يقوم مخيم اللاجئين "فوجاك" في شمال غرب البوسنة على سفوح جبال ديناريتش التي تغطي قممها الغابات، على حدود الاتحاد الأوروبي، وتحيط به حقول ألغام خلفّتها حروب يوغوسلافيا. وهو يُذكّر على نحو صادم بالأزمة المتفاقمة وراء الباب الخلفي لأوروبا.
فظروف العيش في المخيم، الذي يبعد كيلومترات عدة عن كرواتيا، تعرّض المئات من طالبي اللجوء لمخاطر صحية جدية. ووصفته الأمم المتحدة أخيرا بأنه "غير ملائم تماما لسكن البشر".
من الممكن رؤية أكياس بلاستيكية وملابس قديمة وعجلة عربة طفل في سن الحبو، تبرز من أرض المخيم الملوثة. وليست هذه من مخلفات فوجاك نفسه، حيث يقيم 700 انسان، بل هي بقايا سامة ترُكت هناك من قبل، إذ يقوم مباشرة فوق مدفن نفايات سابق. لذلك فالناس لا يُظلمون فقط بحشرهم فيه كالماشية فوق مكب نفايات سابق، بل أيضاً لأن وجودهم فيه يعرضهم لمجازفة خطيرة بنشوب حرائق ووقوع انفجارات فيه بسبب غاز الميثان الذي قد يكون محبوسا تحته.
قال رجل أفغاني أُجبر على البقاء في "فوجاك" منذ إخراجه من مدينة بيهاتش القريبة قبل نحو شهر مع 850 مهاجرا آخرين، إن "هذا ليس مكانا للسكن... لو أن شخصا من الولايات المتحدة الأميركية أو ألمانيا أو المملكة المتحدة استطاع مشاهدة هذا المخيم، لما ظنّه مكانا يسكنه بشر!".
ويمكن القول إن التلوث ليس الخطر الوحيد الذي يواجهه اللاجئون هنا. فالمقيمون هنا الذين جاؤوا من سوريا وباكستان وأفغانستان وبلدان أخرى، يقولون إن بإمكانهم الحصول على الماء خلال عشر ساعات فقط كل يوم.
فغياب البنية التحتية الأولية والصرف الصحي في "فوجاك" يتعارض مع أدنى المعايير المقبولة لمخيمات اللاجئين التي وضعها "مشروع سْفير" و"مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين". وكأن حال المقيمين فيه شبيهة بأوضاع اللاجئين الذين يعانون بمخيم كاليه في فرنسا فيما تدير لهم كل من الحكومتين البريطانية والفرنسية ظهرها تماما، فالظروف البيئية فيه المخيم البوسني تتسبب بمشاكل صحية خطيرة على الجميع.
في هذا السياق قال عضو في منظمة الصليب الأحمر لمدينة بيهاتش، التي تقدم الإسعافات الأولية الطارئة والطعام للمخيم، إن إصابات فردية بالسل والتهاب الكبد ب قد شُخصت فيه بالإضافة إلى ما لا يقل عن عشرين حالة جرب بين سكانه.
وبسبب غياب الإمداد الدائم بالماء أو عدم توفر المرافق الصحية لأكثر من شهر، يُضطر المقيمون فيه إلى قضاء حاجاتهم في العراء. قال رجل وهو يشير إلى درب مغطى بالنباتات البرية يقود إلى الجبال "نحن نستعمل حقل الألغام" لقضاء الحاجة، ولم يكن ذلك مجرد مزحة، فقد اعتبر مسؤول في الاتحاد الأوروبي أن السلطات المحلية "وجدت أسوأ موقع ممكن للمخيم" بسبب قربه من حقول الألغام ومن النفايات السامة.
اللافت أن خريطة كبيرة أعدتها جمعية الصليب الأحمر و"مركز الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام" وُضعت وسط المخيم، وكُتب عليها بخط كبير كلمة "تحذير"، كما يظهر فيها موقع حقول الألغام المحلية.
قال أحمد، 21 سنة، وهو من باكستان "هذا المخيم أشبه بالسجن". فهو كباقي سكان المخيم لايستطيع أن يجازف بالذهاب إلى بيهاتش لشراء الدواء والطعام والثياب مخافة أن يقع في يد الشرطة، علماً أن المشوار اليها يستغرق الرحلة اليها ذهاباً وإياباً 4 ساعات. فالشرطة البوسنية تحتجز ظهر كل يوم المهاجرين في مركز المدينة، وتعيدهم إلى المخيم. وإذ تقتاد الشرطة بعض اللاجئين في مجموعات كبيرة سيراً على الاقدام وايديهم مشدودة وراء ظهورهم، إلى المخيم على سفح التل ، فإنها تنقل آخرين بسياراتها في طريق العودة إليه.
وعلى الرغم من هذا الظلم الإنساني، فإن سكان المخيم لم يريدوا منا أن نسلط الضوء على حقول الألغام، أو الشروط الصحية الرديئة، أو انعدام وسائل الصرف الصحي، بل جاؤوا إلينا بضماداتهم وجراحهم ليقولوا "عليكم أن تخبروا الناس عن الشرطة الكرواتية".
دخل البوسنة منذ يناير(كانون الثاني) 2018 حوالي 36 ألف لاجئ ومهاجر، ممن سلك معظمهم "طريق البلقان" على أمل الوصول عبره إلى دول كإيطاليا وإسبانيا وألمانيا يستطيعون فيها تقديم طلبات لجوء. غير أن الإسم الذي يُطلق على الرحلة المحفوفة بالمخاطر سيراً على الأقدام من البوسنة عبر كرواتيا وسلوفينيا هو"الصيد"، ما قد يدل على طبيعتها.
أحد الذين خاضوا تجربة هذه الرحلة أفغاني احتُجز في سلوفينيا، وهو في طريقه إلى إيطاليا، قبل تسليمه إلى السلطات الكرواتية التي رفضت طلبه باللجوء، وصف معاناته قائلاً "كان هناك ستة أوسبعة رجال شرطة وكل واحد فيهم يحمل عصا...". وأضاف أنهم وضعوه في سيارة "فان" خالية من النوافذ مع 25 محتجزا، بعضهم كانوا يتقيؤون، واقتادوهم إلى الحدود البوسنية.
في هذا السياق، أخبرنا العديد من سكان المخيم، واحداً تلو الآخر، أن الشرطة كسّرت هواتفهم الجوالة، وسرقت نقودهم، وأحرقت ملابسهم واعتدت عليهم. وإذ أفاد الأفغاني أنهم " ضربونا بهراوات مكهربة"، قال لاجئ آخر "كل أشيائي أحرقت وكل شيء تحول إلى رماد".
لكن لاينبغي بكم أن تصدقونا من دون التحقق من صحة ما ذكرناه. ثمة الكثير من الشهادات الأخرى التي تؤكد ما أوردناه، فهناك متطوعون يعملون لصالح الجمعية الخيرية "مطبخ بلا اسم" و"شبكة مراقبة العنف على الحدود" سجلوا أكثر من 519 حالة اعتداء وحشي ضد لاجئين ومهاجرين ارتكبتها شرطة دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي بما فيها كرواتيا، التي غالبا ما تكون متورطة في استخدام نظامي للعنف والترويع والسرقة.
توفر جمعية "مطبخ بدون اسم"، إلى جانب منظمات محلية أخرى، الإسعافات الأولية والطعام والملابس للأشخاص المهجّرين، وتنشر شهريا تقارير عن العنف لتوثيق النشاطات غير الشرعية التي تقوم بها الدولة الكرواتية. وتتأكد صحة هذه التقارير بفضل شهادات مخبرين من أفراد شرطة الحدود الكرواتيين ممن فضحوا الأوامر التي صدرت إليهم المخالفات من بين شرطة الحدود الكرواتية، الذين أبلغوا عن أنهم أمِروا بدفع الناس الى الوراء من دون اتباع الإجراءات المناسبة المتعلقة بطلب اللجوء. وفي أوائل الأسبوع الماضي، قال رجل شرطة كرواتي آخر لـ " هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) إن الأوامر بدفع الناس بطريقة غير شرعية "تأتي من كل المستويات حتى القمة".
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن أن يحدث ذلك ؟ فحين تقف في مخيم فوجاك بين حشد من الأجساد المهشمة والعظام المكسورة، تجد نفسك وجهاً لوجه أمام النتائج الوخيمة للمخططات الجيوسياسية الأوروبية. ففي محاولة خبيثة من جانب الحكومة الكرواتية لإثبات أنها مؤهلة للإنضمام إلى "منطقة شنغن" الخاصة بحرية الحركة في دول أوروبية، هاهي تتكفل بأداء "العمل الوسخ" الهادف إلى حماية حدود الاتحاد الأوروبي. إذ من الواضح أن انضمام كرواتيا إلى عصابة شِنغِن ، كما تأمل أن تفعل في عام 2020، يتطلب منها الكشف عن أنيابها أولا.
بعد سنوات من الإنكار، أقرت رئيسة جمهورية كرواتيا كوليندا غرابار- كيتاروفيتش حتى باستخدام الشرطة للعنف لدفع اللاجئين عن حدود الاتحاد الأوروبي، وهذا ما يتعارض مع قانون طلب اللجوء الدولي. وعلى الرغم من ذلك، فإن دبلوماسيين كبارا في الاتحاد الأوروبي بمن فيهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل امتدحوا الكيفية التي تتعامل كرواتيا وفقها مع حدودها، علماً أن الاتحاد الأوروبي يقدم لـ"إدارة الحدود" الكرواتية مساعدة مالية تبلغ 23.2 مليون يورو.
من جانب آخر، انتقد الاتحاد الأوروبي ظروف مخيم فوجاك وهذا موقف صائب. ومع ذلك، فهو في الوقت نفسه يلتزم الصمت حيال العنف الذي تشهده الحدود، التي يموّل إدارتها بسخاء.
هذه المقاربة المزدوجة للسياسة المتعلقة بحدود الاتحاد الأوروبي لا يمكنها أن تخفي حقيقة كون الاتحاد الأوروبي مسؤولا عما يلحق بهولاء اللاجئين من أذى.
- الدكتور توم ديفيس أستاذ مساعد للجغرافيا في جامعة نوتنغهام
- الدكتور يلينا أوبرادوفيتش- وتشنيك أستاذة محاضرة في السياسة والعلاقات الدولية في جامعة أستون.
- الدكتور أرشاد إيساكجي محاضر في الجغرافيا في جامعة ليفربول.
© The Independent