Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كابوس الإعمار يخيم على خيرسون بعد انحسار مياه النهر

فقدوا كل شيء بعدما غمرت الفيضانات منازلهم بسبب تفجير "سد كاخوفكا" ومسؤولون يحذرون من عواقب الأمن الغذائي بالعالم

"أولها" امرأة تقف فوق أرضها التي دمرها الفيضان الناجم عن انفجار سد كاخوفكا في خيرسون  (بيل ترو)

ملخص

أدى تفجير سد كاخوفكا على نهر دنيبرو في أوكرانيا إلى تدمير حياة الكثير من الناس، مراسلة "اندبندنت" بيل ترو التقت بعض هؤلاء واستمعت إلى معاناتهم

جدة أوكرانية ترتدي ثوب نومٍ ملطخاً بالطين، تسير متعثرة الخطى في مياه نتنة غمرت درج منزلها في مدينة خيرسون. هذا هو المشهد الذي توقفت عنده العيون، بعدما بدت أنطونيا شيفتشينكو البالغة من العمر 84 سنة، في حالٍ من الوهن والصدمة، فيما تحاول عبثاً تجفيف ما يشبه المستنقع الذي أغرق منزلها بالماء.

في غضون ذلك، كان سفيتلانا ابنة أنطونيا البالغة من العمر 64 سنة التي تقطعت بها السبل بسبب الطين الكثيف الذي غطى المنطقة، تحاول أن تقنع والدتها بالحفاظ على الهدوء ورباطة الجأش، وسط تردد صدى القصف في أرجاء البلدة.

هذه هي المرة الأولى التي تعود فيها الأم وابنتها إلى المنزل منذ إجلائهما بعد تفجير سد "نوفا كاخوفكا" في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر. وقد أدى الانفجار إلى تسرب المياه من أحد أكبر الخزانات في أوروبا، ما تسبب في فيضاناتٍ واسعة النطاق في جنوب أوكرانيا.

وبحسب الأمم المتحدة، فإن الانفجار - الذي تحمل أوكرانيا وروسيا المسؤولية عنه - أدى إلى وقوع أسوأ كارثةٍ بيئية في القارة في التاريخ الحديث، ومن المتوقع أن تكون له تداعيات على الأمن الغذائي العالمي.

وقد لقي عشرات الأشخاص في خيرسون عاصمة المنطقة حتفهم، وغرقت بلدات بأكملها بالمياه، وأدى الفيضان إلى إغراق الحياة البرية بكاملها، وحول هذا الشارع إلى قناة مائية.

"لم يكن لدينا الوقت حتى لأخذ ملابس والدتي، فقد تعين علينا أن نحملها بشبشبيها وقميص النوم هذا الذي ما زالت ترتديه حتى الآن". هذا ما أكدته سفيتلانا والدموع تنهمر من عينيها، في وقتٍ كانت والدتها المرتبكة تكرر القول: "لقد تحول كل شيء إلى مجرد وحول".

 

 

تضيف سفيتلانا "من المستحيل إصلاح هذا الدمار. لا أشعر بشيء الآن. هناك فراغ كامل في داخلي. بعد هذا الخسارة الهائلة، لم يتبقَ لدينا شيء".

على بعد بضعة شوارع من المكان، كانت أوكسانا كوزمينكو التي تبلغ من العمر 70 سنة - وهي الأخرى كانت تعود إلى بلدتها للمرة الأولى بعد الفيضان - تحاول شق طريقها وسط الدمار. وقد قالت بتهكم ينم عن يأس: "أهلاً بكم في أرض الزومبي".

حتى وقتٍ قريب، كانت الوسيلة الوحيدة للتنقل عبر هذه الشوارع هي بتوجيه قارب بين أسطح المنازل المغمورة. ومع انحسار المياه الآن، ظهر مدى الدمار المروع الذي لحق بالمنطقة، وبالجهود اللازمة التي يتعين بذلها لإعادة الأمور إلى وضعها السابق.

الصورة التي تتكرر تتمثل في تجمع مياه الصرف الصحي والطين والقمامة والحيوانات النافقة وقطع البناء والألغام الأرضية جميعها في الأفنية الخلفية للمنازل المنهارة جزئياً. ولا تزال القوات الروسية المتمركزة على الجانب الآخر من ضفاف نهر دنيبرو الفائضة بالمياه، تقصف المنطقة.

آنا غاتشينكو التي تبلغ من العمر 73 سنة، وهي امرأة مسنة أخرى من سكان هذه المنطقة، تقول إن مزيج المآسي المتمثل في مياه الفيضانات والحرب، "شكل لنا أسوأ كابوس يمكن تصوره".

وتضيف هذه السيدة وهي تنتعل أكياساً بلاستيكية، ربطتها حول قدميها لتعبر هذا الطين السام: "لقد نجونا من الاحتلال الروسي ومن القصف، لكن ابتلينا بهذا الآن. "لقد حرمونا من كل شيء. وكان منزلي ومقتنياتي آخر ما أملك في هذا العالم".

 

 

يقع سد كاخوفكا - الحيوي لمد مناطق جنوب أوكرانيا بالمياه العذبة وري الأراضي الزراعية - في جزءٍ من منطقة خيرسون التي كانت موسكو قد ضمتها إلى روسيا بشكلٍ غير قانوني في سبتمبر (أيلول) الماضي، بعدما احتلتها العام الفائت.

وبدت الأضرار من الشدة بحيث أن أوكرانيا وجهت اتهاماً لروسيا بارتكاب "إبادة بيئية" - معتبرةً أن قوات موسكو قامت بتفجيره في محاولةٍ منها لمنع قوات كييف من التقدم في الجنوب، بعدما بدأت شن هجومٍ مضاد. لكن العاصمة الروسية نفت بشدة اتهامات كييف لها، ملقيةً باللوم على السلطات الأوكرانية.

ويوضح خبراء أن السد بني بمتانة بحيث أن تفجيراً داخلياً فقط كان من الممكن أن يتسبب في مثل هذا الخرق الكارثي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واستناداً إلى الأمم المتحدة فقد تسببت مياه الفيضانات في تدمير مئات البلدات والقرى، وقد حذرت المنظمة الدولية من أن نحو ربع مليون شخص انقطعت عنهم مياه الشرب، وهم في حاجةٍ ماسة لها الآن.

وعلى امتداد مجرى مياه النهر نزولاً تحولت البلدات والقرى هناك إلى مستنقعاتٍ ملوثة، بحيث سجلت إصاباتٍ بالكوليرا بين السكان. أما صعوداً في اتجاه المنبع، فإن الخزان الذي كان يحافظ على اخضرار مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الزراعية، فقد تحول إلى ما يشبه صحراء مالحة. ويصطف سكان تلك المناطق في طوابير للحصول على المياه من سيارات الإطفاء تحت القصف.

تداعيات هذه الكارثة سيشعر بها الناس خارج حدود أوكرانيا، وربما تؤدي إلى انتشار أزمة جوع عالمية. فأوكرانيا - التي تعد مصدراً رئيساً للحبوب والزيوت والخضروات في العالم - سبق أن لقيت صعوبات في تصدير محصولها بسبب الحرب.

 

 

لكن الدمار الناجم عن الفيضانات في إحدى أهم مناطق إنتاج الحبوب على الكوكب، سيؤدي حتماً إلى انخفاض الصادرات منها، وارتفاع أسعار المواد الغذائية في دول مختلفة، وعدم تمكن ملايين الأفراد المحتاجين من تناول الطعام".

مارتن غريفيث وهو مسؤول إغاثة في الأمم المتحدة، كان قد نبه أخيراً إلى خطورة الوضع بالقول: "في الحقيقة إن ما نواجهه ليس سوى البداية لسلسلة من التداعيات المتوالية المحتملة".

وأثارت هذه الكارثة في المقابل مخاوف تتعلق بمدى استقرار محطة زابوريجيا للطاقة النووية، وهي الأكبر في أوروبا وتعتمد على مياه خزان كاخوفكا الجاف الآن للعمل.

رافاييل غروسي رئيس "الوكالة الذرية التابعة للأمم المتحدة" - التي حاولت من دون جدوى بناء منطقةٍ آمنة حول المنشأة - أعرب عن قلقٍ شديد دفعه إلى التوجه إلى المحطة التي تحتلها روسيا في الوقت الراهن. وبعد معاينته للوضع فيها، أقر بأنها "تعاني من... تحديات تتعلق بإمدادات المياه".

أما تاراس تيشينكو رئيس "مركز الوقاية من الأمراض والسيطرة عليها" التابع لوزارة الصحة الأوكرانية في العاصمة الإقليمية زابوريجيا، فأعرب عن مخاوفه من أنه إذا كانت لدى الروس القدرة على إطلاق مياه الفيضانات لتغمر خيرسون، فقد لا يترددون في استهداف محطة الطاقة النووية أيضاً.

يشار إلى أنه بعد انفجار السد، تقوم مرافقه الصحية بفحص الهواء والمياه عبر المنطقة مراتٍ عدة في اليوم، بحثاً عن تسرب أي إشعاعاتٍ أو حدوث حالات تلوث.

 

 

وسجلت حالات إصابة بالكوليرا، فيما تواصل الفرق تطبيق حال تأهبٍ قصوى لمراقبة الإشعاعات. وخضعت هذه الفرق لثلاث جولاتٍ من التدريب لمواجهة احتمال حدوث كارثة في محطة الطاقة النووية، وقام أفرادها بتوزيع أقراص "اليود" Potassium Iodide  [مركب كيماوي يحمي الغدة الدرقية من بعض المواد المشعة وليس كلها] على السكان الذين يعيشون في منطقة الخطر.

ويقول تيشينكو من على رصيف الميناء الرئيس للمدينة الذي جفت مياهه الآن، إن الأضرار التي لحقت بالسد المدمر لا يمكن تصورها.

فالرصيف الخرساني العريض، الذي كان ينظم حركة مرور مائية تجارية، يستوي الآن عاجزاً فوق بركٍ موحلة، تأخذ منها إحدى الفرق عيناتٍ من المياه لفحصها.

ويقول المسؤول الصحي الأوكراني بمرارة، إنه "قد يستغرق الأمر أكثر من عقدٍ من الزمن لإصلاح السد، وإعادة ملء خزاناته بالماء، والعودة بهذه المنطقة إلى وضعها الطبيعي. لكن هذا العمل لا يمكن أن ينطلق إلا بعد تحقيق النصر".

في انتظار ذلك ستتحول المدن والبلدات والقرى على امتداد خزان كاخوفكا، إلى أراضٍ قاحلة في غياب الحلول.

وتتقاطع الشقوق العميقة مع مجاري الأنهر المتصدعة حيث تشاهد الأسماك والرخويات النافقة تحت أشعة الشمس. وفي إحدى القرى، يقود صياد بائس دراجة بخارية عبر المساحات القاحلة، بحثاً عن بركة ماء.

ويوضح فيتالي ماروزوف الذي يبلغ من العمر 29 سنة ويعمل في مزرعة مساحتها 400 هكتار تنتج الخضار والفاكهة خارج مدينة نيكوبول الجنوبية، أنه "بعد تفجير السد، قمنا على الفور ببناء سدودٍ صغيرة، محاولين الاحتفاظ ببعض المياه".

ويضيف بعدما عرض لنا مقطع فيديو لمتطوعين محليين وهم يبنون حاجزاً موقتاً مستخدمين أكياساً وتربة: "إننا نحاول الآن حفر آبار لكن المياه مالحة".

وسبق أن تسبب ذلك في إلحاق الأذى بالمحاصيل الزراعية.

 

 

يتابع ماروزوف أثناء وقوفه إلى جانب حقلٍ مدمر لنباتات الملفوف، طغى عليه اللون الأبيض بسبب الملح، إن المزارعين سيكونون محظوظين إذا تمكنوا من إنقاذ خمس إجمالي محصولهم السنوي. ويرجح أن يكلف الضرر الذي لحق بمزرعتهم 22 مليون هريفنيا - أي قرابة 500 ألف جنيه استرليني (635 ألف دولار أميركي) - متوقعاً أن يزداد الأمر سوءاً مع تقدم الموسم.

وقال: "نحن مجرد مزرعة واحدة، وهذه هي الحال في مختلف أنحاء هذه المنطقة. ولا بد من أن ينعكس ذلك سلباً على الأمن الغذائي العالمي، ما لم يحدث تغيير جذري".

في المناطق المغمورة بالمياه، يقدم متطوعون مساعداتٍ للمجتمعات المعزولة باستخدام القوارب، فيما يقوم البعض بإحضار مضخاتٍ في محاولة لتصريف المياه الراكدة من المناطق الأكثر تضرراً. ومع ذلك، فإن هذه الجهود تكشف فقط عن مدى الضرر الذي لا رجعة فيه والذي لحق بالمنطقة الجنوبية بأكملها من أوكرانيا.

صادفنا في هذه الناحية أولها موسيك، وهي امرأة تبلغ من العمر 70 سنة، اضطرت للسباحة إلى بر الأمان مع مجموعةٍ من القطط الصغيرة حديثة الولادة، وهي الآن عالقة وسط حطام منزلها الواقع في منطقة ميكولاييف، الذي تحولت جدرانه إلى أكوام موحلة من الأوساخ.

وقالت فيما كانت تجمع بقايا حبات البطاطا الفاسدة من حقلها المدمر، الذي بات الآن أشبه بسيلٍ من الطين الأسود: "إن هزيمة الأوكرانيين تتطلب قوةً خارقة. وهذا لن يجدي نفعاً معي. إن كل ما يمكننا القيام به هو استجماع قوانا والمضي قدماً".

وبالعودة إلى مدينة خيرسون، تحاول سفيتلانا مواساة والدتها أنطونيا التي كانت على شفير الإصابة بنوبة من الهلع.

وتقول الوالدة التي بلغت من العمر 84 سنة بصوتٍ خافت وهي ترتدي قميص نومها الزهري الذي يمنح اللون الرمادي الطاغي على المكان طابعاً مختلفاً: "كيف أشعر؟ إنني أسترسل في البكاء طوال الوقت. وأحس بارتجاف في كل جزء من جسمي".

وتختم أنطونيا بالقول: "لقد غمرت المياه كل شيء. وقد باتت حياتي كلها تحت الماء".

© The Independent

المزيد من تقارير