"قبل دقائق من مغادرتهم مطار صنعاء الدولي، يوقفهم مسلحون تابعون للميليشيات الحوثية في اليمن، ثم يجردونهم مما بحوزتهم من أدلة دقيقة تثبت تورط الجماعة المتمردة بقضايا فساد واحتيال بشأن المساعدات الأممية المقدمة للمحتاجين اليمنيين، ثم يتركونهم يرحلون دون أدلة، خوفا من فضح الأمر"، هكذا كان المشهد الذي تعرّض له محققو الأمم المتحدة في مطار صنعاء الدولي أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، بعدما أخبر أحد العاملين بمنظمة الصحة العالمية باليمن على صلة بالمتمردين عما بحوزتهم من أدلة خوفا من اكتشاف الأمر، بحسب تحقيق مطوّل أجرته وكالة "أ.ب." الأميركية.
وفق تحقيق الوكالة، حيث نقلت عن 6 مسؤولين سابقين وحاليين دون الكشف عن هويتهم "خوفا على سلامتهم"، بحسب توصيفها، أصاب المشهد المحققين الأمميين بـ"الذهول"، فعلى الرغم مما يتمتعون به من حصانة دبلوماسية وفقا للمواثيق والاتفاقات الدولية، جُرّدوا مما بحوزتهم من أدلة قبل أن يغادروا إلى وجهتهم بسلام.
وبحسب وصف التحقيق للمشهد، فإنه "لدى استعدادهم لمغادرة مطار صنعاء، كان يهمّ محققو الأمم المتحدة نحو الرحيل وبحوزتهم أدلة دقيقة شملت أجهزة كمبيوتر محمولة ووحدات تخزين إلكترونية (أقراص خارجية صلبة) قام بجمعها موظفو منظمة الصحة العالمية، تحتوي على أدلة فساد واحتيال داخل المكتب الأممي في اليمن، لكن فجأة أقدم عليهم مسلحون تابعون للحوثيين ومنعوهم من ركوب الطائرة قبل أن يصادروا ما بحوزتهم من أدلة".
ووفق تحقيق الوكالة، الذي نشرته الاثنين 5 أغسطس (آب)، فقد تم إبلاغ الحوثيين بالأمر من قبل أحد العاملين في منظمة الصحة العالمية، على صلة بالحركة المتمردة خشية أن يتم اكتشاف سرقة تمويل المساعدات، حيث فقدان أطنان الأغذية والأدوية والوقود المتبرع بها دوليا، وتوظيف غير مؤهلين برواتب مرتفعة، والسماح لقيادي حوثي بالتنقل في مركبات تابعة للأمم المتحدة للهروب من الضربات الجوية المحتملة من قبل قوات التحالف العربي لدعم الشرعية باليمن الذي تقوده السعودية.
وبحسب الوكالة الأميركية، يمثّل مشهد أكتوبر (تشرين الأول) 2018 في مطار صنعاء حلقة أخرى من معاناة اليمنيين المستمرة جراء سرقة المساعدات التي كان يفترض أن تمدهم بالطعام والأدوية والوقود والأموال التي يحتاجونها بشدة خلال الحرب الدائرة في البلاد.
مظاهر الفساد والاحتيال
بحسب تحقيق "أ.ب."، والتي ذكرت أنها اطلعت على وثائق سرية وأجرت مقابلات مع 8 عمال إغاثة ومسؤولين حكوميين سابقين، فإن أكثر من 10 من موظفي الأمم المتحدة تم توظيفهم باليمن للتعامل مع الأزمة الإنسانية في زمن الحرب يواجهون اتهامات بالانضمام إلى المقاتلين من جميع الجهات لإثراء أنفسهم من مليارات الدولارات التي تدفقت على البلاد كمساعدات إنسانية، وفقًا لأفراد يتمتعون بمعرفة داخلية بالأمم المتحدة.
وذكرت الوكالة أن من مظاهر الفساد في منظمة الصحة العالمية كان تعيين أشخاص غير مؤهلين في وظائف ذات رواتب عالية، وإيداع ملايين الدولارات في حسابات مصرفية شخصية للعاملين، وعشرات العقود المشبوهة التي تمت الموافقة عليها بدون أوراق ووثائق، فضلا عن أطنان من الأدوية والوقود المتبرع به، فُقدت بلا أثر. أما في منظمة اليونيسف التابعة للأمم المتحدة فقد جرى توثيق فساد آخر، تمثل في السماح لقيادي من الحوثيين بالسفر في مركبات تابعة للأمم المتحدة، لحمايته من الضربات الجوية التي يشنها التحالف العربي بقيادة السعودية.
وبحسب الوكالة ورغم التحقيقات التي تجريها المنظمة الأممية، والتي رحب بها النشطاء اليمنيون، إلا أن "أ.ب." نقلت عن نشطاء يمنيين أن مثل تلك التحقيقات لا ترقى إلى مستوى التحقيقات اللازمة لتتبع ملايين الدولارات من الإمدادات والأموال من برامج المساعدات التي فقدت أو تم تحويلها إلى خزائن المسؤولين الحوثيين.
وذكرت الوكالة أنه خلال الأشهر الثلاثة الماضية، كان النشطاء يطالبون بتحقيق بخصوص شفافية المساعدات في حملة على الإنترنت بعنوان "أين_الفلوس؟"، مطالبين الأمم المتحدة والوكالات الدولية بتقديم تقارير مالية حول كيفية تدفق مئات الملايين من الدولارات على اليمن منذ عام 2015 وكيف تم إنفاقها. حيث يقول المنتقدون إن هذا الفساد يهدّد شريان الحياة الدولي الذي تعتمد عليه غالبية سكان اليمن البالغ عددهم 30 مليون نسمة. وفي العام الماضي، قالت الأمم المتحدة إن المانحين الدوليين تعهدوا تقديم ملياري دولار إلى الجهود الإنسانية في اليمن.
كيف فسد مكتب الصحة العالمية باليمن؟
طبقا لتحقيق "أ.ب."، يرتكز تحقيق منظمة الصحة العالمية في عملياتها في اليمن على نيفيو زاغاريا، وهو طبيب إيطالي كان يشغل منصب رئيس مكتب المنظمة في صنعاء من 2016 حتى سبتمبر (أيلول) 2018، وذلك حسبما نقلت الوكالة عن 3 أفراد لديهم معرفة مباشرة في التحقيق.
وبحسب الوكالة، جاء الإعلان العلني الوحيد عن التحقيق في جملة مدفونة في 37 صفحة من التقرير السنوي للمدقق الداخلي لعام 2018 للأنشطة في جميع أنحاء العالم. ولم يذكر التقرير "زاغاريا" بالاسم.
ووجد التقرير الصادر في الأول من مايو (أيار) الماضي، مخالفات في التوظيف وعقودا تم إبرامها دون منافسة ونقص في الرقابة على المشتريات، مشيرا إلى أن الضوابط المالية والإدارية في مكتب اليمن كانت "غير مرضية"، وهو أدنى تصنيف لها.
ونقل التحقيق عن المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية، تاريك جاساريفيتش، تأكيده أن التحقيق جارٍ، وأضاف أن زاغاريا تقاعد في سبتمبر (أيلول) 2018، قائلاً إن "مكتب خدمات الرقابة الداخلية يحقق حالياً في جميع المخاوف التي أثيرت. يتعين علينا احترام سرية هذه العملية، ولا يمكننا الخوض في تفاصيل مخاوف بعينها"، رافضا الإدلاء بتفاصيل.
من جانبها، أضافت "أ.ب." أنه وفقا لرواية 4 موظفين حاليين وسابقين، فقد ذكروا أن مكتب منظمة الصحة العالمية في اليمن تحت قيادة زاغاريا يعجّ بالفساد والمحسوبية والتعاون مع الحوثيين. وبحسب 3 منهم، فإن رئيس المنظمة زاغاريا استعان بموظفين مبتدئين عملوا معه في الفلبين ورقّاهم إلى وظائف ذات رواتب مرتفعة رغم أنهم غير مؤهلين. اثنان منهم حصلا على منصبين مرموقين، وانحصر دورهما في رعاية "كلب زاغاريا"، حسبما قال موظفان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأيضاً قال مسؤول إغاثي سابق، إن "الموظفين غير المؤهلين الذين يتقاضون رواتب مرتفعة يقوضون نوعية العمل ومراقبة المشروعات، ويخلقون ثغرات كثيرة من أجل الفساد". واعتمد زاغاريا أيضاً عقوداً مشبوهة دون توفير عطاءات تنافسية أو تقديم وثائق إنفاق.
ووفقاً للوثائق الداخلية، بحسب الوكالة، تم الاتفاق مع شركات محلية لتقديم خدمات في مكتب عدن التابع لمنظمة الصحة العالمية، تبين أنها تضم أصدقاء وأفراد عائلات موظفي منظمة الصحة العالمية وبتكلفة إضافية مقابل الخدمات، مضيفة أن الوثائق أظهرت صاحب شركة يسلم نقوداً لأحد الموظفين، وهي رشوة واضحة.
وتابعت الوكالة أن 4 أشخاص مطلعين قالوا إن موظفة بمنظمة الصحة العالمية، تدعى "تميمة الغولي"، هي التي أبلغت الحوثيين بأن المحققين كانوا بحوزتهم وثائق تثبت تورطهم في عمليات فساد وسرقة مع عمال منظمات الأمم المتحدة وأنهم مغادرون مع أجهزة الكمبيوتر المحمولة المليئة بالوثائق والسجلات الفاضحة. وقال هؤلاء الأربعة إن "تميمة" كانت تلفق كشوف مرتبات لأشخاص وهميين أو لا يعملون في المنظمة. وقالوا إن من بين أولئك زوجها، وهو قيادي حوثي كبير.
فساد آخر بمكتب اليونيسيف
وفي تحقيق ثانٍ تجريه منظمة أخرى تابعة للأمم المتحدة، اليونيسف، قالت "أ.ب."، إنه يتركز على موظف سمح لقيادي حوثي كبير بالتنقل في مركبات تابعة للوكالة لحمايته من الضربات الجوية المحتملة من قبل قوات التحالف الذي تقوده السعودية.
ونقلت الوكالة عن 3 أشخاص على دراية بالتحقيق، قولهم إن مراقبين في اليونيسف، وهي وكالة تابعة للأمم المتحدة تعمل في اليمن، يجرون تحقيقاً مع خورام جاويد، مواطن باكستاني يشتبه في سماحه لمسؤول حوثي كبير باستخدام مركبة تابعة للوكالة. ومنح ذلك الحوثي حماية رسمية من الغارات الجوية التي يشنها التحالف الذي تقوده السعودية، حيث تقوم اليونيسف بمراجعة تحركات سياراتها مع التحالف لضمان سلامتهم.
وعبّر المسؤولون عن مخاوفهم من إمكانية استهداف مركبات الوكالة في حال ظنت قوات التحالف أنها تُستخدم لحماية المسلحين الحوثيين.
وبحسب الوكالة، كان جاويد معروفاً بصلاته الوثيقة مع أجهزة الأمن التابعة للحوثيين. وقال زميل سابق له ومسؤول إغاثة إنه تفاخر باستخدام علاقته لمنع مراقبي اليونيسف من دخول البلاد، حتى إن المسلحين الحوثيين أقاموا لوحة كبيرة له في أحد شوارع صنعاء، لشكره على خدماته.
ولم يتسن الوصول إلى جاويد للتعليق، لكن مسؤولي اليونيسف أكدوا أن فريق تحقيق توجه إلى اليمن لفحص هذه المزاعم. وأعلنوا نقل جاويد إلى مكتب آخر، لكنهم لم يكشفوا عن موقعه.
وفقاً للعديد من الأشخاص الذين تحدثوا إلى "أ.ب."، هناك علاقات وثيقة بين موظفي الأمم المتحدة والمسؤولين الحوثيين خصوصاً. حيث ذكر تقرير سري للجنة خبراء الأمم المتحدة المعنية باليمن، أن سلطات الحوثي تضغط باستمرار على وكالات الإغاثة، لإجبارها على توظيف موالين لهم، وإرهابهم بالتهديد بإلغاء التأشيرات بهدف السيطرة على تحركاتهم وتنفيذ مشروعات بعينها.
وقال مسؤولون إنه من غير الواضح كم عدد الموظفين الذين يساعدون الحوثيين. وقال المسؤولون إن العديد من الحوادث في السنوات الأخيرة تشير إلى أن موظفي الأمم المتحدة ربما تورطوا في سرقة إمدادات المساعدات.
وتُظهر تقارير الأمم المتحدة الداخلية في عامي 2016 و2017 التي حصلت عليها وكالة "أ.ب."، العديد من الحوادث التي اختطف فيها المتمردون الحوثيون الشاحنات التي تحمل الإمدادات الطبية في مدينة تعز. تم تسليم الإمدادات لاحقًا لمقاتلي الحوثيين على الخطوط الأمامية الذين يقاتلون التحالف العربي أو تباع في الصيدليات في المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات الحوثيين.
وبحسب مسؤول ساعد في إعداد التقارير "كان من الواضح أن هناك بعض الأفراد الذين كانوا يعملون مع الحوثيين وراء الكواليس لأنه كان هناك تنسيق بشأن حركة الشاحنات". وقال مسؤول إغاثة إن عدم قدرة الأمم المتحدة أو عدم رغبتها في معالجة الفساد المزعوم في برامج مساعداتها يضرّ بجهود الوكالة لمساعدة اليمنيين المتضررين من الحرب. وأضاف "هذه فضيحة لأي وكالة وتدمر حيادية الأمم المتحدة".
اتهامات ليست الأولى
لم يكن ما كشفه تحقيق "أ.ب." الأوّل الذي يظهر تلاعب وفساد المتمردين الحوثيين بالمساعدات الإغاثية الدولية، ففي يونيو (حزيران) الماضي، أعلن ديفيد بيزلي، المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، خلال شهادة له بمجلس الأمن الدولي، أن المتمردين الحوثيين يتلاعبون بالمساعدات الغذائية على حساب الأطفال والنساء والرجال الذين هم في أمسّ الحاجة إليها، موضحاً أن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة يتم منعه من إيصال المساعدات الغذائية إلى الأشخاص الأشدّ جوعاً في اليمن.
وبحسب بيزلي، فإن "الوضع الإنساني في اليمن مؤسف. وعلى الرغم من المعاناة الهائلة التي يعانيها 20 مليون يمني، نواجه مقاومة عنيفة للقيام بوظيفتنا، وهي محاولة مساعدة الناس في البقاء على قيد الحياة".
وقال مارك لوكوك، منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة في كلمته أمام مجلس الأمن يونيو (حزيران) الماضي، إن ميليشيا الحوثي عمدت إلى إعاقة وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق سيطرة الحكومة الشرعية في اليمن، مشيراً إلى أن عمليات التجنيد التي يقوم بها الحوثيون للأطفال في اليمن ازدادت بنسبة 25% خلال العام الماضي.
وفي تحقيق سابق أجرته صحيفة "الغارديان" البريطانية، نقلت على لسان أحد كبار مسؤولي برنامج الإغاثة الأممي في اليمن "أن برنامج الأغذية العالمي رصد 7 مراكز لتوزيع الأغذية تابعة لإدارة الحوثيين في صنعاء تشترك في عمليات اختلاس المساعدات الغذائية". وأشار المسؤول الأممي إلى إزالة نحو 1200 طن متري من الغذاء بصورة غير مشروعة من المخازن وتوزيعها أو بيعها لأشخاص لا يحق لهم استلام السلع، وذلك فقط خلال شهري أغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول) من العام الماضي.
وفي الشهر ذاته، نشرت وكالة "أ.ب."، نتائج تحقيق صحفي أجرته في اليمن، خلص إلى أن المساعدات الدولية المقدمة للبلاد تكفي لاحتواء أزمة المجاعة، لكن معظمها يتعرض للنهب، من قبل الميليشيات الحوثية.
من جانبها، وثّقت إحصاءات اللجنة العليا للإغاثة في اليمن احتجاز 88 سفينة إغاثية وتجارية ونفطية من قبل الحوثيين خلال الفترة من 2015 حتى 2018، ونهب واحتجاز 697 شاحنة إغاثية وتفجيرهم لـ 4 شاحنات منها، إضافة إلى 16 واقعة اعتداء على منظمات تابعة للأمم المتحدة والعاملين بها تنوعت بين القتل والخطف وإغلاق المكاتب بالقوة.
يذكر أن السعودية والإمارات والأمم المتحدة والولايات المتحدة أنفقت في العام 2018 أكثر من 4 مليارات دولار كمساعدات في اليمن، ومع ذلك فإن 16 مليون يمني لا يحصلون على ما يكفي من الطعام، وفق تقديرات أممية.
ويشهد اليمن منذ 2014 حربا بين الحوثيين والقوّات الموالية للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً. وفي مارس (آذار) 2015، قادت السعودية تحالفا عسكريا عربياً بطلب من الحكومة اليمنية لاستعادة الشرعية في البلاد.
وفي الوقت الذي أدى فيه النزاع إلى مقتل آلاف الأشخاص، تقدّر الأمم المتحدة أن هناك ما يقرب من 3.3 مليون نازح، فيما يحتاج 24.1 مليون شخص، أي أكثر من ثلثي السكان، إلى مساعدة عاجلة، بحسب المنظمة الأممية التي تصف الأزمة الإنسانية في اليمن بأنها الأسوأ في العالم حالياً.