Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما تنطق الجدران... الغرافيتي فن أم تشويه؟

يمكن أن يكون وسيلة مرئية تسمع أصوات الضعفاء والمحرومين وتعبر عن الناس والثقافات المهمشة والمضادة والحالة الاقتصادية في مجتمع معين

تقليد لأاعمال بانكسي في باريس (أ ف ب)

ملخص

يمكن أن يكون وسيلة مرئية تسمع أصوات الضعفاء والمحرومين وتعبر عن الناس والثقافات المهمشة والمضادة والحالة الاقتصادية في مجتمع معين

أثناء مطالعة أخبار الفعاليات الثقافية في بداية هذا الشهر لفتني خبر عن إقامة معرض بعنوان "فنون الشارع في الداخل" في العاصمة المغربية الرباط، يهدف إلى منح فناني الشارع فرصة لتقديم أعمالهم على هيئة لوحات يمكن عرضها واقتناؤها. عند تصفح الصور المرفقة بالموضوع، أدركت أن غالبية الأعمال هي رسومات غرافيتي مؤطرة ضمن مساحات صغيرة بدلاً من جدران الأبنية والمساحات الواسعة في الشوارع. أثار هذا فضولي لمعرفة رحلة الغرافيتي منذ نشأته وحتى تحوله إلى فن عالمي معترف به تقام له المعارض والفعاليات.

ما الغرافيتي

الغرافيتي هو شكل من أشكال التعبير عن فكرة ما، سواء برسومات أو كتابات يتم إنشاؤها في الأماكن العامة. ويختلف الغرافيتي عن فن الشارع أو تقنية فن الغرافيتي بأنه ينفذ عادة بطريقة غير قانونية وغالباً ما يشمل علامات أو إشارات أو كلمات لا تكون مسموحة أو تستهدف أفراداً أو جماعات معينة.

جاءت الكلمة من اللغة الإيطالية ومفردها "غرافيتو" وتعني خربشة، بدأ استخدامها للإشارة إلى الرسومات القديمة التي يعثر عليها على جدران المباني العامة والآثار وشواهد القبور، وكان أول استعمال لها للدلالة إلى الرسومات التي وجدت في سراديب المقابر في روما وأنقاض مدينة بومباي، ثم تطور استخدامها على مر القرون للإشارة إلى النصوص أو الرسومات الموجودة على الأسطح. ولفترة طويلة، كانت الكلمة مرادفة للتخريب.

نشأة الغرافيتي

يصنف الباحثون الفنيون الرسوم البدائية الأولى التي خطتها يد الإنسان على جدران الكهوف كأول شكل من أشكال الغرافيتي، كتلك التي عثر عليها في كهف لاسكو في فرنسا ويقدر أن عمرها 20 ألف سنة. كذلك اشتهر المصريون القدماء والإغريق والرومان بتدوين أسماء ورسومات وقصائد احتجاجية على المباني العامة على غرار ما يقوم به المحتجون في يومنا هذا.

في فترة الحرب العالمية الثانية تبنى الجنود الأميركيون والبريطانيون والأستراليون شكلاً من أشكال الغرافيتي من خلال رسم مبسط لرجل أو ترك أسمائهم لتكون رسالة ود للجنود الذين سيمرون عبر الطرقات نفسها بعدهم، غير مدركين أن هذه الممارسة ستتحول في ما بعد إلى ثقافة وفن.

وفي حين أن الغرافيتي كان موجوداً بأشكال عدة على مر التاريخ، إلا أنه لم يتحول إلى ظاهرة معروفة على نطاق واسع إلا في ستينيات القرن الماضي عندما اتخذت الشكل الذي نعرفه حالياً ويسميه الاختصاصيون بـ غرافيتي الهيب هوب، نظراً لنشوئه في فترة ظهور الموسيقى التي تحمل الاسم نفسه وانطلاقه من المناطق الحضرية في أميركا بخاصة في نيويورك وفيلادلفيا ولا سيما في الأحياء السوداء واللاتينية.

تختلف آراء المؤرخين على مسقط رأس الغرافيتي الحديث بين فيلادلفيا ونيويورك، لكن سرعان ما أصبحت الأخيرة بؤرة هذه الثقافة بلا منازع، ووصلت إلى ذروتها في السبعينيات، حيث كانت الرسومات التي تغطي قطارات مترو الأنفاق في نيويورك منتشرة لدرجة أن الرؤية كانت شبه مستحيلة من نوافذ عربات القطارات.

شهد عام 1949 نقلة مهمة في مسيرة الغرافيتي، حيث أسهم اختراع علب رذاذ الطلاء ميسورة التكلفة وخفيفة الوزن وسهلة الاستعمال والإخفاء في زيادة عدد الأشخاص القادرين على ترك بصماتهم على جدران الأحياء والمدن، وفي حين أن الرسومات الجدارية التاريخية تكون عادة منقوشة أو مطلية، إلا أن الغرافيتي المعاصر ومنذ منتصف القرن الماضي تقريباً ينفذ باستخدام رشاشات الطلاء.

ما يميز الغرافيتي عن أنواع فنون الشارع الأخرى هو استخدام الرسام الأسلوب والتصميم نفسه تقريباً في جميع أعماله، وأنه لا يعرف مكاناً محدداً، إذ يمكن أن تجده في الأنفاق، أو على السلالم المتحركة، الجسور، الطائرات، السيارات، الأبنية المأهولة والمهجورة، في الساحات أو الأزقة.

كما أن الغرافيتي وسيلة لنقل رسالة الفنان، ومن هنا تأتي أهمية اختيار مكان إنشاء عمله، وغالباً ما كان فنانو الغرافيتي في أواخر القرن العشرين أشخاصاً غير قادرين على الوصول إلى منصات ومنابر تمكنهم من إبراز فنهم أو نشر رسائلهم، فلجؤوا عوضاً عن ذلك إلى الأماكن العامة لترك علاماتهم الفارقة معروضة أمام المجتمع بأكمله.

بشكل عام، يعتبر الغرافيتي غير قانوني في جميع الدول، لكنه مصرح به في مناطق وأحياء محددة فقط من بعض المدن والعواصم مثل نيويورك وكاليفورنيا في الولايات المتحدة، ملبورن في أستراليا، وارسو في بولندا، براغ في جمهورية التشيك، باريس في فرنسا، تايبيه في تايوان، زيوريخ في سويسرا وكوبنهاغن في الدنمارك.

من بدأ فن الغرافيتي؟

ليس من السهل تحديد الفنان الذي بدأ اتجاه فن الغرافيتي بدقة، إذ إن الرسومات لا تدوم طويلاً على الجدران في الغالب، ما يجعل تعقب أصولها أمراً صعباً، إلى جانب أن فناني الغرافيتي يكونون مجهولي الهوية عادة وكثيراً ما يقوم فنانون آخرون بالرسم فوق الأعمال الموجودة فعلاً، أو تتم إزالتها أو تغطيتها بالطلاء من قبل أصحاب المباني أو بلديات المدن.

على كل حال، غالباً ما يشار إلى الأميركي داريل ماكراي، المعروف باسمه الفني "كورن بريد"، على أنه منشئ الغرافيتي كحركة فنية ويعتبر أول فنان معترف به في مشهد الغرافيتي الحديث. بدأ ولع كورن بيرد لما كان في سن الثانية عشرة في عام 1965 عندما كان يكتب اسمه على أي سطح تستطيع يده الوصول إليه في فيلاديلفيا. من دون أن يدري، أطلق كورن بريد حركة سرعان ما انتشرت وازدادت شعبيتها. كان أشهر أعمال كورن بيرد وأكثرها إشارة للجدل قيامه بكتابة عبارة "يعيش كورن بريد" على جسد فيل في حديقة حيوان فيلادلفيا رداً على إشاعات زعمت وفاته.

يتبع فنانو غرافيتي معاصرون نهج كورن بريد بترك بصماتهم على مختلف الأشياء والأماكن، مثل أليك مونوبولي الذي رسم شخصيته المفضلة، مستر مونوبولي من اللعبة الشهيرة، على حافلة وواجهة أحد متاجر السوبرماركت وحتى مجففات الأيدي في الحمامات العمومية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هل الغرافيتي فن يصنع فنانين حقيقيين؟

 مع أن الغرافيتي كان يعتبر إلى مرحلة قريبة تخريباً وتلويثاً بصرياً لا تتقبله فئات من الجمهور ولا تنظر إليه نظرة إيجابية، إلا أنه أصبح معروفاً على نطاق واسع كنوع فني حضري معاصر.

لا يعتقد البعض أن الغرافيتي فن جيد، لكن القبول والتقدير ليسا من بين أهداف القائمين وراء هذه الأعمال، وهم غالباً من الأفراد المحرومين والمطالبين بحقوقهم، إذ إن رسوماتهم عبارة عن بيان ينقل أفكار الثقافة المضادة والتمرد ويعبر عن الذات، ولا تسعى إلى الحصول على إطراء الجمهور. هذا ما يجعل أغلب رسامي الغرافيتي يستخدمون أسماء مستعارة ويتبنون ما يسمى بالعلامة أو التوقيع لتمييز أعمالهم عن غيرهم من الفنانين.

يمكن أن يكون الغرافيتي وسيلة مرئية تسمع أصوات الضعفاء والمحرومين، وتعبر عن الناس والثقافات المهمشة والمضادة والحالة الاقتصادية في مجتمع معين، لكن بمجرد التعامل معه على أنه تخريب وربطه بتحديد مناطق نفوذ العصابات والتركيز على عنصري المخاطرة والتخفي عن عين القانون، يتم تجاهل المهارة العالية والموهبة الاستثنائية التي يتمتع بها بعض الرسامين.

في حالات كثيرة، يطلق على الغرافيتي اسم فن الشارع السياسي، وقد تسبب في إثارة خلافات سياسية ومجتمعية عدة. في عام 2020 أثار رسام الغرافيتي لاش ساكس، الذي يعد المعادل الأسترالي لـ بانكسي، غضب حوالي مليوني شخص من معجبي مغني الراب "50 سنت" بعدما رسمه في عدة جداريات لم ترق للموسيقي الأميركي، بخاصة تلك التي يظهره فيها على هيئة دونالد ترمب. أدى ذلك إلى مهاجمة المعجبين الغاضبين رسام الغرافيتي وضربه ضرباً مبرحاً تطلب تلقيه العلاج في المستشفى.

منذ عام 2005، بدأ بانكسي بإثارة لغط بسبب أعماله التي رسمها على الجدار العازل في الأراضي المحتلة، وصولاً إلى عام 2017 حيث حولت رسوماته فندقاً يطل على الجدار إلى أشهر فندق في العالم في ثاني يوم من افتتاحه.

مثله مثل أشكال الفن الأخرى، تقدير الغرافيتي هو مسألة شخصية وذاتية بحتة متعلقة بذائقة الشخص، وتتراوح جودته بحسب مهارة وخبرة الشخص الذي يقف وراءه، لكن مهما كان الموقف الشخصي منه لا يمكن إنكار القدرات الفنية العالية التي حولت أمثال بانكسي وأليك مونوبولي إلى فنانين عالميين انتقلوا إلى جدران المتاحف والمعارض لتنفيذ أعمالهم. في عام 2021 بيعت لوحة "الحب في القمامة" لبانكسي بسعر 29.5 مليون دولار أميركي.

أدى رواج الغرافيتي إلى نشوء ما يسمى "فن الغرافيتي" الذي يعتمد تقنيات ومنهجيات رسومات الشوارع ويطبقها على وسائط أخرى مثل اللوحات القماشية أو الألواح الخشبية، الذي سمح بنقل الأعمال من جدران الأبنية وعرضها في بيئات أخرى.

يعتبر فن الغرافيتي حركة فنية معاصرة جذرية يظهر فنانوها بعض التأثر بحركات الفن الحديث الأخرى التي سبقته مثل فن البوب والتعبيرية التجريدية والسريالية. ومع أن الغرافيتي بدأ في فترة نشوء الفن الحديث إلا أنه لم يتحول إلى فن إلا على أيدي فنانين معاصرين. 

يعد أليك مونوبولي وبانكسي من أوائل الفنانين الذين أكسبوا الغرافيتي صفة الفن الحقيقي عندما أسهما بنقله من الشوارع وحمايته من الإزالة والنسيان وأخذه إلى المتاحف والمعارض العالمية. ساعد ذلك أيضاً على بيع أعمال الغرافيتي ووصولها إلى عالم الأزياء والأكسسوارات والحقائب. في عام 2013 استعانت دار هيرميس للأزياء بفنان الغرافيتي مينت أند سيرف لإعطاء حقيبة بيركين الأيقونية لمسة معاصرة تناسب ثقافة البوب أكثر. بيعت الحقيبة المغطاة برسوم الغرافيتي بسعر 37500 دولار. أما الحصول على بلوزة قطنية طبعت عليها كلمة "ديور" بأسلوب الغرافيتي فيكلف أكثر من 960 دولاراً.

وفي عام 2019، تعاقد صاحب شركة الساعات السويسرية الفاخرة تاغ هيور مع الفنان أليك مونوبولي لتصميم مجموعة محدودة من ساعاتها الأنيقة، بيعت الواحدة منها بأكثر من 6200 دولار.

الغرافيتي عامل جذب سياحي

تزداد شعبية الغرافيتي وفن الشارع بشكل عام في أنحاء العالم كافة، لدرجة أنه توجد أماكن لا تقوم السلطات فيها بإزالة الرسومات وتحافظ على وجودها، بخاصة تلك المنشأة في مواقع استراتيجية، لتكون معلم جذب يقصدها السياح من محبي هذا النوع الفني.

تعد نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية موطن حركة الغرافيتي، وهناك زوايا عدة في أرجاء المدينة التي تتزين بأعمال فنية استثنائية، بما فيها بروكلين وبرونكس ومانهاتن، إلى جانب قاعة مشاهير الغرافيتي ذائعة الصيت في حي هارليم.

على الطرف الآخر من المحيط، تشتهر مدينة بريستول البريطانية بكونها موطن بانكسي أحد أشهر فناني الغرافيتي ورسوم الشوارع في العصر. لطالما تباهت المدينة بمشهد الغرافيتي فيها وتستضيف منذ عام 2011 مهرجان "لا ترَ شراً" See No Evil، أحد أكبر التظاهرات العالمية لفن الشارع.

تشتهر محطة مترو استوكهولم في السويد بكمية رسوم الغرافيتي التي تزين جدرانها لدرجة أنها لقبت بمستضيفة أطول معرض فني في العالم، لكن أغلب الأعمال الموجودة فيها رسمت بشكل منظم ومدروس ولم تكن غير قانونية.

لا يمكن للزائر في برلين ألا يندهش من الكم الهائل للرسومات والجداريات التي تزين شوارعها ومعالمها الرئيسة وأهمها جدار برلين الذي يعد لوحاً عاماً يتزين برسومات تعكس تاريخ المدينة، لكن في المقابل تشتهر العاصمة الألمانية بمشهد غرافيتي غير قانوني إشكالي غالباً ما تتمحور رسائله حول الحقبة النازية والمحرقة اليهودية ومعاداة المثلية الجنسية. تعد لوحة "قبلة أخوية" الموجودة حالياً في متحف جدار برلين، والتي تظهر الرئيس الألماني الشرقي السابق إريك هونيكر وهو يقبل نظيره السوفياتي ليونيد بريجنيف، من أشهر أعمال الغرافيتي في العالم وقد ألهمت في عام 2016 رسم لوحة مماثلة على جدار في ليتوانيا تظهر الرئيسين الأميركي السابق دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين يتبادلان قبلة ساخنة حققت انتشاراً كاسحاً على وسائل التواصل الاجتماعي.

يأتي عدد كبير من أشهر رسامي الغرافيتي وفناني الشارع، مثل إدورادو كوبرا، من مدينة ساو باولو البرازيلية التي تعتبر معرضاً في الهواء الطلق.

مع أن بريستول تحتل الصدارة إلا أن محتوى العاصمة البريطانية لندن من أعمال الغرافيتي الشهيرة على مستوى عالمي لا يقل أهمية، بخاصة تلك التي رسمتها أيدي أمثال بانسكي وبيكا وماد سي.

ما يميز أعمال الغرافيتي في باريس هي أنها مرتبطة بشكل حيوي بالمشهد السياسي وتمتلك جذوراً قوية في النقد السياسي والتمرد الذي يبدو واضحاً فيها.

نظراً لكون روح ثقافة الهيب هوب بارزة بقوة في لوس أنجليس، ليس من المفاجئ أن تكون رسومات الغرافيتي الاستثنائية ملمحاً واضحاً في هذه المدينة.

تعتبر ملبورن عاصمة الغرافيتي في أستراليا، حيث يجتذب شارع هوسير لين بشكل خاص انتباه السياح من كل أنحاء العالم بسبب رسوماته وألوانه.

وفي مكسيكو سيتي، التي تشتهر بشكل عام باحتضانها الفن الحديث بأشكاله المختلفة، تتخذ الجداريات طابعاً دينياً وسياسياً يعكس القوى ذات التأثير الأكبر على المجتمع المكسيكي.

أينما كنتم في العالم، عندما تصادفون رسمة غرافيتي في المرة المقبلة، تذكروا أن شخصاً ما موهوباً تسلل في الظلام وخاطر بحصوله على غرامة مالية أو عقوبة على الأرجح من أجل أن يقدم لكم لوحة مجانية تكسر رتابة شوارع المدن المعاصرة.

المزيد من تحقيقات ومطولات