Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هنري ميلر يودع "إباحيته" ليوازن بين عشق الكتابة وشغف الرسم

"أن ترسم معناه أن تحب من جديد" وصية إبداعية أخيرة من الكاتب الملعون

هنري ميلر (1891 – 1980) (الموسوعة البريطانية)

ملخص

"أن ترسم معناه أن تحب من جديد" وصية إبداعية أخيرة من الكاتب الملعون

"من النادر أن تقرأ شيئاً يشبه هذا الكتاب". "هذا النص عبارة عن نافذة تتيح لنا التجوال في عقل هذا المبدع". "إنه كتاب سوف تجد فيه الروح والقوة اللتين استخدمهما هنري ميلر في سعيه لتحدي عالمه وخلق فرحه الخاص به." "إذا كنت، مثلي، تشعر أن الفن والرسم شيء جوهري لهويتك بغض النظر عن مهاراتك، أو مقدار الوقت الذي تملكه لممارسة هواياتك، أو حاجتك إلى كسب المال أو المكانة بفضل ما تنتج من أعمال، لا بد لك أن تقرأ هذه الجردة لحساب سيد متواضع في التعبير." "لا أعتقد أن الجميع سيتواصل مع مبدَع ميلر المجزأ هذا، لأنه لا يحمل درساً واحداً أو نصيحة محددة، لكني وجدت فيه مجموعة متنوعة من ضروب تشجيع تتخلل تأملاته". "أنا معجب بشكل خاص باستعداد ميلر للاعتراف باختلال التوازن بين كتاباته ولوحاته". "لقد سمح الكاتب هنا بظهور مشاعر كلا الفنين: الكتابة والرسم. لكنه في هذا النص يصف انحسار وتدفق طاقاته الإبداعية نحو كل تخصص بطريقة صادقة وواعية للغاية". "لقد أعطتني قراءة هذا الكتاب إحساساً متجدداً بأن نظرتنا الأميركية للعالم ضيقة جداً. وبالتالي لا ينبغي لنا أن نحبس أنفسنا في شغف واحد/ مهنة/ هوية واحدة، ولكن أن نسمح بدلاً من ذلك بمزيد من الانقطاع في حياتنا ونستمتع بمنافذ ووسائط متعددة للتعبير لأننا عندما نواجه "كتلة الكاتب" في داخلنا وفي حياتنا المهنية الأساسية، فإن الرسم هو أن نحب (أنفسنا وعالمنا) مرة أخرى".

مصالحة مع الوطن

للوهلة الأولى سوف تبدو هذه الفقرات المقتبسة مما كُتب عن واحد من أجمل وآخر النصوص التي كتبها الأميركي هنري ميلر في حياته وعنوانه "أن ترسم معناه أن تحب من جديد" (1960 – 1963)، وكأنها مجرد تعليقات إعجاب على الكتاب. لكن المسألة في الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. فهذه العبارات التي تكاد تلخص موقفاً عاماً عبر عنه النقاد والصحافيون الأميركيون من الكتاب، لن تعني أقل من فعل مصالحة بين ميلر ووطنه الأميركي الذي كثيراً ما اضطهده واستبعده ومنع كتبه الرئيسية منذ بدايات الربع الثاني من القرن العشرين متهماً تلك الكتابات بـ"الإباحية" ولا سيما منها كتاباه الأشهران "مدار السرطان" و"مدار الجدي" اللذان انتظرا بعد صدورهما للمرة الأولى في فرنسا عند بدايات الثلاثينيات، نحو ربع قرن قبل أن تسمح أميركا بنشرهما وتوزيعهما. بل يمكن القول إن هذين الكتابين اللذين لجأ ميلر إلى أقصى درجات الحرية في كتابتهما، لم يصلا إلى القارئ الأميركي إلا بالتزامن مع كتابه الأكثر "براءة" بكثير والذي نتناوله هنا، مع أن هذا الأخير كتب بعدهما بثلث قرن! ومهما يكن من أمر، لعل الفقرات التي افتتحنا بها هذا الكلام، تذكرنا بالقول المأثور: أن يصل الشيء متأخراً خير من ألا يصل أبداً! ونصوص ميلر لا تصل على أية حال متأخرة لأنها في الحقيقة لا يمكن أن ترتبط بأية مهل أو تحقيبات. هي خارج الزمن وإن كان من مفاخر صاحبها أنه كان ابن القرن العشرين بامتياز وعلى الأقل في بحثه عن الحرية؛ البحث الذي عاش من أجله في أوروبا وليس في مسقط رأسه الأميركي، معظم سنوات نضجه، مع أن فضائحيته الأوروبية، ولنقل الباريسية على أية حال، لم تكن أضأل من فضائحيته الأميركية... غير أن هذا ليس موضوعنا هنا. موضوعنا ذلك الكتاب الذي اعتبر من أجمل كتبه.

تجارب تشكيلية

منذ عام 1928 حين اكتشف ولعه بالفن التشكيلي بعد أن بدأ تجاربه الأولى في الكتابة التي أتت دائماً ذاتية واقعة تحت تأثير الفرنسي آرثر ريمبو بين أوروبيين آخرين، راح ميلر يمارس رسم الوجوه والمناظر الطبيعية جاعلاً من ذلك الرسم نوعاً من حديقة سرية يلجأ إليها كلما أحس بالسأم من الكتابة. وهو واصل تلك الممارسة حتى السنوات الأخيرة من حياته. لكنه لم يكن مولعاً بالكتابة عن تجاربه في الرسم إلا بين الحين والآخر. وما كتاب "أن ترسم..." سوى مجموعة الكتابات القليلة التي كتبها عن تلك الهواية: أساليبه المتعددة في اختيار مواضيعه. نظرته إلى الفنانين الذين عرفهم عن قرب. شغفه بالرسم الياباني. علاقة فرشاته وألوانه بالوجوه ولكن كذلك بالطبيعة التي هي بالنسبة إليه "أم الوجوه جميعها". وفوق ذلك كله فعل إيمانه أن ليس ثمة في الكون ما هو جميل وما هو قبيح بالمطلق وذلك لأن نظرتنا إلى الأشياء هي التي تخلق لها معناها وتضفي عليها جمالها. وكأنه يعبر هنا عن لسان حال المغني التونسي الذي يقول في أغنيته الشهيرة "لاموني اللي غاروا مني/ وقالولي شو بدك فيها... خدوا عيني شوفوا فيها". فنحن نخلق الإحساس بالجمال ونرتعب أمام ما نخلق من قبح فكيف بالفنان الذي تزيد حساسيته أضعافاً عن حساسية الناس العاديين؟

الأطفال والمجانين

ذلكم هو في الواقع المبدأ الذي يكرره هنري ميلر في صفحات هذا الكتاب، وهي صفحات قليلة على أية حال لكنها تتسع للتعبير ليس فقط عن نظرة المبدع إلى الفن ولكن إلى لوحاته أيضاً من دون أن ينسى الناشر زرع منسوخات في الكتاب لعدد من رسوم ميلر ولا سيما منها تلك التي تكاد تشي بولعه منذ بداياته برسوم الأطفال كما بمجموعات الرسوم التي ينتجها المجانين في المآوي وتبدو معبرة بأكبر قدر من الصدق خطوطاً وألواناً وتعابير، عن موقفهم من العالم، سواء كان موقفاً عدائياً أو إيجابياً أو حتى محايداً. ولعل من الأمور اللافتة في النص الافتتاحي الذي وضعه هنري ميلر للكتاب تلك المقاطع التي يحاول فيها أن يحدد دوافع انشغاله عن الكتابة بالرسم في لحظات معينة من حياته حيث نجده يقول مثلاً: "إنني لأتذكر تماماً وبكل وضوح ذلك الانزياح الذي تحقق لدي حين بدأت أنظر إلى العالم بعين رسام. حينها راحت الأشياء التي كنت متآلفاً معها بصورة طبيعية. ألوف الأشياء والتفاصيل الصغيرة المبعثرة التي كان من عادتي أن أنظر إليها بشكل اعتيادي كل يوم وفي كل مكان، راحت تتحول بالنسبة إليّ إلى ينبوع سحر لا نهاية له. بل إنها أضحت في الوقت نفسه نوعاً من أمور باتت تجتذب عاطفتي نحوها. ركوة شاي، مطرقة قديمة، طاسة مهشمة... باتت كلها ذات معنى آخر بالنسبة إليّ. والحقيقة أن كل ما راح يقع تحت يدي منذ تلك اللحظات باتت له معان أخرى ووظائف أخرى في حياتي تماماً كما أنه راح يتخذ أشكالاً أخرى تحت ناظري... ثم أشكالاً غيرها بفعل ريشي وألواني، أنا الذي بت على يقين أمام تلك الأشياء أنني كمن يراها للمرة الأولى في حياته. وكان ذلك حقيقياً في الواقع. أجل! كنت أراها للمرة الأولى وأرسمها وأتأملها فوق اللوحة مندهشاً مما يحدث. بل شاعراً كم أننا جميعاً نعيش في صمم وفي عمى عما يحيط بنا بفعل اعتيادات الحياة اليومية وبفعل فقداننا الإحساس بالتفاصيل التي تحيط بنا؟؟".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نظرة الطفل!

ومن هنا يعبر هنري ميلر (1891 – 1980) في هذا النص القصير عن نظرة جديدة إلى العالم. ليست فقط نظرة شاعر أو كاتب أو رسام... بل نظرة إنسان حقيقي يحتفظ بما تبقى له دائماً من طفولته ليكثف تلك الطفولة نظرة إلى العالم لا تفسر العالم وحده، بل ربما تفسر أيضاً الجانب الاستفزازي الذي ملأ كتابات هذا المبدع الأميركي الذي ولد في نيويورك ورحل في لوس أنجليس بعدما مر بفرنسا (1930 – 1939) وباليونان وبأقطار أوروبية عدة، ونُظر إليه دائماً بوصفه كاتباً ملعوناً لتطارده الرقابات في كل مكان، لكنه لم يكن في نهاية الأمر سوى طفل يحلو له أن يكتشف العالم كل مرة من جديد وبنظرة جديدة هي في هذا الكتاب نظرة فنان يحاول أن يفهم ما يحيط به وما سهى دائماً عن نظره على رغم احتكاكه به في كل لحظة من لحظات حياته.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة