ملخص
تقول ماري ديجيفسكي إن سلطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعرضت للاهتزاز ولكنه لا يزال يحكم قبضته على الحكم وعلينا مقاربة الواقع كما هو وليس كما نتمناه
إذا كانت التطورات الدراماتيكية التي تابعها العالم لحظة بلحظة في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، قد بدت في الوقت نفسه وكأنها مر عليها الزمن، أو أنها حدث يعود إلى ماض بعيد، فإن ذلك مرده إلى أن كثيراً من الناس يريدونك تصديق ذلك، أو أنهم يريدونك أن تنظر إلى ما جرى بمنظور جديد. لا يسعني تذكر حدث واحد وقع خلال السنوات الأخيرة الماضية، والذي مر بهذه السرعة في تحوله من واقع إلى أسطورة ــ وربما أساطير متنافسة في ذلك السياق.
لكن أولاً، ما واقع الأحوال الحالية من وجهة النظر السياسية والسلطوية الآن، وذلك، بعد أن زال الغبار المباشر الذي أثارته تلك الأحداث؟ الرئيس فلاديمير بوتين عاد للكرملين، ويود أن نعرف بأنه يمسك بمقاليد الحكم، وأن سلطته لم تتأثر، وأنه لا يزال مصمماً على إدارة روسيا، وأن يواصل الحرب ضد أوكرانيا.
لقد أصبح أكثر ظهوراً في الأيام الأخيرة، مقارنة بالأشهر السابقة، بما فيها ترؤسه فعالية عسكرية في ساحة كاتدرائية الكرملين، وقيامه "بجولات راجلة" مرتبة مسبقاً في منطقة داغستان جنوب البلاد، فيما الصواريخ الروسية استهدفت مطعماً شعبياً في مدينة كراماتورسك الأوكرانية.
ويبدو أن يفغيني بريغوجين، كبير المتمردين، وقائد قوات المرتزقة التابعة لمجموعة "فاغنر" التي كانت قد علقت تقدمها نحو الشمال بعد قطعها أكثر من نصف المسافة إلى موسكو والسيطرة على مقر القيادة العسكرية في جنوب البلاد من دون قتال، قد أصبح الآن في بيلاروس. بعد ذلك أعلنت وكالة الأمن الفيدرالي الروسية (أف أس بي) FSB، عن قيامها بإسقاط التهمة الوحيدة الموجهة إليه - تنظيم تمرد مسلح - عقب هبوط طائرة "تابعة لجماعته" في مينسك.
أما عناصره المسلحة، والتي يعتقد أن عددهم يبلغ ما بين 10 آلاف و25 ألف عنصر، فقد خيروا بين التعاقد مع وزارة الدفاع الروسية، أو إلقاء السلاح والعودة إلى منازلهم، أو الانضمام إلى قائدهم في بيلاروس - حيث يبدو أن هناك قاعدة في طور الإعداد من أجل إيوائهم. ولا يزال غير واضح بعد إذا كان بريغوجين سيبقى في بيلاروس، أو سيغادرها للتركيز على متابعة نشاطات مجموعة "فاغنر" في أفريقيا.
في هذه الأثناء، تتحسن أسهم رئيس دولة بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو في الأقل من وجهة نظره. وهو يتباهى في توسطه لاتفاق سمح بوقف تقدم قوات بريغوجين، بالتالي إنقاذ الرئيس بوتين بشكل أساسي، وفي الوقت نفسه إنقاذ بريغوجين من مواجهة غضب بوتين. ليس من المعروف بعد، ما المكافآت الإضافية التي قد يحصل عليها لوكاشينكو لقاء المتاعب التي تكلفها، لكن قبضته على السلطة في بلاده، والتي كانت مهددة بسبب احتجاجات قامت ضده في 2020-2021 تبدو راسخة أكثر مما كانت عليه لفترة من الزمن.
وبخلاف اللاعبين الثلاثة هؤلاء، كانت هناك تحولات أخرى. في أوكرانيا، شهدنا مظاهر فرح في أوساط عامة الشعب تجاه الأنباء الواردة من روسيا، لكن ذلك كان أقل ظهوراً في أوساط سلطات البلاد العليا، حيث اتخذ الرئيس زيلينسكي، وآخرون مواقف أكثر حذراً حيال أي فكرة تبالغ في اعتبار أن أوكرانيا يمكنها أن تستفيد من ضيق موسكو في ساحة المعركة.
ولو كان ليكون هناك أي تغيير في ديناميكية القتال - مثل عملية هجوم جديدة من قبل أوكرانيا، أو تراجع في معنويات الجانب الروسي - ما زال علينا أن ننتظر لنرى حصولها. وتبدو كييف أيضاً قلقة - وليس من غير وجه حق - حيال انعكاسات أي تغيير (أو انهيار) للسلطة في موسكو. في النهاية، بريغوجين لم يكن "حمامة سلام"، فشكواه كانت موجهة في اتجاه عدم كفاءة القيادة العليا الروسية، وأنها سمحت بنجاة نظام كييف.
بعض الدول الأوروبية، خصوصاً دول البلطيق، أصبحت قلقة من اقتراب قوات "فاغنر" المستجد من حدودها، خصوصاً إذا أقام عدد كبير منهم في بيلاروس، على رغم أن كييف أعلنت أنهم لا يشكلون تهديداً لها. أما الموقف الرسمي في الدول الأوروبية الأخرى وفي الولايات المتحدة الأميركية فقد جنحت أيضاً نحو الحذر في ردها على التطورات في روسيا، وإصدار نفي عن أي علاقة غربية مع بريغوجين، والإعراب عن القلق من إمكانية أن تشهد روسيا أي فوضى.
فيما بدا أن حقبة ما بعد بوتين قد بدت أكثر قرباً فجأة، وأنها لن تكون بالضرورة حقبة أفضل عملياً من سابقتها، كما كان يعول عليها نظرياً. فإن شبح بريغوجين، أو شخصية شبيهة في سدة القيادة، أو ربما أسوأ، من دون امتلاك سيطرة على ترسانة روسيا النووية، قد أصبحت فجأة فرضية مطروحة.
إذاً هكذا يمكن ترتيب أحجار الشطرنج بعد أسبوع من تخلي بريغوجين عن مسيرته نحو موسكو، بحسب ما يمكن استشفافه مما جرى، مع بقاء كثير من الأسئلة معلقة حيال ما سيجري في المستقبل: فما مدى جدية الأذى الذي لحق بسلطة الرئيس بوتين؟ هل من إمكانية لعودة بريغوجين من جديد؟ ماذا سيكون تأثير ما جرى على مسار الحرب، إن كان هناك من تأثير؟ وهل ربما سيصبح البعض في الدول الغربية متخوفاً من أي انهيار روسي، أكثر من خوفهم من هزيمة أوكرانيا؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبدو أن موسكو وخصومها وفي سياق محاولة للتأثير في ما سيجري لاحقاً، شرعاً في عمليات "تضليل إعلامي" حثيثة، والتي خرجت منها روايتان متعارضتان تماماً، عن حقيقة ما جرى.
الرواية الجديدة لموسكو يمكن اختصارها بالتالي: فمن خلال جهود بوتين البارعة في السيطرة على دفة القيادة وجهود فريقه الموحد، نجح الرئيس في حماية الدولة من ويلات الحرب الأهلية. حينها، كما اليوم، ما زال الرئيس بوتين يتمتع بشعبية كبيرة. أما خطة بريغوجين فكانت تهدف إلى اعتقال وزير الدفاع الروسي، ورئيس أركان الجيش، وشرع في المسير نحو موسكو فقط عندما فشلت تلك الخطة.
حين خرجت الجموع إلى شوارع مدينة روستوف على الدون، للترحيب بمقاتلي مجموعة "فاغنر"، فقد كان ذلك [وفق السردية الروسية]، للإعراب عن ارتياحهم لرحيلهم، وليس لشكرهم. ونحن نعلم من دعم بريغوجين، فهؤلاء كانوا مجموعة صغيرة غير مهمة، لكننا في موسكو سنتعقبهم من دون رحمة. إن قادة مجموعة "فاغنر"، هم الخونة، فكثير من المقاتلين من جهة أخرى يستحقون الثناء على إنجازاتهم في مسرح العمليات الأوكرانية. فلو قاموا بإشهار ولائهم للحكومة، فلن يمسهم أحد.
كل ذلك من شأنه أن يناقض بطرق كثيرة كيف بدت الأمور في تلك الفترة، ما كنا قد رأيناه في حينه، كان ظهورين متلفزين على الأمة من قبل الرئيس، كانا غير مبرمجين، عرضا في أوقات غير معتادة، وهدد من خلالهما بعدم التسامح مع الخونة، محذراً من وقوع الحرب الأهلية. وفيما بين بث الخطابين، على ما يبدو فقد لجأ إلى مقر إقامة له بالقرب من سانت بطرسبورغ، أو إلى ملجأ محصن رئاسي في منطقة فالداي، كما عززت التحصينات الدفاعية حول العاصمة موسكو.
ثم تلا ذلك رسائل متناقضة حول ما إذا كان بريغوجين سيواجه أي اتهامات قضائية أم لا، قبل أن يصار إلى التمييز بين القادة الغادرين والمقاتلين الشجعان. وكان هناك شعور بفراغ أمني حقيقي. ولم يخرج أي من المسؤولين الحكوميين من مخابئهم حتى الإثنين، وكان الهدف من ذلك إطلاقهم نداءات للإعراب عن دعمهم الرئيس. ولم يكن هناك تظاهرات مؤيدة له في الشوارع. وفي معظم الساعات الأربع والعشرين، كان عصب مقر قيادة العمليات في أوكرانيا تحت سيطرة المتمردين. حالة عدم الوضوح هذه ردمت كلياً الآن تحت رواية بطولية حول نجاح الرئيس في إنقاذ الدولة.
في هذه الأثناء، بدأت رواية أخرى مضادة في جذب الانتباه، وتركيز نشرات الأخبار على الجانب الآخر، والتي ربما تكون على القدر نفسه من التضليل. وهي لا تقول إن الرئيس بوتين قد أصيب بالضعف فحسب، بل قالت إن أيامه قد أصبحت معدودة، وإنه حتى لو بدا أن بريغوجين تصرف كذئب منفرد، فإنه لا بد أن يكون قد تمتع ببعض الدعم من قبل مسؤولين رفيعين في القيادة الروسية ــ ومن بينهم قائد سابق في الحرب الأوكرانية هو سيرغي سوروفيكين، والذي قد يكون معتقلاً في الوقت الحالي.
وهذه الرواية تحاول القول إنه على رغم من نفي بريغوجين قيامه بانقلاب فعلي، فإن تحركه شكل تحدياً مفتوحاً للكرملين، وكان يمكن أن يتبعه مزيد من التحركات. وخلاصة الرسالة هنا هي أن الكرملين منقسم على نفسه بشكل يائس، بخصوص الحرب في أوكرانيا، كما هو منقسم بخصوص قضايا أخرى متعددة، وأن بوتين هو معلق بالسلطة بخيط رفيع، ومن الممكن أن ينتهي غداً، وهو احتمال على الجميع البدء في الإعداد له.
الآن، بالطبع من السديد للجميع الاستعداد لأي تطورات طارئة، بما فيها إمكانية الرحيل السريع للرئيس الروسي.
ولكن لو كان هناك انقسامات في الكرملين، يبدو أنه جرى تخطيها في الوقت الراهن، ومن الصعب عدم ملاحظة الروايات المبنية على التأويلات عن انقسامات في الكرملين بأنها مصممة لتسريع المخرج المأمول: ألا وهو سقوط فلاديمير بوتين أو/و تفكك روسيا. والاحتمالان واردان، ويمكن أن نتذكر أن مسؤولين أميركيين كباراً كانوا قد ذكروا بأن تلك هي أهداف [لهم].
نعم، لقد كان هناك اهتزاز في أعلى السلطة الروسية في نهاية الأسبوع الماضي، لكن بوتين يظل رئيساً - وإن كان رئيساً أكثر ضعفاً - وحتى الآن لا يبدو أن هناك بديلاً واضحاً له في الكواليس، ما جرى ربما هو بمثابة إنذار أو وعد حول ما قد يأتي، ولكن من المهم أن نعمل على مواجهة الترويج الإعلامي، وأن نتذكر كيف كان الأمر على حقيقته. تصوير الأمنيات على أنها حقائق تهدد بتبعات سلبية على الجانبين.
© The Independent