لعل رحلة الكاتب الفرنسي الكبير تيوفيل غوتييه (1811-1872) إلى الجزائر في القرن التاسع عشر هي من اجمل الرحلات التي قام بها رحالة ومستشرقون أجانب إلى بلاد المغرب العربي. وقد ألف غوتييه كتاباً بديعاً عن رحلته تلك سماه "رحلة إلى الجزائر". وحديثاً صدرت ترجمته العربية كاملة للمرة الأولى في سلسلة كلاسيكيّات الأدب الفرنسيّ الصدارة عن مشروع "كلمة" للترجمة في دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، ونقلها عن الفرنسية الكاتب والمترجم المغربيّ محمّد بنعبود، وراجع الترجمة ونقّحها وقدّم لها الشاعر والأكاديميّ العراقيّ المقيم في باريس كاظم جهاد.
نادراً ما شهد الأدب الفرنسيّ كاتباً بمثل تعدّد ميول تيوفيل غوتييه وتنوّع الأنماط الأدبيّة والفكريّة التي مارسها وترك في كلّ منها أكثر من عمل فاتن شديد التأثير. كان شاعراً وروائيّاً وقاصّاً وكاتباً مسرحيّاً وناقداً عُرفَ بمتابعاته الحاذقة لجديد الآداب والفنون، وقصص رحلاته الشهيرة التي توقف القارئ على رؤيته المتفرّدة والمتبحّرة في معاينة البلدان التي يزورها شرقاً وغرباً، ومتابعاته المرهفة للأعمال الأدبية والفنيّة المكرّسة لهذه البلدان.
زار غوتييه الجزائر في صيف 1845، ونشر عن رحلته إليها في المجّلات صفحات متفرّقة لم يجمعها في كتاب إلّا في 1865. ويبدو أنّه، في الوقت نفسه الذي يطمح فيه إلى إهدائنا رحلة مشوّقة وجذّابة للبلاد، يعِدنا برحلة مصوّرة، يرسم فيها بالكلمات مشاهد مرئيّة ومواقف معيشة، تفضيلاً لها على الانثيالات الشعورية المعتادة عن الفضاء الغريب وساكنيه. دائماً يعرب غوتييه في رحلاته عن ولع بالتفاصيل، تفاصيل دالّة كان هو شديد التربّص بها ومعتاداً على التقاطها برهافة. وتراه في هذه الرّحلة وهو يقارن بين شوارع الجزائر وشوارع باريس، للخفض من قيمة هذه لصالح تلك، ويقرّب بين الأماكن الجزائرية ومشاهد مرسومة في لوحات غويا ورامبرانت ودولاكروا. هكذا شكّل الرّسم والرقص والموسيقى والغناء نوافذه الحيّة إلى العالَم الذي كان يجوب مدنه وأريافه. من هنا يعني العنوان رحلة فنّية أو تشكيليّة أو مصوّرة إلى الجزائر، أيضاً.
رحلة غير استشراقية
نجهل دواعي تأخّر غوتييه في نشر رحلته هذه في كتاب، هو الذي دأب على نشر نصوص رحلاته (إلى كلّ من إيطاليا وإسبانيا وروسيا والقسطنطينية مثلاً) فور عودته إلى بلاده. ولا نعلم هل كان لهذا التأخّر علاقة بالمضايقات التي تعرّض لها غوتييه بعد ثورة 1848 إذ كان يعارض انهماك الفنّان في السياسة، وبالتالي تدخّل السياسة في الفنّ. معلومٌ أنّه كان من أهمّ منظّري تيّار "الفنّ من أجل الفنّ"، ولعلّ هذه العبارة - الشّعار هي من وضْعه. بيد أن هذا "اللّا تسيّس" لم يمنعه من أن يعبّر عن رؤية نقديّة للعالَم، وعن نوع من الاستنكاف الضميريّ أمام عنف التاريخ وممارسات بعض الحكّام. قام برحلته هذه بعد غزو فرنسا للجزائر بخمسة عشر عاماً. وخلافاً للمثقّفين الرسميّين أو المستشرقين المحترفين في ذلك العهد، لا يحيّي غوتييه حضور فرنسا في البلاد. لا بل نجد في صفحات عديدة من الرّحلة مقارنة بين "المتحضّرين" و"البدائيّين" أو "البرابرة" المزعومين، ينتصر فيها دوماً لهؤلاء الأخيرين، موحياً بأنّ البدائيّة والبربريّة ليستا في "ملعبهم" حقّاً. لا يدين الاستعمارَ جهاراً، ولكنّه أبعد ما يكون عن محاباته. هو بالأصل ناقدٌ للحضارة (الغربيّة بخاصّة)، وللمدنيّة التي رآها زاحفة بتناقضاتها، وكان مثل الكثير من الرّومنطيقيّين يرغب في الهرب من قبح الحضارة التكنولوجية الوليدة وحَمَلة رسالتها المزعومين. ولا يمكن القول إنّه كان مسروراً بالعثور عليهم أمامه في الجزائر. هو بهذا المعنى أحد روّاد جيل من الأدباء الرّحالة الذين صدمهم عمل أوروبا الغازية على محو معالم الشرقّ الأصليّ وعلى إعادة اختراع الشرق، "شرْقَنَته" بلغة إدوار سعيد.
إلى هذا، يضمّ الكتاب في قسمه الثاني عدّة متابعات نقديّة للعديد من عناصر الأدب والفنّ الاستشراقيّين المتعلّقين بالجزائر، كان غوتييه قد كتبها في فترات مختلفة وجمعها الباحث الجزائري وهمي ولد إبراهيم، الذي تنطلق الترجمة من طبعته لهذه الرّحلة. هكذا يغنم القارئ في مختلف نصوص هذا الكتاب منفذاً إلى انطباعات شاعر وأديب وناقد عن المكان والإنسان الغريبَين، وفي الأوان ذاته معرفة بواقع الحال في الجزائر في أولى سنوات احتلال الفرنسيّين لها، وجولة منعشة ومثرية في إبداعات الفنّانين والكتّاب المفتونين بالبلاد يومذاك. وهذا كلّه يعبّر عنه غوتييه بشاعريّته المعروفة وحذقه بأصول النقد الأدبيّ والفنّيّ، وبإفادته الدائمة من معرفته الواسعة بمختلف الثقافات.
ولد تيوفيل غوتييه في مدينة تارب في جنوب فرنسا في 1811 ونشأ في باريس وتوفّي في ضاحيتها نويي سور سين في 1872. هو أحد أهمّ أعمدة التيّار البرناسيّ في الشعر الفرنسيّ، وأحد أعلام الرومنطيقيّة الفرنسيّة والدّاعين إلى تجاوزها في آنٍ معاً. كان شاعراً وروائيّاً وقاصّاً وكاتباً مسرحيّاً وناقداً. من أهمّ مجموعاته الشعريّة "ملهاة الموت" و"مزجّجات وأحجار منقوشة"، ومن أشهر رواياته "الآنسة موبان" و"رواية المومياء". أنعش الأدب السرديّ ومدّه بأبعاد غرائبيّة وخياليّة جديدة من خلال قصصه الفنطازيّة.