ملخص
بعض المشاهد المرتبطة بعيد الأضحى في مصر اختفت أو تغيرت تأثراً بأسعار اللحوم وباتت عمليات البحث عن مضح يمنحهم بعض اللحوم أو أجزاء منها هي السمة الأبرز.
بحكم عمله يعرف الشاب المصري بسام محمد المزاج العام لكثير من زبائنه حول الأسعار، يتبادل حديثاً مطولاً معهم، يتناقشون في أمور شتى، على رأسها ارتفاع الأسعار في جميع السلع، لكن شيئاً من هذا الحديث تقلص، واختفى معه تدريجاً.
موجة ارتفاع الأسعار التي بدأت في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2016، مع خطة حكومية لتنفيذ برنامج للإصلاح الاقتصادي، عبر تحرير سعر صرف الجنيه المصري في مقابل العملات الأجنبية، صارت وتيرتها أكثر سرعة خلال العام الماضي 2022، إذ كانت تدفع مصريين للتساؤل مع كل زيادة في سعر سلعة عن السبب، والجدال مع الباعة وأصحاب الخدمات وحتى صرافي التذاكر في وسائل المواصلات.
لكن بسام الذي يعمل في متجر بالقاهرة يلاحظ تراجعاً ملحوظاً في الصدمة التي كان يتلقاها المصريون حين يعرف بارتفاع سعر سلعة ما، فيتمتم أمامه ببعض الكلمات، أو يلقي مزحة في شأن ارتفاع الأسعار وينصرف، "لا أستطيع الجزم بأن الناس صارت لديهم حال من الاعتياد على ارتفاع الأسعار، لكن ربما توقفوا عن الصدمة التي كانت تنتابهم".
الشاب نفسه بات يتسلم المواد الغذائية من تجار الجملة بأسعار تختلف أسبوعاً بعد آخر وشهراً تلو شهر، وكف عن السؤال الذي كان يلقيه دوماً على باعة الجملة حول سبب ارتفاعها، فالإجابة باتت "كل شيء بيغلى (يرتفع سعره)".
في حديثه إلى "اندبندنت عربية" يقول الشاب المصري إن المجيب عن السؤال يعزو الأمر إلى ارتفاع قيمة الدولار أمام الجنيه المصري، والحرب الروسية - الأوكرانية والأزمات الإقليمية وغيرها من الأمور.
كانت أعلى نسبة تضخم سنوي سجلتها مصر في يوليو (تموز) عام 2017 بلغت آنذاك 32.9 في المئة، في حين أنه كاد يقترب من تلك النسبة في مارس (آذار) العام الحالي، حين بلغ معدل التضخم بالمدن المصرية أعلى مستوى له منذ خمس سنوات مسجلاً 32.7 في المئة، ثم تراجع قليلاً في أبريل (نيسان) الماضي إلى 30.6 في المئة، ثم عاود الارتفاع إلى 32.7 في المئة مايو (أيار) الماضي متجاوزاً توقعات المحللين.
مزحة التضخم
وتيرة زيادة أسعار بعض السلع كانت تواجه أحيانا بالسخرية، لا سيما أن كثيراً منها في أسعار الوقود، كان يعلن الخميس ليلة الجمعة، إلى الحد الذي بات معه اليوم مقلقاً ودافعاً للسخرية في آن معاً. وكانت السخرية على هيئة منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، تحمل صوراً وفيديوهات تدور في فلك الخميس الذي تزيد فيه الأسعار.
قبل أربعة سنوات اعتمدت مصر آلية للتسعير التلقائي للوقود، إذ تدرس الموقف كل ثلاثة أشهر، شريطة ألا تزيد الأسعار أو تقل عن 10 في المئة عن سعرها القائم، وتقوم الآلية على وضع معادلة تشمل سعر البترول عالمياً، وسعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار وأعباء التشغيل.
لم تكن عبارة التضخم تلفت نظر المواطنة المصرية التي تعيش في حي شبرا بالقاهرة ألفت مصطفى، لكن كثرة ترديدها في محيطها وسماعها بشكل مستمر في وسائل الإعلام المحلية والعالمية، ونسب التضخم غير المسبوقة في عواصم مختلفة، دفعتها للبحث عن التضخم وماهيته.
تقول ألفت مازحة إنها كانت تعتقد أن التضخم كلمة إيجابية "لم يكن يعنيني الأمر، كانت الأيام تسير بوتيرة معينة، هناك زيادات في الأسعار لكنها ليست سريعة وحادة، كنت أحسب التضخم أمراً إيجابياً".
تعيش السيدة المصرية مع ثلاثة من أولادها وزوجها الذي يعمل بالقطاع الخاص، ويضطر إلى العمل في وظيفتين، للإنفاق على أسرته في ظل ارتفاع أسعار غير مسبوق، وتحاول هي جاهدة أن تبحث عن بدائل أرخص، لكن أكثر ما يغضبها اختلاف الأسعار من متجر لآخر بفارق جنيه أو اثنين وربما أكثر من ذلك للسلعة نفسها.
"كنت قديماً أدخل في جدال مع الباعة أخبرهم بأن السعر الجديد إنما لطمعهم في كسب جنيهات زيادة، لكنني لم أعد أفعل ذلك، كل شيء يبرر إما بالدولار أو الحرب" تحكي السيدة التي باتت وهي تشتري السلع تسأل في أكثر من مكان، لعلها تجدها أرخص في مكان عن آخر، ولو بفارق جنيه واحد. وهو أمر يشتكي منه بعضهم، ويطالبون بضبط الأسواق والأسعار.
في بيانات رسمية حكومية مصرية، فإن هناك توجيهات باستمرار حملات الرقابة على الأسواق، والتأكد من ضبط الأسعار لمواجهة جشع التجار.
خلال احتفالية بيوم المرأة المصرية في عام 2019 قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إن من يراقب الأسعار الدولة وأجهزتها، لكن الأمر ليس بالسهل في بلد يضم 105 ملايين مواطن على امتدادها، كما أن الدولة تنظر لإجراءات أخرى منها محاربة الإرهاب وحفظ استقرار الدولة، "لكن أناشد التجار والدولة بمزيد من الإجراءات لضبط الموقف".
وانخفضت قيمة الجنيه المصري أكثر من مرة أمام العملات الأجنبية، بعد سماح البنك المركزي المصري بتعويم مدار للعملة الرسمية بداية من مارس (آذار) 2022 حين كان يسجل 15.66 جنيه للدولار، ليفقد الجنيه 97.7 في المئة من قيمته حتى الآن، ويصل إلى 30.90 جنيه، لكنه يسجل في السوق السوداء مبلغاً أكبر من ذلك فيصل إلى 37 جنيهاً.
نار السجائر
مسألة زيادة الأسعار واختلافها من مكان لآخر وزيادتها أيضاً بوتيرة سريعة يلحظها أحمد خلف، الذي كان يدخن سجائر سعر العبوة بشكل رسمي 35 جنيهاً (1.7 دولار) بقيمة الدولار آنذاك الذي كان يسجل 19.51 جنيه، وكانت تلك الزيادة في سبتمبر (أيلول) الماضي، حين كانت تباع بالأساس بذلك السعر في ذلك التوقيت قبل حدوث الزيادة.
ثم زادت العبوة نفسها في أبريل (نيسان) الماضي، لتصل إلى 39 جنيهاً (1.2 دولار) لكنها كانت تباع بأكثر من ذلك في الأكشاك والمتاجر، ليشتريها الشاب الذي يعيش في القاهرة اليوم بـ48 جنيهاً (1.5 دولار)، أي بزيادة تسعة جنيهات عن سعرها الرسمي.
يقول خلف إنه لم يكن يكف عن جداله مع الباعة عن السعر الرسمي وغير الرسمي، لكنه أخيراً صار يدفع تلك الزيادة من دون حديث يذكر "ربما مللت من التساؤلات حول الزيادة أو اعتدت الأمر، هناك زيادات رسمية متوالية في الأسعار، وزيادات غير رسمية، لم أعد أفرق بين الاثنين، السوق تفرض نفسها والمعاملات في الواقع تحتكم لأمور مختلفة".
في تصريحات لصحف محلية قال رئيس شعبة السجائر باتحاد الصناعات في مصر إبراهيم إمبابي، إن تلك الأزمة مفتعلة من قبل التجار، مطالباً المواطنين بالإبلاغ عمن يرفعون الأسعار لمحاسبتهم، لكنه يلفت إلى أن المحال والأكشاك تضطر إلى شرائها بأسعار مرتفعة، لاعتبارات أن المستهلك من يتحمل الزيادة في النهاية.
سلع غذائية ارتفعت أسعارها بشكل كبير أثرت في استهلاك المصريين، فبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، فإن 90 في المئة من الأسر انخفض استهلاكها من اللحوم والطيور والأسماك، بالمقارنة مع قبل بداية الحرب الروسية - الأوكرانية.
لكن بيانات أخرى تفيد بارتفاع أسعار اللحوم بنسبة 87.9 في المئة على أساس سنوي منذ مايو (أيار) الماضي، بالمقارنة مع الشهر نفسه في العام الماضي، وهو أمر ألقى بظلاله على عيد الأضحى الجاري، بالتوازي مع أزمة السودان والاشتباكات التي تدور فيها، وكانت مصر تعتمد على استيراد الماشية من السودان لتبدأ القاهرة في بحث تأمين اللحوم من تشاد وجيبوتي.
كان رمضان حسن، الذي يعيش في محافظة الشرقية، يذبح ماشية في عيد الأضحى من كل عام مع مجموعة من أصدقائه، يشتركون في سعرها، وكان سعرها العام الماضي ما بين 25 إلى 30 ألف جنيه، لكنها الآن تصل إلى 80 ألف جنيه (2588 دولاراً)، لذلك لم يقدم الشاب أضحية هذا العام، واشترى عوضاً عن ذلك بعض الكيلوات لأسرته "كيلو اللحم وصل إلى 350 جنيهاً ويباع في بعض الأماكن بـ400 جنيه (12.9 دولار)، كانت هذه كلفة كبيرة، الأسعار تزداد عاماً تلو آخر في الأضاحي".
في أول أيام عيد الأضحى في مصر، اختفت بعض المشاهد أو تغيرت، على أثر ذلك التغير في أسعار اللحوم، فكان بعض ممن يبحثون عن كيلو أو اثنين من الأضحية في ذلك اليوم، يتحركون من دون جدوى للبحث عن مضح يمنحهم بعض اللحوم أو أجزاء منها.
تقول واحدة منهن وقد حملت حقيبة سوداء، إنها لم تجد من يمنحها سوى بعض أمعاء بقرة كان ضحى بها "لم أشتر لحوماً منذ ثلاثة أشهر، كنت أشتريها قديماً مرة أو اثنين في الشهر، لكن مع ارتفاع أسعارها بهذا الشكل لم أعد أشتريها، ولم أعد مصدومة بعد من الارتفاعات المتكررة".
بين عامي 2016 و2017 ظهرت حملات مقاطعة لعدد من السلع نتيجة لارتفاع أسعارها، وهي حيلة قديمة لمواجهة ارتفاع الأسعار، وفي أغسطس (آب) 2016 دعا جهاز حماية المستهلك في مصر لمقاطعة السلع المختلفة، وكان ذلك وسط حملات بأسماء مختلفة لسلع مختلفة، كان أبرزها "خليها تعفن، وخليها تسوس، وخليها تصدي، وبلاها سمك، لكنها جميعاً لم تكن تفلح في خفض الأسعار".
خلال كلمة له عام 2019 قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، متحدثاً عن الأسعار "عايزين تسيطروا عليها؟ الحاجة اللي تغلى متشتروهاش (لا تشتروها)، الموضوع بسيط يعني"، معتبراً أن التاجر إذا وجد الأسعار فيها مغالاة ولا يشتري منه الناس فإنها ستنخفض.
ثقافة غائبة
الأكاديمي المصري المتخصص في علم الاجتماع السياسي سعيد صادق قال إن ثقافة المقاطعة ليست مصرية، إذ إن المستهلك سيعود لشراء السلعة مجبراً، وأضاف "ارتفاع الأسعار في جميع السلع بداية من الفول، وصولاً إلى السيارات، يجبر المواطن على الشراء حتى لو ارتفع السعر".
واعتبر أن تلاشي صدمة المصريين عند معرفتهم بزيادة سعر سلعة ما لاعتيادهم على تلك الوتيرة، "وذلك لا يعني أنهم متقبلون لها، لكنهم لا يملكون أدوات أمام ذلك الأمر ولا يجدون طريقة لكبح جماح ارتفاعها الجنوني".
ويرى الأكاديمي بالجامعة الأميركية في القاهرة أن المقاطعة لا تكون من خلال مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، وإنما يجب أن يكون بالتوازي مع ذلك وسائل إعلام تدعو إلى مقاطعة سلع بعينها، لتنظيم وضبط الأسعار "لكن ذلك لا يحدث، ويتجه المواطن بشكل إرادي أو غير إرادي إلى إعادة ترتيب أولوياته، ويتخلى عن بعض السلع ويبحث عن بدائل لأخرى".
إلا أن الأكاديمية المصرية المتخصصة في علم الاجتماع واستشارية حقوق الطفل والأسرة عبلة البدري، تختلف مع الطرح القائل إن صدمة المواطن من ارتفاع الأسعار تلاشت، معتبرة أنها قائمة بسبب الزيادات الدورية، لا ارتفاع السلعة في حد ذاته "إذا زادت سلعة على فترات متباعدة فإن الصدمة ستكون موجودة ثم يعتادها الناس، لكن الصدمة حالياً في وتيرة ارتفاع الأسعار".
واعتبرت أن ارتفاع الأسعار قديماً كان يوازيها زيادة في الأجور تلائم نسبتها، لكن الرواتب حالياً لا تتناسب والارتفاعات المطردة في الأسعار "الناس لا تجد ما يعوض تلك الزيادة، والغالبية العظمى حتى الميسورين أصبحوا يشتكون، وباتت مقاطعة السلع بالإجبار، لأن المواطن لا يملك ثمنها"، محذرة من أن ذلك يدمر الأسرة المصرية، من خلال ظهور العنف المنزلي واختلال العلاقات وزيادة الاكتئاب.
بداية من أبريل (نيسان) الماضي ارتفع الحد الأدنى للأجور للعاملين بالدولة، بحسب تصريح لوزير المالية المصري محمد معيط، في إطار حزمة تحسين الأجور التي وجه بها الرئيس عبدالفتاح السيسي، ليصبح الحد الأدنى لأجور الدرجة الوظيفية السادسة أو ما يعادلها 3500 جنيه مصري (113.2 دولار أميركي).
وخلال مارس (آذار) 2019 صدر قرار برفع الحد الأدنى للأجور إلى ألفي جنيه مصري (115 دولاراً آنذاك) وكانت قيمة الدولار 17.36 جنيه، ثم ارتفع الحد الأدنى للأجور في مصر إلى 2400 جنيه (152.4 دولار) بحلول يوليو (تموز) 2021، ثم رفع الحد الأدنى للأجور مرتين في عام 2022 كانت الثانية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) بقيمة 3 آلاف جنيه (122 دولاراً) بقيمة الدولار آنذاك، حتى كانت الزيادة الأخيرة في العام الحالي.
يقول ثلاثة مصريون، في تصريحات خاصة، إن زيادة المرتبات أمر جيد، لكنه لا يغطي جنون الأسعار، ويدفع الأمر بعضهم للتنازل عن أولويات أو البحث عن بدائل للسلع، ثم الاستغناء في نهاية المطاف إذا لم يستطيعوا شراء تلك السلع، لكن ذلك لا يصلح في الأدوية والغذاء على سبيل المثال.