Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الجزيرة الأخيرة" رواية الواقع المأزوم والمثال المستحيل

الكاتب التركي عمر زولفو ليفانيلي يستدرج القارئ بأسلوب الحكاية المرحة ذات الخلفية السوداوية

الروائي التركي ليفانيلي (منشورات المجلس الوطني الكويتي)

ملخص

الكاتب التركي عمر زولفو ليفانيلي يستدرج القارئ بأسلوب الحكاية المرحة ذات الخلفية السوداوية

تعرف الديستوبيا بأنها أدب المدينة الفاسدة، كنقيض لليوتوبيا "المدينة الفاضلة". ويبدو الإنسان عالقاً بين التصورين، فهو يعيش في واقع مأزوم فاسد، بينما تتوق روحه إلى مدينة مثالية تحمل في ماهيتها استحالة تحققها. فماذا لو عثر الإنسان على "الجزيرة الأخيرة" التي هي "بمنزلة قطعة من جنة الله على الأرض"؟

يقدم الكاتب التركي عمر زولفو ليفانيلي تلك الجزيرة كفضاء بديل للواقع بكل همومه وتعقيداته. ففي "لياليها تفوح بعبق الياسمين، وأجواء صيفها وشتائها معتدلة". صدرت الرواية في ترجمتها العربية عن سلسلة إبداعات عالمية التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة في الكويت، بترجمة صفوان الشلبي، ومراجعة محمد حقي صوتشين. وبدلاً من تكرار المأزق الوجودي للإنسان ينطلق السرد من وضع مثالي، حيث جزيرة رائعة يسكنها عدد قليل من البشر في أربعين بيتاً، ويشار إلى كل منهم برقم بيته. نأى سكانها بأنفسهم عن استغلال أرباب العمل وقيود المدينة، فهم يعيشون في حرية تامة. يأكلون ما يشتهون، ولا ينقصهم أي شيء. فهل يمكن أن تتحول تلك الجنة إلى جحيم؟ ما التوتر الذي يمكن أن يحدث ويدمر كل تلك السعادة والشعور بالأمان والرضا؟

إنه حدث بسيط جداً، وصول الرئيس المخلوع للاستقرار معهم في الجزيرة، بعد أن قام مجلس قيادة الثورة بتنحيته، بعد أن حكم البلاد بقبضة من حديد: "ذات يوم، رأينا زورقاً آلياً شبيهاً بالزوارق الحربية، يشق عنان البحر بسرعة متجهاً نحونا. توقف عند مرسى الجزيرة، ونزل منه رجال بألبسة رسمية ونظارات سوداء".

إن رواية ليفانيلي تمزج بين قالب الديستوبيا والديكتاتورية التي تذكر بروايات مثل "1984" و"خريف البطريرك"، لكنه لا يعالج الفكرة في جوها المقبض والأزلي، بل يبقي جملته خفيفة مرحة، ويكتب جملاً قصيرة سلسة تشبه أسلوب إيتالو كالفينو المكثف واللامع والذكي. لا يريد أن يبهر قارئه بعبارات رنانة وصور بلاغية مركبة، بل يستدرجه بأسلوب الحكاية المرحة الخفيفة، حتى وهي توغل شيئاً فشيئاً في القتامة. إن الرئيس ـ يشير إليه أحياناً باسم كلب البحر ـ قد أخرج من السلطة، ومن المفترض أنه اختار الجزيرة منفى للراحة والاستجمام. لكن الرجل الذي اعتاد ثقافة الانقلابات في طريقه للحكم، قاد انقلاباً ناعماً ضد كل ما تمتعت به الجزيرة من سعادة وراحة وأمان.

لم يستطع أن يعيش كرجل عادي، فنصب نفسه رئيساً للجزيرة في تصويت شكلي، واختار مجلساً صورياً ليكمل وهم الديمقراطية. ومن لحظة وصوله أحيا في نفس صاحب البيت "رقم 1" فكرة أنه الوريث القانوني لمالك الجزيرة الراحل. كانت استعادة مفهومي "السلطة" و"الملكية" كافية لانزلاق "الجزيرة" السعيدة نحو حتفها المحتوم.

الكاتب وصديقه

إن الرواية المرقمة في عشرين فصلاً على 224 صفحة لا تتوسع في شخصياتها الرئيسة، فمن بين الإشارات المقتضبة لسكان الجزيرة تبرز شخصية "الكاتب" "الرقم 7" كرمز للمثقف والمناضل المعارض والمتوحد مع نفسه، والذي يدرك الأشياء بصرامة إما أبيض أو أسود.

وهناك صديقه وهو رجل عاقل ومتعاطف، لا يتمتع بحس ثوري مثل الكاتب، ويجرب حظه أن يصبح كاتباً، وقد أتى إلى الجزيرة هارباً مع صديقته "لارا" التي هربت من تعذيب زوجها لها، وعلى مدى التحولات ظلت تحتفظ بحس إنساني شجاع في تحليل الأمور. وبينما كان الكاتب قلقاً ومتشائماً من تبعات وصول الرئيس، بدا الراوي متقبلاً ومفترضاً أن الرجل طوى السياسة والانقلابات وراء ظهره وأتى من أجل الهدوء والسكينة. ثم تستمر الرواية في غزل نسيجها، باستعراض التصورات المتناقضة بين الصديقين في ما يتعلق بالرئيس وقراراته وطبيعة السلطة.

العبودية المختارة

إن الرواية لا تشير إلى أحداث ضخمة وحروب ومجازر واعتقال آلاف، وإنما تنتقي أحداثاً بالغة البساطة لو تم مدها إلى نهايتها الطبيعية ستنتهي إلى كل مآسي الديكتاتورية، بمعنى آخر لا ترتبط الديكتاتورية بالفظائع الضخمة بالضرورة، بل حتى بمواقف بسيطة لا يلقي لها الناس بالاً. إنها هيمنة رمزية، يبدو الوعي الإنساني متقبلاً لها. ثم يكتشف سكان الجزيرة أن ما قبلوه عن طيب خاطر بالأمس لم يعد من الممكن التراجع عنه اليوم. الأمر يشبه مفهوم "العبودية المختارة" للمفكر إتيان دو بوسي، فالبشر ـ في حقيقتهم ـ لا يرفضون العبودية، بل هم مستعدون دائماً لتبنيها والدفاع عنها وتبريرها، بينما يزعجهم ما هو طبيعي، أي أن يكونوا أحراراً على الجزيرة ليسوا مضطرين إلى أي شيء. وهكذا سلموا للرئيس بإدارة جزيرتهم، وأذعنوا لحجة "رقم 1" بأنه مالك الجزيرة.

بدأ الرئيس يمارس سلطته بأفعال رمزية بسيطة، إذ استيقظ سكان الجزيرة على رجاله وهم يشذبون الأشجار التي تظلل الطريق الرئيس، ومن ثم أصبحت الشمس تلهب رؤوسهم، وعندما أبدوا اعتراضهم أوضح لهم أن الهيئة البرية للشجر لا تليق، وأن الجزيرة في حاجة إلى تطوير حضاري كي تصبح الأشجار مثل التماثيل الخضراء في حديقة قصر فرساي. وقال لهم "التطور الحضاري يتطلب تنظيماً ذاتياً ومجتمعياً. حال وصولي إلى هنا أول ما صدمني ذلك المنظر الرهيب للدرب الترابي. نمو الأشجار بشكل عشوائي والتفافها بعضها على بعض وتشابكها يعطي الانطباع بأن هذا المكان غير حضاري".

أخضع الرئيس الطبيعة لسلطته ورؤيته الخاصة، وحرم الشجر من النمو الحر. وتقبل شعب الجزيرة تدخله في شؤون حياتهم بصفاء نية، فوضع تعليمات للحركة ثم دعاهم للبت في إزعاج النوارس على الشاطئ، وأقنعهم بضرورة التخلص منها كي تصبح الجزيرة سياحية واستثمارية تدر لهم ملايين، فتورط معظمهم في إطلاق الرصاص عليها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن النوارس ردت بالهجوم الكثيف عليهم وقتلت أحدهم في قاربه، وأعلن الكاتب تذمره لأن الرئيس هو من بدأ الحرب ضدها، لكن الأخير تمسك باستمرار القتال وعدم التراجع، واقترح جلب عشرين ثعلباً من الذكور والإناث لأن الثعالب تأكل بيض النوارس، وبهذه الطريقة يشتعل الصراع بين الكائنات الطبيعية بعيداً عنهم. لكن مع تراجع أعداد النوارس بعد وصول الثعالب، زادت الثعابين، لأن النوارس كانت تأكلها. أي فسد التوازن البيئي الذي تقيمه الطبيعة وتصلح به ذاتها تلقائياً مع التدخل السلطوي الأحمق للبشر.

جلب الرئيس مواد طبية لطرد الثعابين لكن رائحتها السيئة كانت لا تطاق، وهكذا شيئاً فشيئاً اتسع الصراع في الجزيرة، وتنافر الناس وتباينت الآراء. فقرر الرئيس الاستعانة بخبير لحل مشكلة الثعابين، أتى الخبير وتكلف الناس أموالاً طائلة لجلبه، ثم اقترح تشييد أعمدة تقف وتعشش فوقها اللقالق وتصطاد الثعابين، وبعد أن أرهق الناس أنفسهم في تشييدها لم تتوقف اللقالق عند جزيرتهم كما أخبرهم قبل رحيله. فعاد الرئيس واقترح قتل بعض الثعالب بما يضمن زيادة عدد النوارس قليلاً فتأكل الثعابين وتقلل عددها، ويحدث التوازن المنشود، لكن أثناء قنص الثعالب اشتعلت النار في الغابة والتهمت بفعل الريح جميع بيوت الجزيرة التي تحولت إلى نار ودخان وجحيم.

مع ذلك لم يشعر الرئيس بالذنب بل تحرك ببساطة لمغادرة الجزيرة المحترقة برفقة رجاله وهو يقول لهم "كل ما أصابكم هو من نتاج سوء إدارتكم للأمور".وعلى رغم أن البطل الراوي حاول دائماً مسايرة التغييرات وعدم الاندفاع والاعتراض فإن هذا لم يحافظ له على أي مكاسب، وأدرك بعد فوات الأوان  "لقد هزمنا لأننا لم نحاول إدراك مدى فداحة الضيم الذي خضعنا له وانجرفنا له تدريجاً... لقد سمحنا لرجل أن يخدعنا، وسرنا خلفه بخنوع". فالديكتاتورية ليست شخصاً سفاحاً ولا منظومة سلطة تقمع الناس بل هي قابلية واستعداد كامن في نفوس البشر. إنهم مثل سكان تلك الجزيرة لم يقدروا نعمة الحرية التي عاشوا في ظلالها وفورطوا في ألعاب السلطة والقهر والتملك والطمع. وهكذا خربوا جنتهم بأيديهم وأحالوها جحيماً لا يطاق.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة