Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تطور فكرة الاستحمام من طقس ديني إلى فعل حضاري

اغتسل الإنسان تحت الشلالات وفي الأنهار والبحار ثم فكر في وسيلة أكثر تحضراً للاستحمام

صورة لفسيفساء من اليونان يظهر فيها كيفية استخدام المياه في الاغتسال (موقع كروزينغتون)

ملخص

كيف تطور الاستحمام من طقس ديني للاغتسال إلى عادة يومية حضارية ضرورية؟

لا يستطيع الباحث التحدث عن تاريخ الاستحمام وتطوره في المجتمعات من دون الحديث عن أهم عنصر فيه وهو الماء، إذ شكل الماء وحدة مقدسة في جميع الممارسات، فهو بمثابة العنصر الباعث للحياة والعبور من مرحلة إلى مرحلة.
وترى الباحثة في عصور ما قبل التاريخ زهية بن عبدالله، أن "الماء يرتبط في المخيال الشعبي بتمثلات الألوهة وبقصص وأساطير الخلق والبداية وبتمثلات الجسد، الخصوبة والجمال، ولذلك فإن له رمزية كبيرة وقوية في صناعة الذات الاجتماعية والمعتقدات الدينية، إذ يعد الماء في هذا السياق مادة ضرورية للتخلص من كل نجس ودرن، إما لإقامة شعائر العبادة أو لأجل الزينة، بالتالي فإن للماء ارتباطاً وثيقاً بطقوس التطهير وممارسات الاغتسال والاستحمام".
فما هو تاريخ الاستحمام، وكيف تطور من طقوس دينية للاغتسال إلى عادة يومية حضارية ضرورية بخاصة بعد اختراع الصابون وانتشار الحمامات، وكيف تحولت الفكرة إلى العناية بالبشرة مع إضافات متعددة للماء؟

التطهر والوضوء

بعد أن مارس الإنسان الاغتسال تحت الشلالات وفي الأنهار والوديان والبحار، وجميع مجاري المياه الصافية، فكر بوسيلة أكثر عملية وحضارية تمكنه من ذلك كلما أراد أن يستحم، ومهما اختلفت ظروفه المكانية أو الزمانية أو المناخية، ومن هنا خلقت فكرة تشييد عمارة للاستحمام والاغتسال تسمح بتخزين المياه والتحكم في درجة حرارتها.
إذ إن البشرية عرفت نوعين من الاغتسال، الاغتسال الذي يقصد به العناية بالجسد، والاغتسال الذي يقصد به التعبد وطقوس العبور الديني، وكلاهما مختلف من حيث الشكل والوظيفة والتقنيات، فمثلاً الحضارات القديمة غالبها يحتوي على فضاء للاغتسال الطقوسي الذي يكون بغطس الجسد كاملاً في الماء، ذلك الغطس المقترن والمستوحى من خروج الإنسان إلى الحياة كيوم ولدته أمه بعد أن كان مغموراً بماء رحمها.
ويقول الباحث العراقي خزعل الماجدي في كتابه "متون سومر"، "كان حوض الغطس أو الطقسي، يسمى في الحضارة السومرية (أبسو) وكان متصلاً بقنوات مياه جارية خارج المعبد، حيث كان السومريون يمارسون طقس الوضوء قبل ممارسة الصلاة".
ويتابع الماجدي الحديث عن طقوس السومريين ويتحدث عن التطهير عندهم وعند البابليين والآشوريين، فقال إنه "يجري بطرق عدة وهي إحراق البخور وسكب السوائل كالماء والزيت والحرق والدفن والاغتسال".
كذلك كان الاغتسال أو التطهر يجري عند الكنعانيين، فوفق العقيدة كان عليهم الاغتسال يومياً، كما كان الاغتسال بعد الحرب ضرورياً أيضاً لأنها تعتبر جريمة يجب إزالة كل أثر لها، أما في الحضارة المصرية القديمة فقد كان التطهر شرطاً أساسياً لكل من يدخل المعبد سواء كان ملكاً أو كاهناً أو من عامة الشعب.



ظهور الصابون

وفيما بعد أخذت معظم الديانات عما سبقها، وبخاصة طقس الاغتسال والوضوء، فالديانة المندائية كانت معروفة بديانة التعميد أي تغطيس الجسد بالمياه، وهي الممارسة التي استمرت كذلك في المسيحية، إضافة إلى الاغتسال في اليهودية والوضوء في الإسلام، معتمدين دائماً على مفهومي الطهارة والنجاسة كمدلولات دينية مرتبطة بالحياة "الميتافيزيقة" أي الروحانية، ويقابلهما فكرتا النظافة والقذارة المرتبطتان في الحياة "الفيزيقية" أي الجسدية، فالاغتسال قبل الصلاة طهارة، وبعد المجهود العضلي نظافة.
وشهد الاستحمام أو الاغتسال نقلة نوعية بعد اكتشاف الصابون، ويقال إن مادة شبيهة بالصابون مكونة من شحم الأبقار ورماد الخشب اكتشفت في قوارير طينية في مدينة بابل تعود إلى ما قبل خمسة آلاف سنة، حيث كانت تغلى لينتج منها كرة جيلاتينية سوداء قابلة للفرك أو الحك.
وبعد فترة طويلة قام الفراعنة بصنع الصابون من شحوم الحيوانات وزيوت النباتات، عن طريق خلطها بأملاح قاعدية، ثم جاء الرومان الذين عرفوا بحبهم للاستحمام ليطوروا صنع الصابون إلى درجة أنهم أعطوه الاسم المعروف به نسبة إلى تلة سابو القريبة من روما.
فبحسب موقع "سوب هيستوري" (SoapHistory)، فإن الأسطورة تقول إن الصابون اكتشف لأول مرة في تلة سابو (Sappo Hill) بروما، عندما كانت مجموعة من النساء الرومانيات يغسلن ملابسهن في نهر التيبر، إذ كانت تتدفق الدهون الحيوانية من القرابين إلى النهر وتخلق خليطاً من الصابون، سرعان ما اكتشفوا أن عند استخدام المادة نفسها في تطهير الملابس تجعلها أكثر نظافة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


الحمامات

يقال إن أول من وضع الحمام هو الملك سليمان وذلك ربطاً مع قصته ببلقيس ملكة سبأ، وقد أتى ذكرها في كتاب تاريخ الأمم والملوك للطبري، وكتاب البداية والنهاية لابن كثير.
وقد وجدت المنشآت الخاصة بالحمامات منذ أقدم العصور، حيث ظهرت بوادرها في المعابد المصرية القديمة، ولكنها لم تصل إلى كيانها المعماري الذي اشتهرت به بعد ذلك، وكانت مجرد حجرات صغيرة تلحق بالمعبد لطهارة الكهنة ولا يشترط بها الماء الحار.
كما كان لدى أغنياء مصر حمامات داخل منازلهم، وكان لديهم خدم متخصصون بنقل الماء إلى هذه الحمامات باستخدام الأباريق، كما جهزت القصور الكبيرة بمواقد توفر لأصحابها خيار تسخين المياه والاستحمام بالماء الساخن. وكان الاستحمام يتم بالماء والزيوت المقدسة والمراهم المعطرة التي تحضر بوصفة سرية من الكهنة، ويعتقد أن الاستحمام كان عند الفراعنة فن، حيث ذكرت بعض المراجع أن إله الحكمة "تحوت" ترك لهم مكونات وكميات معينة يجب استخدامها في الاستحمام.
وعلى رغم ذلك يرجع الباحثون أصل نشأة الحمام إلى بلاد اليونان في حدود القرن الخامس قبل الميلاد، إذ اعتبروا النظافة شكلاً من أشكال فن الصحة، وفقاً لمدرسة "أبو الطب أبقراط". وفي القرن السادس قبل الميلاد، استحم اليونانيون القدماء بأحواض النوافير في الهواء الطلق، ومع بداية القرن الخامس قبل الميلاد انتشرت الصالات الرياضية التي ضمت أحواضاً للاستحمام والسباحة، ومع نهايته أخذ الاستحمام طابعاً مختلفاً، حيث أصبح اليونانيون القدماء يستحمون بغرف مغلقة داخل حمامات عامة شكلت ملتقى اجتماعاً، بدلاً من الاستحمام في الأماكن المفتوحة.


فوارق بين الشرق والغرب

وظهر التطور والازدهار الحقيقي في بناء الحمامات العامة مع الحقبة الإسلامية، حيث انتشرت في جميع أنحاء البلاد، وأبدع في بنائها الحكام، وأصبحت جزءاً أصيلاً من حياة الناس لعدة أسباب، وعلى رأسها أهمية النظافة وطهارة البدن بوصفها شرطاً أساسياً للصلاة.
وفي الحضارات الآسيوية، انتشرت الحمامات للاستحمام والتطهر، فاستحم القساوسة البوذيون في الهند لتطهير أنفسهم قبل أداء الاحتفالات الدينية، كما كان الضباط في الصين يحصلون على يوم عطلة مقابل خمسة أيام عمل فقط للاستحمام، إذ اعتبر الاستحمام في الصين ليس نظافة شخصية وحسب، بل هو تصرف مدني.
في هذا الوقت كان الأوروبيون قد عملوا على إلغاء ثقافة الماء والاستحمام تحديداً بين القرنين الـ16 والـ17، إذ تفشت الأمراض ومنها الطاعون، حيث أصيب الناس بفوبيا اجتماعية من استعمال الماء خصوصاً الساخن، فكان يعتقد أن الماء الحار يسمح بتمدد البشرة ما يجعلها قادرة على نقل مسببات المرض الموجود في الهواء، لذلك تحاشوا الاغتسال والاستحمام، وهجر الناس الحمامات إلى أن أمر بإغلاقها، واختفت ممارسة الاستحمام نهائياً في أوروبا.
ولأجل التخلص من الإفرازات الجسدية استخدموا تقنيات غير الماء، فلجأوا إلى الاغتسال بسوائل زيتية أو كحولية، واستبدلت تقنيات الاستحمام والاغتسال بتقنيات التعطر وفرك البشرة على الجاف بقطعة من القماش، ولم يعد استعمال الماء مرخصاً إلا في حالات نادرة كغسيل اليدين والفم، ومن أراد الاستحمام كان يتم تحت عناية طبية مشددة، وبقي الوضع هكذا حتى مطلع الثلث الثاني من القرن الـ18 مع ظهور المجتمع البرجوازي.


تطور وعناية

وبخطوات بطيئة تغيرت طريقة الاستحمام في جميع أنحاء العالم، فمن الخدم الذين يسكبون الماء على رؤوس أسيادهم في مصر، أو من خلال حفرة في اليونان إلى الحمامات الفاخرة في روما واليابان والصين، أصبح الاستحمام بالماء الساخن أسهل بمرور الوقت.
فقد كان للاستحمام آفاق لصناعات جديدة كالصابون التي أصبحت مهنة حرفية امتهنها عديد من الناس في الشرق والغرب، كما تابعت الأجيال دائماً ما بدأه الأسلاف من تفاصيل خاصة بالاستحمام كاستخدام الزيوت والعطور والمواد الإضافية لتحقيق أقصى استفادة منه.
إذ يقال، إن الملكة المصرية القديمة كليوباترا كانت تستحم في حليب الحمير لفوائده الجبارة في العناية بالبشرة، إذ يحتوي على حمض اللاكتيك الطبيعي الذي يقشر البشرة ويرطبها، بصفته حمض ألفاً هيدروكسي (AHA).
وانتشرت في السنوات الأخيرة وصفات للاستحمام، ومنها الحليب الذي تغنت بفوائده النساء الثريات، ولكنه أثار حفيظة البعض باعتباره هدراً لمنتج غذائي، ولكن الشركات استغلت هذه النقطة وبدأت بابتكار وصفات متعددة للاستحمام المنعش والحفاظ على البشرة، وفي كل يوم يقرأ المتابعون اسم منتج جديد للاستحمام به والعناية ببشرتهم، كشراب الماتشا حالياً، إذ إن جميع الابتكارات التي حاولت توصيل المياه للجميع ليستحموا بها بأقل قدر من الهدر لم تعد مستحبة، حيث أعيد استخدام الأحواض في هذا العصر مع عودة تصميمها بشكل عصري وملئها بالعناصر المراد الاستحمام بها.

المزيد من منوعات