ملخص
فيما حاز كتاب ديفيد بينا غوزمان اهتماماً علمياً وإعلامياً إذ عرض معلومات مستقاة من آلاف البحوث العلمية المنشورة يعرض نيك إيفريت رأيه المشكك في أي أحلام تراود غيرنا من الكائنات مفنداً الأسباب
تفيد دراسات عدة بأن الإنسان يعيش في المتوسط 78 سنة، يمضي ثلثها في النوم، أي ما يقدر بـ28.3 سنة من عمره. عليه، يبدو منطقياً أن يحوز النوم اهتمام الباحثين والعلماء، ولكن ما زالت العلاقة بين النوم والأحلام لغزاً يحتار في شأنه هؤلاء، وقد وجد بعضهم أن الأحلام تحدث في واحدة من مراحل النوم والمعروفة بـ"حركة العين السريعة"، وفيها يكون الجسم ساكناً باستثناء العينين، إذ تتحركان بمعدل حركة كل 30 ثانية. وبغض النظر عن مدى صحة هذا الافتراض، ومهما كثرت أو قلت الجهود المبذولة في تفسير ألغاز الأحلام باعتبارها رسائل من العالم الخارجي تتراءى للنائم وتكون أشبه بإنذارات، أو أنها ربما أكثر ارتباطاً بالواقع، وأن دماغنا يبتكر حلولاً للمشكلات أثناء النوم، لا جدال في أن الإنسان يحلم، وهو نفسه أهم شاهد على هذا الفعل.
ولكن هل الأحلام سمة ينفرد بها الإنسان تماماً عن غيره من كائنات، لا سيما الحيوانات التي تشارك الجنس البشري كثيراً من الخصائص؟ فهل يجوز لنا القول مثلاً "أنا أحلم إذا أنا موجود"، على منوال مبدأ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، أو ربما أن نضيف إلى مقولة أرسطو "الإنسان حيوان ناطق (أو عاقل)" أن "الإنسان حيوان يحلم".
في الواقع، وخلال القرن التاسع عشر ساد في أوساط العلماء وعامة الناس اعتقاد واسع النطاق مفاده أن بعض أنواع الحيوانات تراودها الأحلام فعلاً تماماً مثلنا. تشارلز داروين مثلاً، ذهب في كتابه "أصل الإنسان" إلى أن "الكلاب والقطط والخيول، وربما جميع الحيوانات العليا [بمعنى أنها ذات خصائص وسمات متقدمة نسبياً أو متطورة]، وحتى الطيور... ترى أحلاماً حية"، والمقصود أن وقعها في الذهن يكون قوياً وتشبه ذكريات الحياة الواقعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بيد أن هذا الاعتقاد، وإن حاز إجماعاً كبيراً عليه في الماضي، لا يجد سنداً له في أي تحقيق علمي دقيق، ما عدا الإشارة إلى "سلوك" أنواع مختلفة من الحيوانات خلال ساعات نومها. مثلاً، كلب نائم ترتعش أطرافه ويهتز ذيله، ويروح يشم ويزمجر وينبح. يزعم المدافعون عن هذا الرأي أننا في هذه الحالة إزاء كلب يحلم بالصيد. وقس على ذلك.
ولكن في مقال له نشرته "فيلوسوفي ناو" Philosophy Now، يقول المحاضر في الفلسفة والكاتب نيك إيفريت إنه مع بروز وشيوع علم النفس السلوكي في السنوات الأولى من القرن العشرين، تراجعت نسبة الآراء التي تعتقد أن أحلاماً (أو في الواقع أي حالات عقلية) تراود الحيوانات. كان يعتقد أن على العلم أن يلتزم في ما يمكن ملاحظته، ولما كانت الأحلام حالة غير ملحوظة أو ملموسة أساساً (يبوح الإنسان بالأحلام التي تراوده، ولكن كيف عساها أن تفعل القطة مثلاً)، كيف عسانا أن نقول إنها تقض مضجع الحيوانات. وعلى رغم انزواء مرحلة السلوكية منذ فترة طويلة في العلوم الاجتماعية، فقد استمر العزوف عن اعتبار الأحلام إحدى سمات الحيوانات.
يتطرق إيفريت إلى كتاب "عندما تحلم الحيوانات" When Animals Dream الصادر عام 2022، موضحاً أن هدف كاتبه ديفيد بينا غوزمان مواجهة الاتجاه القائل إن الحيوانات لا تحلم، وذلك عبر جمع الأدلة على أن الحلم يحدث في الواقع لدى مجموعة متنوعة من الأنواع الحية، من بينها جميع الثدييات والطيور والأخطبوطات، وحتى الأسماك.
يرجع بينا غوزمان إلى عدد من الدراسات المثيرة للاهتمام، من بينها دراسة تتحدث عن علاقة متبادلة بين الحلم ومرحلة "حركة العين السريعة" (اختصاراً REMs) من النوم عند البشر. ويوضح أن "نوم حركة العين السريعة" موجود أيضاً لدى كثير من الأنواع الحية غير البشرية. كذلك تتشابه أنواع حية معينة في النشاط الذي تشهده أدمغتها في غمرة الحلم وفي الحياة الواقعية أو اليقظة كليهما. هكذا، يعيد غوزمان النظر في البحوث في شأن النوم لدى الأنواع الحية الأخرى. يضرب مثلاً بعصافير "الزيبرا فينش"، موضحاً أن ملكة التغريد ليس صفة راسخة لديها منذ الولادة، بل إنها مهارة لا بد من أن تتعلمها بالممارسة. كشف بحث عن أن النشاط العصبي لدى الطيور التي تزقزق في حالة اليقظة يشبه النشاط العصبي الذي تظهره أحياناً أثناء النوم. يبدو الأمر كما لو أنها تمارس تدريبات على تغريدها أثناء نومها. هكذا، "يدعونا بينا غوزمان إلى القبول بفكرة أن العصافير تحلم بتغريداتها"، يقول إيفريت.
أما في حالة الأخطبوطات، فسيغير بعضها لون أجسامه بما يتفق مع أفعاله، الصيد مثلاً، أو استهلاك الفريسة، أو التمويه بغرض التخفي. كذلك نلاحظ هذه التغييرات نفسها في لون الجسم عندما تكون هذه الكائنات نائمة. مرة ثانية، يدعونا بينا غوزمان، كما يوضح إيفريت، إلى الموافقة على فكرة أن الأخطبوط النائم يحلم بأنه يلتقط فريسته ويتغذى عليها، ويتخفى من أعدائه.
وحتى أسماك "الزيبرا" التي لا تملك القشرة الحسية الجسدية (التي ترتبط بالإحساس لدى الحيوانات الأعلى، والبشر) فلا تظهر لديها تالياً "حركة العين السريعة"، تملك ومع ذلك ما يسميه بينا غوزمان "المكافئ الوظيفي" للقشرة، وثمة أوجه تشابه في النشاط لدى الأسماك في حالتي النوم واليقطة. ومرة ثالثة، يزعم بينا غوزمان أن الأسماك تحلم.
ولكن وفق إيفريت، لا يبدو واضحاً تماماً إلى أي مدى يجد بينا غوزمان أن الدليل الذي قدمه في كتابه يعتد به. مرد ذلك جزئياً إلى أنه يغطي كثيراً من الأنواع الحية، ولكن يبدو أنه يعتقد أنه مقنع في حالة الثدييات وبعض الطيور، وقوي، ولكنه غير مقنع في حالة الطيور والزواحف والأسماك الأخرى، ولكن في الحقيقة، من وجهة نظر إيفريت، ربما نشكك أكثر في هذا التفسير للأدلة.
خذ أولاً دور "حركة العين السريعة" لدى البشر. إذا توخينا الدقة، هلا يسعنا أن نربطها بالأحلام، بل بإفادات الناس عن الأحلام. فقط إذا افترضنا أن الإبلاغات في شأن الأحلام موثوقة يمكننا المضي قدماً في "ربط حركة العين السريعة" بالأحلام. ثانياً، حتى لو افترضنا أن هذه الأحلام حقيقة عموماً، فإن العلاقة بين "حركة العين السريعة" والأحلام تبقى جزئية فقط، ذلك أنه، كما يشرح إيفريت، تحدث الأحلام في غياب "حركة العين السريعة"، وتحدث "حركة العين السريعة" في غياب الأحلام أيضاً. وتشير هذه الحقيقة إلى أن ملاحظة "حركة العين السريعة" لدى الأنواع الحية الأخرى ليس سوى دليل ضعيف على أنها تحلم.
ولكن ماذا عن الحركات الملحوظة التي تقوم بها الحيوانات على رغم أنها تغط في النوم؟ وعلى سبيل المثل ماذا عن الكلب النائم الذي ينتفض ذيله وأطرافه، والذي يشم، ويزمجر، وينبح؟ في "عندما تحلم الحيوانات"، يتطرق بينا غوزمان إلى دراسة تعود إلى القرن التاسع عشر، وقد زعمت أن "الأسباب كلها تدعونا إلى الاعتقاد" بأن الكلب في هذه الحالة منخرط في مشاجرات ومطاردات ومغامرات خيالية، ولكن إذ يبدو بينا غوزمان موافقاً تماماً على هذا الكلام، يصفه إيفريت بـ"التفكير الساذج جداً". في رأيه، ربما تكون الأطراف المتحركة وفعل الشم، وما إلى ذلك، مجرد تشنجات عضلية تحدث من وقت إلى آخر لدى جميع الثدييات. ويدعونا إلى تخيل حالة بشرية: عازف بيانو في حالة اليقظة، يروح يطرق بأصابعه ويهز رأسه. سيكون من الخطأ أن نقول إن "الأسباب كلها تحملنا على الاعتقاد" بأنه يفكر في تمارين العزف على البيانو: ربما هو يشعر بالملل لا أكثر. وما ينطبق على اليقظة ينطبق أيضاً على النوم، فحتى لو كانت أصابعه تتحرك في حالة السبات لا يسعنا القول إنه يحلم بالعزف. في الواقع، ليس لدينا سبب وجيه لنفترض أن أي نوع من الحالات العقلية يتسبب بحركاته هذه. وبالمثل، بالنسبة إلى الكلب، من المبالغة القول إن حركاته الجسدية دليل على أنه يحلم بالهجوم، وما إلى ذلك. حتى لو اعتقدنا أنه من المعقول تصديق أن الكلب يحلم، فإن حركاته الجسدية لا تكشف بالضرورة محتوى أحلامه.
وبعد تفنيده وجهة نظره في شأن أحلام الحيوانات، يواصل بينا غوزمان القول إن الحلم يظهر كما قال الفيلسوف وعالم النفس نيد بلوك، "الوعي الظاهراتي - التلقائي" (الذاتي) أو الظاهراتية، ما يعني أن الأحلام تنطوي على "إحساس" شخصي ومحتوى حسي. كذلك يدعي أن للأحلام جانباً تخيلياً وإبداعياً، ولكن في أحلامهم، يصوغ البشر أحياناً، وربما الحيوانات، سيناريوهات تختلف تماماً عن أي شيء صادفوه في اليقظة، ولا تكون مجرد محاكاة لما مروا به أيضاً، كما يشرح إيفريت.
وتخلص المقالة إلى أن الفرضية التي يناقشها بينا غوزمان لا تخلو من فائدة عظيمة، ولكنه يذهب أيضاً إلى استخدامها ليستخلص مزاعم أخرى. في اعتقاده، أحلام الحيوانات تدعم الادعاء القائل إن للحيوانات مكانة أخلاقية، بمعنى آخر، إذا صح أن الحيوانات تحلم، سنكون ملزمين أخلاقياً تجاهها.
وإذ يدافع بينا غوزمان عن هذه الفكرة في الفصل الأخير من كتابه، تفكر كقارئ في أنه يقدم الحجة التي تبرر الفرضية القائلة إن الحيوانات تحلم ويتحرك في خطوات منطقية كي يحمل المرء (القارئ) في نهاية المطاف على استنتاج مفاده أن لدينا التزامات أخلاقية تجاه هذه الكائنات، ولكن وليس مستغرباً أنه يخفق في هدفه الطموح هذا. ولكن، عندما ناقش الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بنثام وجهة النظر المضادة القائلة إن العقلانية هي التي تمنح مكانة أخلاقية لبعض المخلوقات (البشر) من دون البعض الآخر (جميعها من غير البشر)، ذكر مقولته الشهيرة بأن "السؤال ليس، هل يمكنها [المخلوقات] التفكير؟ أو لا يمكنها الكلام؟ بل هل تعاني؟ "ستختلف الحدوس الأخلاقية هنا، ولكن بناءً على اقتراح بنثام، ربما نعتقد أن السؤال الأخلاقي الرئيس هو ما إذا كان الكائن الحي يمكن أن يشعر بالألم والضيق. إذا صح ذلك، عندئذٍ لدينا التزام أخلاقي بعدم التسبب بالألم والضيق له من دون مبرر. إذا لم يصح ذلك، فنحن لا ندين لها بأي شيء من الناحية الأخلاقية، بغض النظر عن مدى وضوح وإبداعات أحلامها.
والحق أن سبر أغوار أحلام الحيوانات، أو الأصح التأكد من أن أحلاماً ما تراودها أصلاً، يحتاج إلى بحوث ودراسات كثيرة. وربما يقول قائل إن وجود مثل هذه الأحلام من عدمه ليس شأننا، ولا يتعدى كونه مضيعة للوقت والجهد والمال.