Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيت "الرزيزاء"... استحضار العمارة النجدية مع "العصرنة"

فنان تشكيلي سعودي يتمرد على البناء الحديث ويبني منزله بتصميم تاريخي وأدوات شعبية وألوان تراثية

الفنان التشكيلي السعودي علي الرزيزاء (اندبندنت عربية)

ملخص

بنى الفنان التشكيلي السعودي علي الرزيزاء منزله النجدي بأدوات يفوح منها عبق التاريخ وألوان تعكس تدرجات الصحراء وحمرة الجبال

لا يزال الإنسان يختلق أشياء تساعده في فهم ذاته أكثر، فلا يكتفي بمعرفة من يكون داخل عقله أو وجدانه، بل يحتاج إلى ما هو محسوس ومادي لتعكس الجوانب المعقدة لهويته وذاته، وليس غريباً أن يقضي الإنسان سنوات لتفاني في تصميم منزله وتجميع أثاث لتصبح غرفة الجلوس انعكاساً لمن يكون، وغرفة النوم وحتى رف الكتب واللوحات كلها وسائل يعبر من خلالها عن أجزاء منه لم يستطيع التعبير عنها بالكلمات واللغة.

لذلك اختار الفنان التشكيلي السعودي علي الرزيزاء أن يصمم عالمه بنفسه، فكان منزله تحفة فنية مستلهمة من أصالة الموروث الشعبي وعراقته، مستنداً فيه على جوهر البيت النجدي ذي الطابق الواحد وألوان تعكس تدرجات الصحراء وحمرة الجبال.

ولم يكن الرزيزاء ينظر إلى الموروث بهذه الأهمية، لكن بعد عودته من بعثته إلى إيطاليا منتصف الثمانينيات الميلادية وجد بلاده تعيش في مرحلة الطفرة، إذ ارتفعت المداخيل النفطية للدولة والتي أحدثت تغييرات متسارعة في بعض المفاهيم من ضمنها شكل العمارة السعودية.

ويذكر الفنان التشكيلي في حواره مع "اندبندنت عربية" أن ما حدث كان شيئاً جديداً أقرب إلى العالمية منه إلى المحلية، إذ دخلت مواد البناء "الصبة الخرسانية" وغيرت الشكل، كما "بنيت الفلل والعمائر ذات الواجهات الزجاجية والرخامية التي أسهمت في تحويل البيت السعودي من مسكن أصيل يعكس ثقافة ومناخ المنطقة إلى مسكن غير مرتبط بسياق المكان".

تمرد فني

ويعود الرزيزاء بذاكرته عندما زار أصدقاءه وأهله في مدينة الرياض بعد عودته من روما، إذ وجدهم مختلفين متعالين على تراثهم، إذ يسكنون الفلل الفاخرة ذات المساحات الواسعة والحدائق الخارجية التي يسقونها، لكنهم لا يستطيعون الجلوس فيها لأنها بنيت من ثقافة غير ثقافتهم، لافتاً إلى أن هذه التغيرات جعلت ذهنه لا يهدأ من التفكير، لا سيما بعد أن استقر في وطنه، ويتساءل كيف لي أن أعيش في بيت يشبهني ويشبه أسلوب حياتي؟ لماذا لا ينطبع فني على معيشتي الخاصة؟

 

 

تمرد ابن قرية أشيقر الواقعة في قلب نجد شمال غربي العاصمة السعودية الرياض على الفكر السائد في ذلك الوقت، ليثبت للجميع أنه قادر على العيش في منازل تشبهه وتليق بهويته الثقافية بما يواكب العصر الحديث.

وفي زيارتنا لمنزله المسجل من وزارة الثقافة السعودية كأحد البيوت المميزة، وجدنا ملامح العمارة النجدية بأدق تفاصيلها في كل ركن وزاوية من أرضيات وأبواب وشبابيك ونقوش وأثاث، فحتى مقابض الأدراج اختار أن تكون نحاساً قديماً رداً على اللون الذهبي اللامع الذي لا يشبه السعوديين.

وبنى الرزيزاء منزله بجهد فردي استغرق 20 عاماً، إذ درس بعناية جميع جوانب المساحة بما في ذلك التصميم الخارجي والداخلي والأعمال الفنية والأثاث والإضاءة والأصوات، كما رسم تفاصيل البناء وأشرف عليها بنفسه، فكان هو النجار واللحام والكهربائي والرسام.


عمارة نجدية

وقال الفنان التشكيلي إن "كل ما ترونه من صنع يدي، وحرصت على أدق تفاصيله بنفسي"، وشرح تفاصيل بناء البيت التقليدي القديم على مساحة كبيرة تتجاوز 2400 متر مربع، متابعاً "بنيته بطريقة البناء الحامل، وهو يمثل البناء بالحوائط الحاملة باستخدام الطوب، أحد أقدم المواد المستخدمة، ويتميز هذا النظام بسهولة استخدامه وقوة ومتانة تحمله، إضافة إلى توافقه مع بيئتنا الطبيعية".

ونوه الرزيزاء إلى أن استخدام هذا الأسلوب في البناء سيؤدي إلى توفير كلف الهيكل الخرساني أو القواعد المنفصلة والرقاب والميدات الأرضية والأعمدة، مشيراً إلى أن "بناء البيت تم بمجهودات فردية ولم يدخل فيه مقاول، إذ إن المقاولين يريدون سرعة في الإنجاز والربح، بينما كنت أركز على التصميم والجودة والشكل".

وأشار التشكيلي السعودي إلى أن "الإيطاليين كان لهم الفضل في اتجاهه لفن العمارة النجدية، فعلى رغم أنني درست جميع مدارس الفن التشكيلي على يد مجموعة مدرسين في الداخل والخارج، لكن لم أذهب إلى إيطاليا من أجل أن أتعلم الفن"، مستذكراً حديث بروفيسور إيطالي في الجامعة بقوله له "أنتم فنانون ولديكم ثقافة، ولا يمكن أن نضيف لكم شيئاً، نريد رؤية حضارتكم"، لافتاً إلى أن "هذه الكلمات كانت سبباً في أن يتجه إلى العمارة النجدية والنقش على الخشب".

 

 

رمزية الباب

كل شيء في هذا البيت منقوش بدقة وعناية، بدءاً من السقف ومروراً بالمصابيح ووصولاً إلى الأرضيات والطاولات والكراسي المنقوشة بتفاصيل الباب النجدي التقليدي، الذي لم يكن مجرد فكرة تشكيلية وجمالية لدى الرزيزاء، إذ تحدث عنه قائلاً إنه "رمز لجملة تحمل في مضامينها ما يوحيه الباب حقاً، فهو الحد الفاصل بين البيت وخارجه، وكونه يخفي ورائه عالماً لا يعلم تفاصيله إلا من يعيش خلفه"، كما يعتبره العلامة المميزة لأي منزل ونقطة لشرح العنوان للضيوف، فإن كان مصمماً بطريقة مميزة وغير تقليدية فإنه يتولد لدى الضيف الانطباع الأولي عما ينتظره داخل المنزل بمجرد الطرق عليه.

وفي منزل علي الرزيزاء تجد كل ما يمكن أن يبهر المرء حقاً، حيث الشمس تنثر أشعتها في كل الاتجاهات وتحيط الأشجار والزهور بالمكان، والبيت عبارة عن ساحة واحدة يتوسطه "الليوان" النجدي، وهو مصدر للهواء النقي والإضاءة ومركز للضيافة والاسترخاء واجتماع العائلة.

تحرر هندسي

وتحرر الفنان التشكيلي من الرخام اللامع في منزله واختار "البلاط البلدي" الذي اعتاد السعوديون استخدامه قديماً في الأحواش الخارجية، لكنه أبدع في استخدامه داخل البيت وقام بتشكيله وتلوينه وفق نماذج هندسية معقدة، مكوناً 40 نقشة لا تتكرر في مواضع أخرى، مشيراً إلى أن "الفنان لا يحب أن يكرر الشيء ذاته في المكان"، حتى إن المطبخ ودورة المياه في بيته لا يشبهان أي بيت آخر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعن شرح معنى "البيت المميز" قال إنه "بعد أن أصبت بفيروس كورونا أرسل وزير الثقافة الأمير بدر الفرحان وفداً من الوزارة للاطمئنان على صحتي، وبعدها تواصلت معي هيئة التراث وأخبروني أنه تم تسجيل بيتي من البيوت التراثية في السعودية، لكنني اعترضت على ذلك وأخبرتهم أنه ليس تراثياً بل هو على الطراز النجدي العصري، فوجه الوزير بزيارة أخرى لمنزلي وتم تسجيله من البيوت المميزة، وأصبح متاحاً للزوار وضيوف البلاد الرسميين".

ويبدو التصميم النجدي للوهلة الأولى سهلاً وبسيطاً وغير مكلف، لكن الرزيزاء شرح مدى ارتفاع كلفته بسبب قلة الإمكانات المتاحة، لافتاً إلى أنه توقف عن البناء لأعوام لأنه موظف حكومي بسيط، ويتذكر أحد المواقف بأنه لم يستطع "تسلم أبواب البيت لأكثر من سبعة أعوام لعدم توفر قيمتها "، مضيفاً أن "البناء على الطراز النجدي المطور يحتاج إلى المال أولاً والدقة والعناية والتنسيق ثانياً، للتأكد من أن كل شيء يعمل بانسجام، فالأمر يتطلب تخطيطاً وحرصاً أثناء مزج أنماط التصميم المتناقضة للوصول بالمظهر العام إلى التجانس، ولذلك لم يصمم على هذا الطراز نفسه إلا مزرعة واحدة لأحد أقاربي، ولم تكن بمثل هذه المساحة أو التفاصيل".

 

 

قبول مجتمعي

ولم يكن منزل الفنان علي الرزيزاء مجرد تصميمات جذابة، فقد راعى راحة آهله وأخذ الخلفيات المختلفة لهم في الاعتبار، لأن التصميم إذا لم يستخدمه الناس فسيتحول إلى مساحة ميتة حتى لو كان جميلاً.

وعن تقبل أسرته لهذا التصميم أوضح التشكيلي السعودي أنه "بعد قضاء عدد من الليالي في غرف الفنادق أثناء السفر نشعر برغبة قوية في العودة إلى بيتنا الخاص، إذ نكون على طبيعتنا ونتذكر من نحن"، متابعاً "بيتي مريح لي ولأسرتي ولكنه ربما يكون غير مريح للآخرين".

وعند دخول البيت والحديث مع الرزيزاء عن بيته المفعم بالفن التشكيلي أخذنا إلى ورشة صغيرة للصيانة يجمع فيها مختلف الأدوات التي يقوم بإصلاحها وترميمها، وتحدث لنا عن اندثار الحرف اليدوية، مشيراً إلى أن "عصرنة البناء" قضت عليها، ومتابعاً "نملك كنزاً من الفنون لكن الزمن جار علينا وجعلنا نتخلى عنها، فبعد أن وصلنا بالفنون إلى درجة عالية توقفنا عند مستوى معين، لكن ها نحن نعود بدعم لحرفنا بدعم حكومي".

 

 

مشروع الرزيزاء لم يكتمل بعد، فهو غير راض عن التجربة بشكل كامل، لكنه مقتنع بما عمل، فلم يجد أحداً يتعامل معه من خلال التبادل الفكري لتأثيث بيوت كاملة من صنع يده، فهو إن اكتفى ببيته كمسكن فإنه يعمل جاهداً لفتحه كمتحف للزوار ومحبي الجمال.

لوحة بوش

وأثناء حديثنا مع الفنان السعودي استوقفتنا لوحة في أحد ممرات المنزل، وهي إحدى الرسومات الشبيهة للرسمة المهداة للرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب خلال زيارته للسعودية، وذكر أنه تلقى صورة من مكتب الرئيس وهو بجانب لوحته التي أهداها له، وكتب بوش للرزيزاء بخط يده قائلاً "إننا سنحتفظ بهذه اللوحة".

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات