ملخص
كشفت يوميات فيروس كورونا عن مدى تصدع مهرجانات السينما العربية وعدم قدرتها على اختلاق أي جديد يعول عليه سينمائياً بعيداً من ثقافة التكريمات
تشعرنا مهرجانات السينما العربية بنوع من الغبن الذي يجعلنا نطرح أسئلة حول جدوى هذه التجمعات الفنية في زمن المنصات الإلكترونية وآفاقها الواسعة وإمكاناتها الكبيرة، فقد كشفت يوميات فيروس كورونا عن مدى تصدع هذه المهرجانات وعدم قدرتها على اختلاق أي جديد يعول عليه سينمائياً، بعيداً من ثقافة التكريمات وما يرافقها من تهريج.
فقد أبانت جائحة كورونا أن المنصات يمكن أن تكون بديلاً عن الصالات السينمائية، ولكنه بديل موقت لأن القاعات ستبقى الحضن الأبدي للأفلام وعشها الآسر في تحقيق متعة بصرية يصعب تحقيقها وراء شاشة الحاسوب في المنازل.
غير أن الانحدارات المتواصلة التي تطبع الواقع السينمائي اليوم جعلت كثيراً من الباحثين يجزمون أن المنصات يمكن أن تكون بديلاً أبدياً عن هذه المهرجانات التي يضيع فيها الوقت وتستبدل فيها السينما بالترفيه واللهو.
مهرجانات عريقة
حظيت المهرجانات السينمائية بمكانة مميزة في تاريخ السينما العربية جعلتها تلعب دوراً كبيراً في الترويج للأفلام وإقامة علاقة صداقة بين المخرجين والممثلين والنقاد، باعتبارها مناسبات تلتقي فيها العائلة السينمائية العربية لمشاهدة الأفلام وتحليلها ومناقشتها من زوايا نظر مختلفة، بل كانت عبارة عن سوق تجارية لتحقيق مشاريع سينمائية وإقامة شراكات بين مؤسسات إنتاجية وتبادل للخبرات بين الممثلين وتغذية النقاش المعرفي بين النقاد والباحثين، بما يجعل المهرجانات ترقى بالفيلم السينمائي بدل التعامل معه كمنتج للاستهلاك فقط. ونظراً إلى الإقبال الجماهيري الذي حققته، فقد سعت مؤسسات كبيرة في الدولة جاهدة إلى دعم هذه التظاهرات الفنية لأنها تسهم في تنمية البلد والترويج لثقافته وهويته.
تتميز المهرجانات الغربية بكونها عبارة عن مشروع سينمائي ينمو ببطء داخل المدن الأوروبية. فمهرجانات من قبيل "كان" و"فينيسيا" ليست تظاهرات ترفيهية، بقدر ما تعتبر فضاءات لتأصيل العمل السينمائي، فقد كشفت هذه المهرجانات التاريخية أن السينما يمكن أن تغدو مختبراً حقيقياً لتشغيل اليد العاملة وتحقيق نوع من الرفاه التجاري داخل المدن التي تقام فيها. كونها تخلق رواجاً تجارياً عن طريق عدد هائل من الناس الذين يسافرون لمشاهدة الأفلام، بل تحرص هذه المهرجانات على تقديم خدمات بجودة مهنية عالية عن طريق توفير التذاكر وتحقيق إمكانات الولوج إلى الصالات.
في ما يتعلق بالمهنيين فإن مهرجانات السينما توفر لهم جميع ما يحلمون به، عبر عرض الأفلام وإقامة حفلات صغيرة ولقاءات مهنية بين الشركات والمنتجين وإقامة ندوات مفتوحة بين صناع الفن السابع في العالم ككل. وبهذه الطريقة يغدو المهرجان مختبراً لإعادة صياغة معنى للعمل السينمائي ويعطيه إمكانات مذهلة لتحقيق التواصل الفعال مع المتلقي. ففي كل دورة تكشف المهرجانات عن وصلة فنية جديدة تغوي بها زوارها بما يجعلهم يفكرون في زيارتها مجدداً. إنها تفتنهم وتسحرهم بالأفلام التي تعرضها وبقدرتها على جمع نجوم من فرنسا وأستراليا والهند وأميركا والسويد وغيرها من الدول التي تتوفر على بنية سينمائية متماسكة.
والحقيقة أن مهرجان "كان" سعى منذ تأسيسه عام 1946 على خلق تراث سينمائي لا ينسى، بل إنه أصبح عبارة عن تقليد فني سنوي دائم. فهو أشبه بالأعياد السينمائية التي يشهدها الجنوب الفرنسي في مايو (أيار) من كل عام. وعلى مدار سنوات راكم هذا المهرجان تقليداً سينمائياً يصعب تجاهله بسبب عناوين الأفلام التي يعرضها والجوائز المتنوعة الرفيعة التي يقدمها وفقرات التكريمات واللقاءات الصحافية بين النقاد والعاملين في مختلف الصناعات السينمائية في العالم، مما جعل هذا المهرجان يتجدد كل سنة من تلقاء نفسه ويرسم لنفسه مكانة كبيرة في تاريخ السينما العالمية.
يقول الناقد نديم جرجورة إن "المواظبين على حضور مهرجان كان وغيره من المهرجانات التي تشبهه يحاولون التوفيق بين المشاهدة وحضور المؤتمرات الصحافية المفتوحة أمام الجميع، واللقاءات الخاصة التي يتفرد بها مهتمون، ومتابعة دروس السينما، والسعي الحثيث إلى لقاءات مع فاعلين وعاملين في الصناعة بجوانبها المختلفة، ولقاءات عفوية مع زملاء مهنتي النقد والصحافة السينمائية، إلخ. ففي عالم النقد والصحافة السينمائية هناك نجوم أيضاً لديهم قوة وتأثير في زملاء وسينمائيين وعاملين في صناعة الفن السابع واقتصاده".
ارتباك الممارسة
يستحيل العثور في العالم العربي كله على مهرجانات سينمائية في حجم "كان" و"البندقية" و"برلين". لا بسبب نقص الموارد المادية، بل لعدم إيمان العالم العربي بأن السينما قد تحقق المعجزات، بحيث تستطيع إلى جانب تهذيب الذوق العام وصناعة الجمال أن تغدو مورداً اقتصادياً للشعوب العربية المنهكة على المستوى الاقتصادي. فهي تخلق رواجاً يسهم في تشغيل اليد العاملة وتحريك عجلة الإعلام وإنتاج الأفكار وجذب الموسيقيين والمغنين وخلق دينامية فنية داخل المهرجانات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أن الصورة السينمائية سريعة الانتشار وتضمر في تشكلاتها الفنية خطاباً بصرياً مكثفاً يصعب خندقته داخل تأويل واحد. لهذا يستطيع مخرج سينمائي واحد أن يلعب دوراً طليعياً على مستوى تثمين العلاقات الدولية في إطار ما يسمى الآن "الدبلوماسية الموازية"، وذلك في سبيل التعريف بالخصوصيات المحلية وإقامة شراكات اقتصادية من باب السينما. فالمخرجون العرب المتوجون في مهرجانات عالمية هم عبارة عن سفراء لبلدانهم ويستطيعون تحقيق ما لم تحلم به هذه البلدان عبر فنهم".
لكن المهرجانات العربية تصبح بالنظر إلى ممارساتها البدائية أكبر عدو يهدد استمرار السينما مما يجعلها عبارة عن حفلات وموائد وأعراس ومواسم شعبية لا علاقة لها بالفن، ويسجل النقاد ممارسات مرتبكة تعطل نهضة السينما العربية وحداثتها. فغياب الوعي بمفهوم المهرجان السينمائي يسهم في تكريس بعض السلوكيات الهشة ويجعلها تطفح إلى سطح الوسط الفني، بل إنها تغدو بطريقة ما عادة سينمائية لا ينبغي العمل بغيرها. وإلا فكيف نفسر غياب النقاد والندوات وكل ما له علاقة بالتحليل والنقاش لصالح يوميات الترفيه والاستهلاك؟ بل كيف نفهم حرص مهرجانات سينمائية على دعوة نجوم دراما وغيرها إلى حفلاتها في غياب تام لأهل السينما وصناعتها؟ هذا الرهان على تأجيج الفرجة بدل طرح الأسئلة مضر بالصناعة السينمائية، لأنه يحولها إلى بضاعة بصرية تكرس ثقافة الكسل والنوم، ويتم إنتاجها وتوجيهها من أجل إنجاح شباك التذاكر لا أكثر.
يتساءل الناقد السينمائي طارق الشناوي "هل هناك رغبة حقيقية في مواجهة تلك الفوضى التي تسيطر على المهرجانات العربية؟ حيث تتضارب المواعيد، وتشعر وكأن النجوم والأفلام العربية تنتقل من مهرجان إلى آخر. يحدث هذا ويتكرر في السنوات الأخيرة بسبب حال الزحام التي تدفع بكل المهرجانات العربية في موعد محدد، وكأنها ساعة ذروة مثل تلك التي تشهدها الشوارع وقت خروج الموظفين، وتكاد تنطبق عليها أغنية المطرب الشعبي أحمد عدوية "زحمة يا دنيا زحمة، مولد وصاحبه غايب".
غياب النقاد
يغيب النقاد داخل المهرجان العربية لأنهم غير مدعوين. فالناقد غير مرحب به كونهم لا يعرفون وظيفته وغير قادرين على تحقيق التواصل معه، إذ غالباً ما يتم تعويضه بنجوم الترفيه ممن يحولون المهرجانات إلى حفلات صاخبة يكثر فيها اللغو على حساب السينما وجمالياتها، بل إن هذه المهرجانات تتحول إلى منصات لعروض الأزياء بسبب حرصهم على التفاني في بهرجة يوم الافتتاح، حيث نعثر على نوع من البذخ غير مبرر على مستوى الأكسسوارات أمام هشاشة البرامج الفنية وما يرافقها من عروض سينمائية ولقاءات مع مخرجين وندوات علمية. وتتعمد بعض الجهات عدم دعوة الناقد السينمائي لأنه في نظرها مزعج ولا يقف عند حدود مهنته بطريقة تجعله وسيطاً بين الفيلم والمتفرج، بل إن الناقد الحقيقي هو الذي يكسر حدود الرؤية ويستعرض المعلومات وينتقد الأفلام ويكشف جمالياتها ويسهم إلى جانب المخرجين في خلق جدل سينمائي بين الواقع والمتخيل.
وحتى تتجنب بعض المهرجانات النقد اللاذع الذي يوجه إليها عادة، فإنها تحرص على إقامة ندوة علمية تستدعي إليها أساتذة غالباً لا يشاهدون الأفلام بقدر ما يظلون عند عتبات الكتب ونظرياتها وسياقاتها التاريخية، بما يجعلهم ينتجون خطاباً نقدياً يعيش في غيبوبة الماضي أكثر من كونه يتطلع إلى المستقبل.
إن كتابات النقاد الذي يكتبون في الجرائد والمجلات أقوى من تلك التي تكتب داخل مجلات أكاديمية تدعي أنها علمية، باستثناء أسماء قليلة تكتب هنا وهناك فتحاول المزج في كتابتها بين المتعة البصرية والتدقيق النظري ورهافة اللغة الشعرية والتقريرية في آن واحد.
يقول الناقد الفني نديم جرجورة في هذا الصدد "المأزق ينبثق من عادة أصيلة لدى أي مهرجان سينمائي عربي انطلاقاً من الدعوات المجانية (تذكرة سفر، وإقامة في فنادق، بعضها خمس نجوم، مع مأكل ومشرب أحياناً)، وهذا يشير ضمناً إلى أن صاحب الدعوة يتحكم بالمدعو وبمهنته، وتحديداً ذاك الذي يعمل في النقد والصحافة والإعلام. فالدعوة المجانية تعني، ضمناً، أن كل قراءة غير مادحة وغير متملقة تؤدي، غالباً، إلى امتناع إدارة المهرجان عن دعوة صاحبها لاحقاً. ولأن الدعوة مجانية، يتاح للمتحكم في لوائح الضيوف فرصة اختيار من يشاء بحسب علاقته بمن سيدعى. والطامة الكبرى تحصل عندما يكون المتحكم في تلك اللوائح ملحقاً صحافياً لمخرج أو مخرجة، والمدعو ناقداً له قراءات نقدية في أفلام لهذا المخرج أو لتلك المخرجة، والقراءات غير مستحبة لأنها غير متزلفة".
سحر المنصات
نظراً إلى هذا التشنج الذي أصبحت المهرجانات العربية تعيشه، عزم مجموعة من الكتاب والنقاد على عدم الذهاب إليها بحكم الإمكانات المذهلة التي غدت تقدمها إليهم المنصات الإلكترونية وروابطها، فهي تتيح لهم المشاهدة عن بعد والاستمتاع بالفيلم وما يضمره من صناعة جمالية بعيداً من يوميات المهرجان وعذاباته، هذا الأمر، وإن كان يظهر سلوكاً تلقائياً تجاه المهرجانات السينمائية، فإنه يضمر حجم التحول الكبير الذي عرفه مفهوم المشاهدة بالنظر إلى الطفرات التكنولوجية التي باتت تقتحم المجال السينمائي، بحيث تجعلنا نفكر في إعادة ترتيب علاقاتنا تجاه الصورة وإعادة نسج مفاهيم جديدة لابتكار عادات أخرى تساير جوهر هذا التحول التكنولوجي.
فقد برز هذا التحول منذ بداية جائحة كورونا، بعد أن بدأت تبرز أهمية هذه المنصات الإلكترونية في تقديم خدمات سينمائية إلى البشرية من دون دخول القاعة أو حضور مهرجان. وأسهم عديد من النقاد في تأجيج النقاش بين ما إذا كانت هذه المنصات تصلح بديلاً عن القاعات والمهرجانات أم إنها بديل مرتبط بلحظة صعبة تمر بها الإنسانية. صحيح أن المنصات تراجعت أهميتها مع انخفاض حدة كورونا وعودة الناس إلى ارتياد الصالات السينمائية في عدد من مدن العالم. غير أن السؤال لا يزال مطروحاً حول علاقتها بالمهرجانات، فما دام المخرجون يوفرون روابط أفلامهم للنقاد ويتم عرضها داخل جامعات ومراكز وصالات بحضور نقاد وكتاب من مختلف المجالات، فلماذا الذهاب إلى مهرجان سينمائي يتم التعامل فيه من ناقد باعتباره وسيطاً لا أكثر؟ إذ نادراً ما تعثر على ناقد سينمائي أسهم في إعداد برامج المهرجان وعمل على اختيار أفلام من دون غيرها لضرورات فنية وجمالية، بقدر ما تحول المهرجانات الناقد إلى مجرد وسيط يشرح الفيلم للمشاهد.