Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كن رجلا... يا لها من عبارة "مسمومة"

تؤدي الدعوة المرهقة للسيطرة على المشاعر والتعامل مع المواقف بحزم إلى ارتفاع معدلات الانتحار بين الذكور

كثيراً ما تتعرض الرجولة إلى تشويه وتحريف من أشخاص يرون أن الرجل هو من يميت عواطفه (غيتي)

ملخص

يعاني معظم الرجال ضغوطاً اجتماعية للتصرف بطريقة تؤذيهم أو تؤذي الآخرين تحت غطاء الرجولة، فهل أنت منهم؟

أثناء تجمع مع بعض الأصدقاء والمعارف في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، كنا نتحدث حول الشخصيات المؤثرة التي يتابعها كل منا عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ومن بين مجموعة الأسماء التي ذكرتها أثار اسمان - هما جوردان بيترسون وداني موريل – اعتراضات من بعض الحاضرين بسبب مناصرة الرجلين لما سموه "الذكورة السامة".

صفات الرجولة

لا أستطيع الزعم أنني قرأت أو سمعت كل ما كتبه أو نشره بيترسون، عالم النفس والمفكر الكندي، أو موريل، المدون والمؤثر الأميركي اللاتيني، لكن يمكنني القول إنني لم أشتم رائحة السمية في دعوتهما إلى تمتع الرجال بالصفات التي عرفت على مر التاريخ البشري بأنها مميزة لجنسهم، وأهمها الالتزام بالمسؤوليات وعدم التهرب منها، والتحلي بالقوة والصبر اللازمين لمواجهة التحديات التي يمرون بها، وعدم التذمر والشكوى من ثقلها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لطالما افتخر الرجال بكونهم محط ثقة الآخرين ومصدر أمان يمكن الاعتماد عليه أو اللجوء إليه عند الحاجة، فضلاً عن قدرتهم على القيادة، سواء في ميدان العمل أو على نطاق الأسرة الأضيق، إذ يتحملون مسؤولية تربية أطفالهم وتلبية حاجات عائلاتهم.

كما أن تمتع الرجل بالقدرة على الصبر وعدم اتخاذ قرارات متسرعة من دون تفكير ودراسة مسبقين، وتحمل عواقب ونتائج قراراته، واستعداده لتصحيح أخطائه وتحمل مسؤوليتها كاملة، وعمله الجاد لتطوير نفسه وتحسين حياته وصياغتها بالطريقة التي يراها الأفضل لا يجرده من العواطف والمشاعر، أو يحوله إلى كائن أناني يصب تركيزه على نفسه ويسعى إلى بلوغ مراده حتى لو تطلب ذلك سحق من حوله. في هذه الحال نحن نتحدث عن شخص مختل بصرف النظر عن هويته الجنسية.

ليس هناك تعريف محدد للرجولة، لكن ورد في قاموس المعاني أنها "كمال الصفات المميزة للرجل مثل القوة والحنكة والشجاعة"، وعلى اختلاف الثقافات هناك شبه إجماع على مجموعة من الصفات مثل الثقة بالنفس وقوة الشخصية والإخلاص والوفاء بالعهود واحترام الآخر والسيطرة على النفس.

جذور الذكورة السامة

يرى بعضهم أن هذه الدعوة إلى الصلابة، أو ما يطلق عليه أحياناً "الرجولة المثالية المدمرة"، هي ظاهرة حديثة انطلقت كرد فعل على الهوية العائمة بين الجنسين، والدعوة إلى التصريح بالميول تجاه أبناء الجنس نفسه، واختلاط المهمات والمسؤوليات بين الذكور والإناث في العصر الراهن، لكن في الواقع يمكن إرجاع عديد من الخصائص التي تتحدث عنها الذكورة السامة، التي تسهم في وصمة العار التي تحيط بالرجال الذين يناقشون عواطفهم، وبدرجة أعلى من يتحدثون عن صحتهم العقلية، إلى العصر الفيكتوري في أواخر القرن الـ19.

وبشكل عام كانت الذكورة في العصر الفيكتوري أيديولوجيا روحانية جادة تركز على أن الرجال يجب أن يتمتعوا بقدر هائل من القوة والقدرة على كبت المشاعر، والتعاطي مع ما يجري حولهم بمعزل من العواطف.

كانت القوة واللياقة البدنية جانباً أساسياً للرجولة الفيكتورية، إذ كانت ممارسة ألعاب القوى إلزامية بالمدارس العامة في بريطانيا بين عامي 1860 و1880، وكانت فسحة للأولاد لإظهار قوتهم الجسدية وبالتالي رجولتهم منذ سن مبكرة، مما جعل الذكورة المفرطة في نهايات العصر الفيكتوري منسجمة مع القوى الثقافية والدينية المهيمنة الأخرى في ذلك العصر.

كانت القدرات الجسدية ضرورية للرجال في ذلك الوقت ليتمتعوا باللياقة الكافية للقتال والدفاع عن بلدهم، والتحمل وكبح المشاعر مطلوبين لتجاوز أهوال الحروب.

بعد أن ألقت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وظهرت الأزمات النفسية التي ترتبت عليها إلى السطح، سواء لدى من شاركوا فيها كمحاربين أو المواطنين الذين عانوا آثارها، بدأ الانتقاد يوجه لبعض المفاهيم التي كانت شائعة وتقول إن الرجال والأولاد لا يبكون، ويجب أن يكونوا عقلانيين ومتجردين من العواطف، وبدأ تشجيعهم على الاستسلام إلى إنسانيتهم والتعبير عما يدور في دواخلهم، وأدى هذا في المقابل إلى ظهور ثقافة تدعي موت الرجال الحقيقيين.

يستخدم مفهوم "الذكورة السامة" منذ ثمانينيات القرن الماضي في علم النفس والمناقشات الإعلامية للإشارة إلى معايير ثقافية مرتبطة بالضرر الذي يلحق بالمجتمع وبالرجال أنفسهم جراء ممارسات معينة مرتبطة بالذكور المهيمنين اجتماعياً، إلى جانب السمات ذات الصلة مثل كراهية النساء والمثليين وممارسة أشكال من العنف مثل الاعتداء الجنسي والعنف الأسري.

تضر بالرجال أيضاً

تربط جمعية علم النفس الأميركية مفهوم "الذكورة السامة" بتسببها في معاناة لدى الرجال بنسب أكبر من النساء، بسبب خضوعهم للتأديب أو التعنيف في المدارس والصعوبات التعليمية، إلى جانب الأثر المباشر في صحتهم الجسدية والنفسية وقدرتهم على طلب المساعدة الطبية والإرشادية.

كما يمكن للمرأة أن تظهر الذكورة السامة وتسهم في استمراريتها، تماماً كما يفعل الرجل، بامتلاكها مستويات مفرطة من العدوانية أو مظاهر الهيمنة، وخير مثال على ذلك الأم التي تطلب من ابنها ألا يبكي عندما يتألم لأن البكاء ليس تصرفاً رجولياً.

كذلك قد تتشبع المرأة بأفكار "الذكورة السامة" الضارة، بخاصة تلك المبطنة بكراهية النساء. مثل أن تشعر المرأة بأنها بحاجة إلى النأي بنفسها عن النساء الأخريات ذوات السلوك الأنثوي النمطي وتحاول أن تكون "أخت رجال"، الأمر الذي يقودها إلى اتخاذ سمات ذكورية سامة كالقسوة وتجاهل المشاعر وعدم التعبير عن الأحاسيس.

وقد تلجأ الأم التي ترى أن ابنها يظهر سمات أنثوية إلى تأنيبه وقمعه متسببة له في صدمة قد يعكسها بدوره على أصدقائه بتعامله العنيف معهم، أو قد تضغط المرأة على شريك حياتها ليتصرف بـ"رجولة" أكثر من خلال أفعال سامة، أو أن تروج بنفسها للذكورة السامة وتحارب الأصوات التي تقاتلها.

من الممارسات الأخرى التي تسهم فيها المرأة بتعزيز هذا الفكر منع الأولاد من ممارسة أي أفعال لا تعتبر رجولية، مثل المساهمة في أعمال المنزل أو إلزامهم بألعاب تناسب الأولاد فقط، وتعزيز تعاملهم مع الفتيات على أنهن شريكات رومانسيات محتملات للمستقبل ولا يمكن أن يكن صديقات حقيقيات، والاستخفاف بالطفل الذي يظهر مشاعر ضعف، وفي الوقت نفسه عدم كبح ذلك الذي يظهر مشاعر غضب أو عنف بحجة أن "الصبيان يظلون صبياناً"، إضافة إلى تعزيز فكرة أن الهشاشة النفسية والشكوى واضطرابات الأكل هي ممارسات أنثوية بحتة.

لكن هناك اختلافاً في الأسباب التي تدفع المرأة إلى إظهار "الذكورة السامة"، إذ يعاني معظم الرجال ضغوطاً اجتماعية للتصرف بطريقة تؤذيهم أو تؤذي الآخرين تحت غطاء الرجولة، أما النساء فلا يشعرن عادة بهذا الضغط الاجتماعي للتصرف بحزم أو ممارسة الاستبداد أو العنف، لكنهن قد يربطن بين هذه الصفات والرجولة.

كذلك إذا شعرت المرأة أنها بحاجة إلى اكتساب مزيد من الذكورة (لحماية نفسها، أو لأنها تفتقد حماية ذكورية في حياتها) فقد تتخذ سمات ذكورية سامة لأنها تعتبرها الطريقة الوحيدة للبقاء والحفاظ على سلامتها.

من المهم هنا توضيح أن الذكورة بهذا المعنى منفصلة عن التركيب الجسماني للشخص، إذ إنها مرتبطة أكثر بإظهاره سمات ذكورية، وهكذا يمكن لأي شخص أن يتبنى سلوكيات سامة، بصرف النظر عن هويته الجنسية.

عبء الرجولة المثالية

لا شك أن هناك عودة قوية الآن لمفاهيم مشابهة لما كان سائداً في الحقبة الفيكتورية، من حيث وجوب تمتع الذكور بالقوة البدنية والصلابة النفسية، لكن الأمر في القرن الـ21 يصل في كثير من الأحيان إلى توقعات غير واقعية لجسد الذكر، كما نرى في أفلام الأبطال الخارقين التي تحظى بشعبية كبيرة بخاصة بين الفتيان الصغار الذين هم في مرحلة تكوين صورة عما سيكونون عليه في المستقبل، مما يدفع الذكور منذ سن صغيرة إلى ممارسة الرياضة بطريقة هوسية واللجوء إلى مكملات غذائية وعلاجات هرمونية تساعد في اكتسابهم بنية عضلية مبالغاً فيها وتتسبب بأضرار جسيمة لصحتهم.

من ناحية أخرى تؤدي الدعوة المرهقة للسيطرة على المشاعر والتعامل مع أي مواقف حياتية برجولة لا تعرف الدموع ولا البوح ولا الشكوى، إلى ارتفاع معدلات الانتحار بين الذكور. وأكدت أحدث الأرقام الصادرة عن المكتب الوطني للإحصاء في بريطانيا أن الرجال أكثر عرضة للانتحار بثلاث مرات من النساء، وأن الانتحار لا يزال السبب الأول للموت بين الرجال الذين تقل أعمارهم عن 45 سنة في المملكة المتحدة.

مثلها مثل كثير من المفاهيم التي ليس لها قالب محدد وواضح، تتعرض الرجولة إلى تشويه وتحريف من أشخاص يرون أن الرجل هو من يميت عواطفه ويظهر قدراً مخيفاً من الجلافة والقسوة والسيطرة والتجبر وتجاوز من هم أضعف منه، مهمته إصدار الأوامر والنواهي، ولا بأس في لجوئه إلى وسائل مثل البذاءة والشتيمة أو حتى الضرب لفرض هيمنته على الآخرين وتعزيز سطوته ونفوذه، كما أنه لا يأخذ برأي أحد سوى نفسه، ويرى أنه فوق المساءلة والمحاسبة من كبير أو صغير أو قريب، كما لا يتراجع عن موقفه حتى لو تأكد خطؤه وتجلى أمامه.

قد يظن بعضهم أن هذه الخصال ما زالت تلقى دعماً وتشجيعاً في مجتمعات الدول النامية أو العالم الثالث، لكن فئات عريضة من دول العالم المتقدم ما زالت تتبنى عقلية تؤيدها. ففي مارس (آذار) الماضي بين استطلاع للرأي أجرته منظمة "بلان إنترناشيونال" أن ثلث الرجال في ألمانيا (34 في المئة) ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و35 سنة يقبلون أو يمارسون العنف الأسري ضد المرأة، ويرون أن التعامل بقسوة مع النساء ضروري في بعض الأحيان كي يظهرن الاحترام الواجب للذكور.

كما أظهر الاستطلاع الذي يركز على جوانب الهوية الذكورية أن نحو نصف الرجال يشعرون بالضيق من إفصاح أحدهم عن ميوله الجنسية المثلية علناً، وأنهم من أشد المعجبين والمتابعين المخلصين للمؤثر أندرو تيت المتهم بترويجه لأفكار شديدة الذكورية وكارهة للنساء ويصر على أن الحياة الذكورية هي حرب.

لكن الحرب البشرية التي خاضها العالم ككل في وجه فيروس كورونا قبل ثلاث سنوات لعبت أيضاً دوراً كبيراً في إعادة إحياء الأدوار التقليدية للرجال والنساء، إذ تحملت المرأة الجل الأعظم من مهمات رعاية الأسرة والأطفال والأعباء المنزلية، إلى جانب تسليط الوباء الضوء على أزمة العنف الأسري المتفاقمة ضد النساء.

أدى هذا إلى تشكل موجة رد فعل عنيفة في أنحاء العالم منادية بالتركيز على تعزيز صفات الرجولة التقليدية من حماية وتحمل مسؤولية وشهامة والتزام بالواجبات، لكن في الوقت نفسه التخلي التدريجي عن الصورة غير الواقعية وغير البشرية للرجل المثالي الصارم والمحارب الشديد ورب الأسرة المسيطر، لأن الرجال بحاجة إلى القدرة على اتخاذ قراراتهم باختيار شخصي وليس تحت ضغوط المجتمع، وكذلك إلى إخراجهم من هذا القالب النمطي الخانق المؤذي للمجتمع ولهم بالدرجة الأولى.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات