ملخص
تستكشف تشارلوت لايتون خيارات تفوق التصور مطروحة أمام أمهات وآباء يواجهون صعوبات جمة من أجل تلبية الحاجات الأساسية لفلذات أكبادهم.
عندما وُلد ابنها بلسان مربوط [وجود شريط نسيجي قصير ومشدود (لجام لساني) يربط أسفل طرف اللسان بقاع الفم فيعوق الطفل أثناء الرضاعة الطبيعية] وتعذرت عليه الرضاعة الطبيعية من ثدييها، شكل الحليب الاصطناعي "شريان الحياة" بالنسبة إلى بايزي محمود. ولكن في الشهر الماضي، كشف تقرير عن أن سعر هذه السلعة شهد ارتفاعاً جنونياً بنسبة 24 في المئة، مما ترك بعض العائلات في حال مالية تبعث على اليأس إلى حد أنها لجأت إلى السرقة، وحتى إلى السوق السوداء علها تسد جوع صغارها. شعرت الأم بالذعر إزاء هذه الحال، وسرعان ما أعدت أول حملة تبرعات جماعية لها على الإطلاق، مهمومة بمد يد العون إلى المحتاجين بشدة للمساعدة. لم تكن تتوقع أنه في غضون أيام، ستصل التبرعات إلى 5 آلاف جنيه استرليني - وبعد تلك الأسابيع، لن تتوقف الرسائل البريدية الواردة من العائلات الأكثر عوزاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الآن، يفيض البريد الإلكتروني برسائل خاصة بالحملة تتحدث فيها أمهات وآباء عن تدابير يائسة يلجأون إليها مجبرين: إضافة قدر كبير من الماء إلى الحليب الاصطناعي بغية الاحتفاظ بكمية أكبر منه لاستخدامها في الأيام المقبلة، أو المباعدة بين وجبات أطفالهم، أو حتى الاستغناء عن وجباتهم كي يتمكنوا من دفع ثمن علبة الحليب التالية. بدأ آخرون باستخدام علب الحليب المكثف بدلاً من الحليب الاصطناعي، وفي حال مؤلمة جداً استخدمت أم لطفلة تبلغ من العمر ستة أشهر حليب البقر، علماً أنه يشكل خطورة كبيرة على الأطفال [يحتوي على بروتينات لا يستطيع جسم الطفل الرضيع أن يتعامل معها بسهولة، مما يؤدي إلى إجهاد الكلى]. "يا إلهي"، قالت محمود إذ قرأت الرسالة الأخيرة. أوضحت تلك الأم أنها "شعرت بالأسى، لأن هذا التصرف قد أضر بصحة طفلتها فعلاً".
في وقت بلغ تضخم أسعار المواد الغذائية 18.4 في المئة في أيار (مايو) الماضي، ووصل التضخم في المملكة المتحدة في مختلف القطاعات حتى 8.7 في المئة، أي نحو ثلاثة أضعاف التضخم الذي مس اقتصادات مماثلة من قبيل الولايات المتحدة، يلجأ الأهالي الذين يواجهون صعوبات جمة في تلبية حاجات أطفالهم إلى تدابير تنطوي على أخطار كبيرة. لا شيء يصور بصدق ووضوح مستوى اليأس الذي بلغته الحال كما تلك الأم التي أخبرت محمود "لم أملك أي خيار آخر". كذلك لم يكن أمامها أي خيار آخر سوى العودة لشراء الحليب ما إن تماثلت طفلتها للشفاء، ومنذ ذلك الحين تحرم نفسها من وجبات طعام عدة، أو تكتفي بتناول المقرمشات والبسكويت، "لأنها تعجز عن شراء الحليب الاصطناعي لطفلتها، إلا إذا ادخرت المال من مصاريف أخرى".
تكون الأوضاع مأسوية، عندما تخفق دولة متقدمة في إطعام أطفالها. ومع ذلك، يبدو أن حملة محمود ذات الـ36 سنة من بين الإجراءات المباشرة الوحيدة التي ظهرت في أعقاب هذه "الأزمة الوطنية"، كما وصفها أحد كبار أطباء الأطفال. في الشهر الماضي، سلط تقرير عرضته شبكة "سكاي نيوز" الضوء على انتشار واسع لسرقة الحليب الاصطناعي إلى حد أن كثيراً منها الآن يحمل علامات أمنية أو يوضع في خزائن زجاجية خلف منافذ البيع في المتاجر الكبرى، فيما تبرز إلى الواجهة مبيعات السوق السوداء من المنتجات الأرخص ثمناً، وغير الخاضعة للتنظيم، من ثم غير المأمون استخدامها. في رده على التقرير، أشار رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إلى قسائم يوفرها برنامج "الصحة السليمة" باعتبارها دليلاً على أن المساعدة متاحة أمام المحتاجين.
ومع ذلك، فإن الإعانة المتاحة للمستفيدين من مساعدات الائتمان الشامل (أو العائلات ذات الدخل الأدنى من 16190 جنيهاً استرلينياً التي يشملها الإعفاء الضريبي للأطفال) تساوي 8.50 جنيه استرليني في الأسبوع، أي إنها لا تكفي لشراء أرخص علبة حليب اصطناعي. ومنذ رقمنة هذا النظام في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، ونتيجة عدم وضوح بروتوكول التسجيل الجديد، تخسر 200 ألف أسرة، أو ثلث الأشخاص الذين يستحقون المساعدات، موارد بالغة الأهمية من دون داع.
بالنسبة إلى من يأملون في الاعتماد بدلاً من ذلك على بنوك الطعام التي وزعت في العام الماضي رقماً قياسياً بلغ نحو 3 ملايين علبة حليب اصطناعي، وشهدت أكثر من 750 ألف زائر للمرة الأولى، تبقى الإجراءات الروتينية كثيرة. أصبح مبدأ "الرضاعة الطبيعية هي الأفضل" الذي أرسته بالدرجة الأولى إرشادات منظمة "يونيسيف" في الرضاعة الطبيعية، منتشراً جداً في بريطانيا إلى حد أن سلطات محلية عدة فسرته على أنه يعني ضرورة عدم توزيع علب الحليب الاصطناعي، خشية أن تثني الأخيرة الأمهات عن محاولة تغذية أطفالهن بـ"الطريقة الطبيعية". لا تتلقى بنوك طعام كثيرة هبات تضم علب حليب اصطناعي غير مستخدمة، ولا تملك معظم بنوك الأطفال التي تقدم هبات مثل المناديل والملابس والألعاب، ترخيصاً لتقديم المواد الغذائية، مما يعني أنه يتعذر عليها توزيعها [الحليب الاصطناعي] أيضاً.
تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف): "إذا قصدت إحدى العائلات بنك طعام كي تطلب حليباً اصطناعياً للأطفال الرضع، يتصل موظفو بنك الطعام، وفق توجيهاتنا، بالعامل الصحي المحلي أو الفريق المختص بتغذية الرضع كي يتأكد من حصول هذه العائلة على المساعدة الفورية، بل المساعدة المستمرة، والدعم الشامل والمتكامل". ولكن هذه الإجراءات تترك كثيرين ضائعين في دهاليز النظام، في انتظار مساعدة السلطات التي ربما لا تأتي أبداً. في حين أوضحت "فيد" Feed، وهي مؤسسة خيرية مستقلة تعنى بإطعام الأطفال، "أن المبادئ التوجيهية لـ"يونيسيف" اختيارية وأنه لا يوجد حظر قانوني يمنع القبول بالتبرعات أو توفير الحليب الاصطناعي"، لا مؤشرات تحمل على الاعتقاد بأن هذه الحال ستشهد أي تغيير، كما توضح المؤسسة المشاركة إيرين ويليامز، موضحة أن "سبل الدعم الحالية غير كافية."
عموماً، اقترنت الرضاعة الطبيعية بالتطور المعرفي الأفضل لدى الأطفال، بينما يُعتقد بأن العناصر الغذائية الموجودة في الحليب نفسه تشكل الوسيلة الأنسب للوقاية من العدوى ولتطور الجهاز العصبي. كذلك وجدت دراسة نشرت في وقت سابق من الشهر الجاري أن الأولاد على مستوى الشهادة الثانوية العامة الذين رضعوا طبيعياً يقدمون أداء أكاديمياً أفضل مقارنة بأقرانهم الذين لم يحظوا بالرضاعة الطبيعية.
ولكن بعض الأمهات غير قادرات على إرضاع صغارهن (خصوصاً في أوقات الضغط النفسي الشديد)، مما يجعل الحليب الاصطناعي البديل المجدي الوحيد للرضاعة الطبيعية. ومع ذلك، ما زالت التشريعات الحكومية في شأن تسويق الحليب الاصطناعي للأطفال صارمة حرصاً على عدم تشجيع استخدامه على حساب الرضاعة الطبيعية، لذا لا يمكن تضمينه في أي من عروض محال السوبرماركت للترويج، ولا في برامج قسائم ولاء الزبائن، هكذا يمكن أن تحصل كزبون على زجاجة نبيذ مجانية كمكافأة، وليس على طعام للأطفال. وعلى رغم وجود إرشادات واضحة لمحال السوبرماركت في شأن ارتفاع الأسعار، التزمت الحكومة البريطانية الصمت حيال هذه المسألة، مما دفع "الخدمة الاستشارية البريطانية للحمل" (BPAS) إلى إطلاق حملة على التسعير والإعلان عن منتجات الحليب الاصطناعي الشهر الماضي.
الآن، تكلف بعض العلامات التجارية من الحليب الاصطناعي 45 في المئة أكثر من سعرها قبل عامين، وما زال التباين بين سعر علبة وأخرى كبيراً، إذ أظهرت دراسة حديثة نهضت بها المؤسسة الخيرية المستقلة "فيرست ستبس نيوترشن" First Steps Nutrition أن سعر حليب الأطفال في عمر 10 أسابيع يتراوح بين 44 و88 جنيهاً استرلينياً في الشهر. في الحقيقة، تحتوي جميع منتجات الحليب الاصطناعي على المكونات نفسها، ولكن وجدت دراسة تعود لعام 2019 أن 40 في المئة ممن يستخدمون الحليب الاصطناعي اعتقدوا بأن الأنواع الأكثر كلفة هي الأفضل لأطفالهم. الآن، ارتفع ثمن علبة "ماميا أول حليب للرضع" من "آلدي" إلى 9.39 جنيه استرليني لعبوة بوزن 900 غرام بعدما كان 6.99 جنيه استرليني في 2021، وفي العام الماضي، كان بلغ سعر علبة "أبتاميل" بوزن 800 غرام 12 جنيهاً استرلينياً، وسعرها حالياً 14.50 جنيه استرليني. المنتج نفسه يكلف الأهالي الآن ما بين 9.39 جنيه استرليني و19 جنيهاً استرلينياً بحسب العلامة التجارية التي تشتريها.
على رغم تباطؤ المبيعات (على الأرجح بسبب ارتفاع الأسعار)، فإن السوق العالمية للحليب الاصطناعي آخذة في الازدهار، إذ بلغت قيمتها 53.3 مليار جنيه استرليني عام 2022، ومن المتوقع أن ترتفع بنسبة 10 في المئة في غضون عقد من الزمن. وفق تقرير اضطلعت به "فيرست ستبس نيوترشن"، "يبدو أن الشركات تحافظ على أرباحها، في حين أن العائلات العاجزة عن تحمل الأسعار الباهظة لحليب الأطفال قد تلجأ إلى ممارسات غير آمنة، مما يعرض صحة صغارها للخطر".
إضافة إلى أسعارها، يبدو أن مزاعم الملصقات على العبوات تتزايد عبر مختلف منتجات الحليب الاصطناعي. عليه، تحث "الخدمة الاستشارية البريطانية للحمل" التجار على توفير المعلومات الصحية حول الحليب الاصطناعي موضع التساؤل في نقطة البيع، فلا ينفق الأهل الذين يواجهون هذه المحنة العسيرة أصلاً مزيداً من النقود على علب حليب لا تختلف عن غيرها من عبوات معروضة على الرفوف. تقول ويليامز إن عدداً من العائلات المحتاجة تطلب تحديداً "حليب أطفال للرضيع الجائع" الذي يعد بتعزيز الإحساس بالشبع، من ثم خفض عدد الوجبات. "ولكن لا دليل علمياً يدعم هذه الادعاءات على الإطلاق". يؤكد الموقع الإلكتروني الخاص بـ"هيئة الخدمات الصحية الوطنية" ("أن إتش أس" NHS ) "عدم توافر أي دليل على أن الأطفال يهدأون أكثر أو ينامون لفترة أطول عند إطعامهم هذا النوع من الحليب الاصطناعي"، ومع ذلك ما زالت مجموعات المنتج برمتها تحمل الاسم المذكور.
ربما تكون الأزمة الحالية المتصلة بحليب الأطفال الأكثر غرابة نظراً إلى أن الدولة قدمت بدائل الحليب المجفف، سواء كانت مدعومة أو مجانية، منذ عام 1940. على رغم تقديمها في البداية كنتيجة لسياسة التقنين في زمن الحرب، استمر البرنامج في وقت السلم حتى سبعينيات القرن الـ20 حينما تعاظمت المخاوف في شأن مستويات الصوديوم في الحليب الاصطناعي. هذا الواقع، إلى جانب تقرير صدر في 1974 يحث الحكومة على وقف تمويل "الحليب الوطني" وإنفاق تلك الأموال بدلاً من ذلك على حملات الرضاعة الطبيعية، حول الآراء إلى الاتجاه الآخر.
بينما يتفق اختصاصيو الصحة على أن الرضاعة الطبيعية تبقى الخيار الأفضل عند الإمكان، فإن عدم الاعتراف بالحاجة إلى بدائل مناسبة يعني أن أمام كثر الآن خيارات غير مقبولة. الكلف الحالية في بعض الحالات مرهقة جداً إلى حد أنه في شمال شرقي إنجلترا، أبلغ أحد بنوك الطعام عن أن أمهات حوامل يسعين إلى إجهاض أطفالهن، "لأنهن لا يعرفن كيف سيطعمن فماً آخر"، كما تقول إيما لويل باك، النائبة عن ساوث شيلدز. نحن "فعلاً إزاء حال بائسة"، "لقد تجمد دمي في عروقي من شدة الصدمة".
في وقت سابق من الشهر الحالي، طرحت لويل باك مشروع قانون خاصاً بالأعضاء في مجلس اللوردات يحث على التسجيل التلقائي في "برنامج الصحة السليمة"، فيضمن لكل شخص يستوفي شروط البرنامج حصوله على الموارد. سبق أن خُصصت الأموال فعلاً، تقول النائبة، ولكنها لا تذهب حيث تشتد الحاجة إليها. "يبدو لي أن [الحكومة] أخذت أموال برنامج ’الصحة السليمة‘، علماً أن كثراً لا يحصلون عليها منذ رقمنة النظام، وتضعها في مكان آخر، في حين أنها يجب أن تجد طريقها إلى هؤلاء الأهل، والأطفال والرضع".
في غياب أي مساعدة أخرى تالية، تواصل محمود إرسال علب الحليب الاصطناعي عبر المملكة المتحدة إلى عائلات لم تعد تقوى على الانتظار. "تخبرني أمهات كثيرات، أشعر كأنني أخذل طفلي، لأنني لا أستطيع أن ألبي حاجاته الأساسية"، مضيفة أن "عاراً واضحاً يعتري [الأمهات] عندما يتحدثن عن هذه الأزمة. إنهن يشعرن بخجل شديد". ولكنها تخبرهن أن لا ذنب لهن في هذا، وأن الجميع ينبغي أن يحصلوا على المساعدة من دون إطلاق أي أحكام على أحد. بيد أنها أقل تسامحاً تجاه من في متناولهم تغيير الأحوال إلى الأفضل [ولا يحركون ساكناً]. في رأيها، "وجود أشخاص في هذه الحال [المزرية] يعني فشل الحكومة فشلاً ذريعاً".
© The Independent