً من الأدوات والآليات المعرفية أو العلمية أو الفلسفية ذات القواعد الرصينة، كما ينقسم المثقفون بين الداعية الديني بخطابه السلفي والداعية الدنيوي الذي قد يجمل نفسه بنعت "المفكر".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة