ملخص
في مجموعته "بصورة مفاجئة "يتداخل الحلم باليقظة والشخصيات تتحول بلا استغراب
كان مصطلح "الحساسية الجديدة" من أهم المصطلحات التي أشاعها الكاتب إدوار الخراط، في الوسط الإبداعي المصري منذ ثمانينيات القرن الماضي، قاصداً السرد عموماً في السياق "الكتابة عبر النوعية"، أي التي تتجاوز نقاء النوع الأدبي وتستعير جماليات أنواع مختلفة. ومن ذلك مثلاً "القصة / القصيدة" التي تعتمد بصورة رئيسية على وصف مشاعر السارد. وكان منتصر القفاش في مقدمة من برعوا فيها. غير أن القفاش اختط لنفسه في مجموعته الجديدة "بصورة مفاجئة" (دارالكتب خان) طريقاً مختلفاً يقوم على تأمل الأحداث المألوفة، وتفجير الدهشة فيها حتى تبدو وكأننا نراها للمرة الأولى، وذلك على طريقة الوجود بالقوة والوجود بالفعل. فالأحداث المألوفة تمتلك – بالقوة – دهشتها الخاصة التي يستطيع السرد اكتشافها. ومنتصر القفاش صاحب خبرة في صناعة هذه المعادلة عبر ثلاث مجموعات قصصية هي: "نسيج الأسماء"، و"السرائر"، و"شخص غير مقصود"، وثلاث روايات: "تصريح بالغياب"، و"أن ترى الآن"، و"مسألة وقت".
يبدو تداخل الحلم واليقظة حاضراً في أكثر من قصة بوصفه استراتيجية إبداعية، حيث تنتقل الشخصيات بيسر من هذا إلى ذاك والعكس من دون إحساس بالغرابة. ومن ذلك ما حدث في قصة "حكي الأحلام": "رأيت سعاد جالسة مثل جدتي على الكنبة، ترشف القهوة وتتعمد عدم النظر نحوي. اندهشتُ من عودتها إلى بيتها وهي ترتدي جلابية جدتي". وكل هذا يتم في إطار الحلم، لكنه يتحول إلى واقع عندما تلاحظ أم السارد عدم وجود "جلابية لونها أزرق"؛ في حين تصر الجدة على أنها وضعتها بنفسها في الدولاب منذ عدة أيام. واختلاط الحلم والواقع على هذه الصورة يجعل السارد غير قادر على التمييز بينهما. فلوهلة ظنَّ أن صوتيهما – الأم والجدة – جزء من الحلم ، وأن سعاد ستظهر " في أي لحظة لتعيد الجلابية الزرقاء" ولم تستعر سعاد الجلابية الزرقاء – فحسب – بل يتماهى صوتاهما، ففي الدرس الخاص ظل السارد سارحاً في تخيل سعاد مرتدية الجلابية، وحينما أجابت على سؤال سمع صوتها متداخلاً مع صوت الجدة. استعادة الماضي
تتحدث قصة "الملاكم" عن "محمود" (يعتبره السارد في منزلة عمه ليختصر صلة القرابة البعيدة به)، الذي أطاح خصمه بعد ضربات قوية ليفوز ببطولة محافظة القاهرة، وكان قريباً من بطولة الجمهورية لولا تعرضه لحادث سيارة أصابته بالعرج ومات بعدها. جد يستعيد هذه الحكاية في محاولة لاستعادة هذا الماضي العظيم والمؤلم في وقت واحد. وذات يوم يقرأ حواراً مع هذا البطل ويرى إحدى صوره في جريدة "الأهرام" فيبدو كما لو أنه حقق حلم عمره، فيبحث عن أستديو "الأنوار" الذي تم تصوير البطل فيه. وحين ذهب إلى هناك علم أن لدى المصور ثلاثين صورة، طالباً فيها خمسة آلاف جنيه، فرفع الجد ذراعيه ولكم المصور لكمتين. والغريب أن الجد تعلم كيفية توجيه اللكمتين من البطل نفسه الذي زاره في الحلم وعلمه ذلك، ثم أهداه ألبوم الصور الضخم محققاً رغبته في استعادة الماضي. وفكرة العبور من الموت إلى الحياة تيمة متكررة نجدها أيضاً في قصة "دور شطرنج" حين لا يجد السارد تفسيراً لحديث الزوج مع زوجته الراحلة إلا "شدة الشوق إليها وللأيام التي كانت تعثر فيها على ما يضيعه ".
في مكانين
لاحظنا تراوح معظم الشخصيات بين عالمي الموت والحياة وانتقالها من عالم لآخر، وما ينطبق عليها نراه في "الأشياء" التي توجد في مكانين في وقت واحد. ومن هنا تصبح الأحداث المألوفة قادرة على صنع الدهشة. ففي قصة "دور شطرنج" يضيع "قلب" معدني، فيقول خال السارد له: "خلاص هند – زوجنه المتوفاة – لقت القلب وبتسلم عليك". وتحدث المفاجأة عندما يرى السارد "القلب الصغير قابعاً في إحدى الزوايا، كأنه مختبىء أو وقع في فخ لا يستطيع التخلص منه؛ بما يعني وجوده في مكانين متباعدين. وتختم القصة أحداثها بقول السارد: "وحتى الآن، رغم مرور سنوات كثيرة على هذا اليوم (يوم إهداء خاله القلب له) كلما أدرت القلب بسرعة رأيت الألوان المتداخلة التي يظهرها التفسير الوحيد لكل ما حدث". وهكذا تظل الأشياء بين عالمي الاختباء والظهور المفاجىء والاختباء مرة أخرى في دورة لا تنتهي. ففي قصة "في رؤية الأشياء" تصبح أغنية الجد المفضلة "دوّر عليه تلقاه" التي تقول كلماتها "قدام عينيك وقريب، ولا انت حاسس بيه، يعني هو جزاه، تبقى عينيك شايفاه وبرضو بتدوّر". وليس عجيباً أن يتعلق بهذه الأغنية المعبرة عن حاله، فقد كانت كل تفاصيل صورته في المرآة واضحة باستثناء الساعة التي لم يكن لها أثر "حول معصمه الذي انعكس كاملاً"؛ رغم ارتدائه لها .
ملابس تتآكل
على أن أغرب ما نجده من أحداث يظهر في قصة "صديقي"، فبمجرد خروج هذا الصديق إلى الشارع تبدأ ملابسه في التآكل، وقد تأكد من ذلك بعد ملاحظة أحد ركاب المترو له حيث "انتبه لانسحاب طرفي بنطلون محمود إلى أعلى فابتسم، ومع ازدياد التناقص سأله: ايه ده؟ عندها تأكد أن تآكل البنطلون ليس وهماً وأنّ من المستحيل مواصلة طريقه إلى عمله". إنها تيمة التعري اللاإرادي التي تتوازى مع تيمة فقد الأشياء واختفائها. أو أننا أمام ألغاز لا نستطيع تفسيرها. هذه الألغاز التي أحبّها أخو السارد في قصة "أماكن الكنز"، منذ صغره، و"المطلوب فيها تحديد الطريق إلى صندوق الكنز من خلال الخطوط المتداخلة". ويبدو لى أن الجملة التي كان يرددها الأخ الصغير من كتاب "كن يقظاً" والتي "تحث على إعادة النظر في ما نظنه عادياً في حياتنا وعدم الركون إلى معرفتنا المسبقة به"، تبدو هذه الدعوة معبرة عن جمالية الكتابة عند منتصر القفاش، بالإضافة إلى محاولة استعادة الماضي والرغبة في تكراره أو تثبيته في الذاكرة من خلال الصور ونحوها.
ويظهر ذلك في قصة "فتح الباب"، إذ يبدو وكأنه باب مشرع على الماضي. وبالفعل فهو باب قديم اشتراه والد السارد وصديقه، وحاول الصديقان بعد مرور ثلاثين عاماً تكرار هذا اليوم وشراء باب آخر يشبهه حيث " اتفقوا على تكرار اليوم الذي حدث منذ ثلاثين عاماً. لكن اليوم امتد إلى ثلاثة أيام متتالية... "جابوا فيها مناطق كثيرة بحثاً عن الباب، ولم يكفوا عن الضحك، وتخيّلوا أنفسهم مغامرين يستهينون بكل العقبات من أجل الوصول إلى الكنز".
نهايات مفتوحة
لعل ما لاحظناه سابقاً يؤكد اعتماد الكاتب على الوهم، فكل شىء موجود وغير موجود، حي وميت في آن واحد. وهو ما يمهد لتيمة المفارقة وضرب أفق التوقع. ففي قصة "الحصان" نظل نتعامل معه على أنه حصان حقيقي إلى أن نكتشف أنه مجرد لعبة. وتشيع في المجموعة تيمة النهايات المفتوحة ففي أحيان كثيرة نخرج من القصة دون حل لعقدتها، كما نجد دخولاً مباشراً في الحدث دون تمهيد. ففي قصة "الحبل" يصف السارد شخصاً لا نعرف له اسماً أو وظيفة أو أي شىء من طرائق تقديم الشخصية ويكتفي بقوله: "كان بارعاً في عقد الحبل، وكلما عجزنا عن حل ما يعقده تناول منا الحبل، وفي يسر يفك العقدة ثم يعقدها مرة أخرى". وأعتقد أن هذا قريب من وظيفة الكاتب نفسه. هذه العقد التي تقوم – أيضاً- على تداخل الأماكن كما في قصة "وفي يوم من ذات الأيام": "ركضا في أنحاء الشقة متخيلين أنهما في الحديقة، والحيوانات في كل الغرف تفر منهما". واللافت هو استخدام الكاتب للصيغ الشعبية في عناوين بعض القصص مثل "كان ياما كان" و"في يوم من ذات الأيام". نحن أمام مجموعة متميزة تقوم على تعديد مستويات الدلالة وإحداث الدهشة في ما يبدو مألوفاً في حياتنا.