ملخص
"الحلم والأوباش" رواية تستعيد مجاعة الستينيات التي أودت بملايين الصينيين
في رواية "الحلم والأوباش" (دار العين – القاهرة، ترجمة محسن فرجاني) التي لا تزيد في ترجمتها العربية على 84 صفحة من القطع الوسط، يستعيد مو يان، المجاعة التي اجتاحت الصين بين عامي 1958 و1962، بسرد يتولاه كاتب متحقق قرر أن يحول ذكرياته عن تلك الحقبة التي عاشها في مقتبل شبابه إلى عمل روائي، يدخل ضمن ما يسمى "أدب البحث عن الجذور" الذي يعد مويان من رواده. ولا يستبعد أن يكون ذلك الكاتب الافتراضي هو مو يان نفسه، الذي أصدر أعمالاً روائية عدة، متكئاً على ذاكرته، في استدعاء واقع ريفي بائس في الصين، ومنها "الذرة الرفيعة الحمراء"، و"الصبي سارق الفجل"، و"الثور"، على سبيل المثل. وبهذه الأعمال وغيرها استحق مويان جائزة نوبل في الآداب عام 2012. ومويان، كما تخبرنا سيرته الذاتية، مولود في عائلة ريفية، في إحدى مقاطعات شمال شرقي الصين، عام 1955، لم يكمل تعليمه أثناء الثورة الثقافية (1966 – 1976) ليلتحق بالعمل في مصنع للزيوت، ثم التحق وهو في سن الـ20 بالجيش، وبدأت محاولاته الإبداعية الجادة عام 1981، وحصل عام 1991 على درجة الماجستير في الأدب من جامعة بكين.
والأساس الإبداعي عند أدباء البحث عن الجذور، كما يقول فرجاني، الذي يعد من أبرز المتخصصين في درس الأدب الصيني وترجمته، "يقوم على فكرة الانتصار لطاقات الحياة البدائية، والكشف عن الجوهر العبثي للإنسان، تنديداً بضعفه وزيف ثقافته الحديثة".
كاتب افتراضي
ويرى فرجاني أنه لو كان صحيحاً أن براعة مويان في المزج بين الواقعية السحرية والحكايات الغرائبية المعهودة في التراث الصيني القديم، هي المسوغ لحصوله على جائزة نوبل، لاستحقها معه بالتساوي عدد من أهم كتاب القصة في جيل "أدب البحث عن الجذور". ويلاحظ فرجاني كذلك أن الكتابة الروائية عند كثير منهم تجسد إحساساً بعبث الوجود، وتعكس في الوقت ذاته البحث عن يقين ضاع منهم إبان الثورة الثقافية.
والكاتب الافتراضي هنا، يقطع سرد الشاب بضمير المتكلم، بعد أن قطع فيه شوطاً طويلاً، ليعبر عن ذاته بالضمير نفسه، فيخبرنا بأنه متردد في "مواصلة كتابتي هذه التي يقال إنها رواية قصيرة، بيد أنه ينبغي علي أن أخالف إرادتي وأمضي في الكتابة، حتى لو كانت الحوادث التالية أكثر تشظياً وانفراطاً وافتقاراً للتشويق" ص 56. تلك المجاعة أودت بحياة عشرات الملايين، خصوصاً في المناطق الريفية، وتسبب فيها أو استثمرها أثرياء يشير إليهم العنوان على أنهم "أوباش". وللمفارقة فإنها واكبت انطلاق "الصين الجديدة"، و"عصر القفزة الكبرى للأمام"، و"غزو الفضاء"، بحسب شعارات الحزب الشيوعي الحاكم، وقتها.
توقع الكوارث
تميز ذلك الصبي الذي ولد لأبوين يعملان بالزراعة في حقل تملكه الأسرة، ويدعى "شوكن"، بالتنبؤ بما سيحدث، من كوارث على نحو خاص، إذ يراه حلماً أثناء نومه، ليتحقق بعد وقت وجيز، قدراً محتوماً. كان يعيش مع والديه وجديه لأبيه في قرية قريبة من نهر، وليس فيها مدرسة، إلى أن أقام مبشر مسيحي، يدعى "مورويا"، "يتكلم بلغة صينية ركيكة، لا تسعفه في التعبير عن أفكاره بوضوح"، مدرسة ملحقة بكنيسة متواضعة، التحق بها بطلنا بتشجيع من والديه، فيما رأى جداه أن لا طائل من التعليم، وأن الأجدى هو أن يساعد الولد الأسرة التي تعتبر بالمقاييس الشيوعية آنذاك من الأسر "الموسرة"، في أعمال الفلاحة.
في سن الـ14 بدأ "شوكن" يشعر بأن القدرة على التنبؤ جلبت عليه المشاق، بما أنها ترتبط عادة بكوارث، أو أسرار لا يحبذ بعض منهم الكشف عنها، فقرر ألا يحكي لأحد أحلامه. وهو في هذه السن ازداد تعلقه بصبية تصغره بسبع سنوات، قام والداه بتبنيها بعد أن مات والداها عقب ولادتها. اسمها "شو يي"، أي "ورقة الشجر". كانت هذه الأسرة في واقع الأمر رقيقة الحال، في وسط بائس، بسبب جشع بعض منهم ومنهم صاحب ماكينة طحن الغلال، في القرية. بعد وقت قصير من التحاق الصبي بالمدرسة التبشيرية، مات القس الذي كان يرعاها، فتوقفت الدراسة فيها حتى أرسلت الحكومة المركزية بعد سنوات عدة، معلمة، لتتولى إحياء تلك المدرسة الابتدائية، وانتزاع أي معالم دينية تحيط بها، والتحق بها بطلنا مع شقيقته بالتبني، من دون حماسة كافية لتعلم اللغة والحساب. ثم ما لبثت السلطات أن استخدمت تلاميذ المدرسة ومنهم "شوكن" و"شو يي" في أعمال تكسير الصخور لجلب خامات المعادن... "المهمة كانت عبارة عن تكسير أحجار الخامات المعدنية، بالقدائم والشواكيش، حتى يتحول الجلمود البني إلى حصوات مقدار حجم الواحدة منها لا يزيد على نواة الخوخ. ص 60.
ثمار الجوع
وهكذا جرى إهمال الحقول وثمارها وماشيتها، جرياً ربما وراء سراب، أو على الأقل لم تراع السلطات ضرورة الموازنة في الاهتمام بين الزراعة والصناعة، خلال وضع أسس ما جرت تسميته بالصين الجديدة... "كانت أيام شدة وعسر، حتى تقرح وجه جدتي بسبب ما كانت تتناوله من النباتات البرية، وأنوع من الحشائش غير الصالحة للأكل، فأصيبت بالتسمم وانتفخ وجهها واستحال شبيهاً بكرة البالون الطائر، أما جدي فبفضل انتمائه لفئة آكلي طعام البحور فبقي يتمتع بصحة طيبة، ولو أنها تدهورت بعض الشيء عما كان عليه في وقت سابق". في تلك الأيام راحت "شو يي" تسرق الغلال من الطاحونة بطريقة قضت عليها في الأخير، فقد كانت تبتلع ما تيسر من الفول والذرة والقمح والبازلاء، ثم تتقيأه بعد عودتها إلى المنزل ليتخذه أهلها طعاماً. مع الوقت تقرحت معدتها حتى باتت تتقيأ دماً، لتموت وهي بعد صبية في الـ17 من عمرها.
ويقول المترجم محسن فرجاني: "لم تكن ترجمة هذه الرواية بالأمر اليسير، فكتابات مو يان محتشدة بعامية فجة وأمثلة سائرة وبلاغات فولكلورية، يجد قارئ النص الأصلي نفسه صعوبة في فهمها. ولم يكن المعجم اللغوي ليسعف في شيء، لأن اللهجات المحلية الصينية متنوعة للغاية، ومن ثم تعقدت مداخل ترجمته. ثم إن مويان ذاته صرح في لقاءات ومناسبات كثيرة قائلاً إنه يهتم بكيفية الكتابة أكثر من مواضيعها، وبالتالي فالصياغة هي مربط الفرس - كما قد يقال - ولن يستقيم أبداً أن أترجم النص، في مثل هذا اللون من الكتابة إلى الفصحى المضبوطة (بافتراض أني أستطيع) فهذا هو المؤلف يؤكد موقفه من تعيين اللغة قائلاً: إن لغة الناس التي لم تتخللها مصفاة المماحكة هي اللغة التي تستحق الاهتمام من جانب الساحة الأدبية ـ ذلك أن استبعاد تلك الأساليب الحيوية المتجددة، يشبه قطع تيار متدفق نحو بحيرة، فالإنصات إلى لغة العامة والبسطاء هو الذي يحفظ على أساليب الكتابة حيويتها وتدفقها".
هكذا إذاً، يضيف فرجاني: "أراد هو (يقصد مو يان) العامية وابتغيت الفصحى العربية، وقد قيل إن الترجمة في الأصل خيانة، ولم أكن أريد أن أشتط بها إلى حد اقتراف الجريمة، لكن... في الفصحى ما قد يصلح لملاءمة مذاق التعبير بالعامية المخففة، باستدعاء عبارتها كما عهدناها في كتابات مؤرخي مصر المملوكية والعثمانية، سواء عند ابن إياس وابن تغري بردي، أو حتى عند ابن زنبل الرماح وأبي السرور البكري أو ابن يوسف القرماني والأمير الشهابي، وشيخ العربية الدارجة الجبرتي، وكان لديهم جميعاً المدد الوافر، على أني لم أجد معالجة أخرى للنص المترجم يمكن أن تكافئ صياغة النص المصدر أفضل مما تصورته وأخذت به، فقط في بعض الأحوال التي استدعت ذلك وعلى الوجه الذي كنت أراه معبراً عن اتجاه الكاتب ومبيناً لخصائص نزعته الروائية، لكن من دون أن أبدل شيئاً من المحتوى، فلا اسماً حذفت ولا حساباً عدلت، بل حرصت أحياناً وعلى نحو قد يتاخم حد الهزل، أن أنقل معنى ألقاب معطاة لشخصيات بعينها، أراد الكاتب لها دلالة مقصودة في ظلال الكلمات".