ملخص
أثار الحكم القضائي بسجن مقدمة البرامج اللبنانية ديما صادق جدلاً واسعاً في لبنان وانقساماً حول حرية الصحافة في البلاد.
بعد عقود من تميز لبنان بحرية الصحافة والإعلام مقارنة ببلدان المنطقة، بدأت تلك الحرية تشهد انتكاسات متتالية، وتفاقمت بشكل غير مسبوق منذ بداية عهد الرئيس السابق ميشال عون، وفق مركز "سكايز" المتخصص بمراقبة الانتهاكات ضد الحريات الإعلامية والثقافية.
الأعوام الماضية سجلت أكثر من 801 انتهاك جعل لبنان يقترب من تصنيف الدول المستبدة والبوليسية، بعد أن تراجع من المرتبة 76 عام 2015 إلى المرتبة 130 من أصل 180 دولة في التصنيف الذي تصدره منظمة "مراسلون بلا حدود" في اليوم العالمي لحرية الصحافة.
وتنوعت الانتهاكات التي رصدتها "سكايز" بين اغتيالات، وهجوم مسلح على ممتلكات إعلامية، واعتداء على صحافيين وناشطين من قبل جهات رسمية وغير رسمية، لكن الانتهاكات الأبرز كان استدعاء واستجواب صحافيين، ورفع دعاوى قضائية بحقهم أمام المحاكم تتعلق بحرية التعبير، وصدور أحكام ضدهم بالسجن من قبل المحاكم غير المتخصصة كالمحكمة العسكرية، إضافة إلى توقيف واحتجاز صحافيين وناشطين ومواطنين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب المسؤول الإعلامي في مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية جاد شحرور، فإن استهداف الحريات في لبنان زادت وتيرته منذ وصول الرئيس ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، مشيراً إلى أنه استناداً إلى الأرقام فإن 60 في المئة من المستدعين مثلوا أمام التحقيق بشكاوى من التيار الوطني الحر.
يحذر شحرور من تأثير الأحكام على عمل الصحافيين في لبنان، وصورة البلد "التي يحاول السياسيون أنفسهم إظهاره بأنه بلد الحريات والديمقراطية، فيما سقف هذه الديمقراطية يتوقف عند كشف فسادهم وممارساتهم."
في المقابل يرى الناشط في التيار الوطني الحر ميشال أبو نجم، أن تصاعد الدعاوى من جانب التيار مرتبط بسياسة التشويه الممنهج لصورة التيار والرئيس عون. وقال إنه "يجب التمييز بين الحرية والشتائم والإهانات التي ارتفعت وتيرتها في الآونة الأخيرة، وهي لا تندرج ضمن حرية التعبير".
عنصرية ونازية
على رغم نهاية عهد عون استمرت الملاحقات القضائية بحق إعلاميين وصحافيين، كان آخرها الحكم الذي أصدرته القاضي المنفرد الجزائي في بيروت روزين حجيلي، بسجن مقدمة البرامج اللبنانية ديما صادق التي اشتهرت بانتقادها "حزب الله" ورموز الحكم في لبنان، لمدة سنة وغرامة 110 ملايين ليرة (نحو 1200 دولار)، وتجريدها من الحقوق المدنية، بجرم "إثارة النعرات الطائفية والقدح والذم"، في الدعوى المقامة ضدها من المحامي ماجد البويز بالنيابة عن التيار الوطني الحر.
وتعود قضية صادق إلى فبراير (شباط) 2020، حين تقدم التيار الوطني الحر بدعوى ضدها استناداً إلى تغريدة وصفت فيها التيار بـ"النازي" على خلفية خبر اعتداء مناصريه، الذين وصفتهم بـ"العنصرية"، على أحد المتظاهرين.
وارتكزت القاضية في إدانة صادق إلى الجنحة المعاقب عليها في المادتين 582 و584 المعطوفتين على المادة 385 في قانون العقوبات.
سلسة أحكام
اعتبر مرجع قضائي أن الحكم بحق صادق يعد من أقسى الأحكام الوجاهية الصادرة في قضايا متعلقة بحرية التعبير في لبنان، وهي قضية الرأي الأولى التي يصدر فيها حكم وجاهي بالسجن ضد المدعى عليه.
ولفت إلى أنه سبق وأصدر القضاء اللبناني أحكاماً غيابية بالحبس في قضايا مشابهة مرات عدة، لكن الأحكام الغيابية، عملاً بقانون أصول المحاكمات الجزائية، تسمح بإعادة المحاكمة بناء على طلب المحكوم عليه، على عكس الأحكام الوجاهية القابلة للتنفيذ ما لم تستأنف.
وسجلت سابقاً أحكام مشابهة منها الحكم بحق الصحافية حنين غدار التي صدر بحقها حكم من المحكمة العسكرية بالسجن ستة أشهر عام 2018 على خلفية مداخلة في ندوة اعتبرت المحكمة أنها مست بالجيش وسمعته، وكانت النيابة العامة العسكرية هي المدعي.
كذلك صدر حكم من المحكمة العسكرية عام 2019 بسجن الصحافي آدم شمس الدين لمدة ثلاثة أشهر، على خلفية منشور على "فيسبوك" اتهم فيه جهاز أمن الدولة بارتكاب أفعال غير قانونية.
المعركة مستمرة
الإعلامية ديما صادق اعتبرت أن الخلفيات السياسية للحكم واضحة وفاضحة وتأتي في سياق تأديبي، مشيرة إلى أن "أحزاب السلطة الحاكمة تريد تحصين نفسها بكل الطرق كي لا تشهد إعادة لانتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، حيث تصاعدت أصوات أكثرية اللبنانيين ضدها".
ولفتت إلى أن هدف هكذا أحكام هو "التخويف" بهدف "قمع أي محاولة للاعتراض والسخط والثورة، وإسكات أي صوت في هذا الإطار، ومنع غيره أيضاً من الكلام".
وأبدت الإعلامية دهشتها من الحكم الصادر "من دون وقف تنفيذ"، إذ برأيها أن العدالة باتت معكوسة في لبنان حيث تحاكم الضحية ويتم تبرئة المرتكبين، مستشهدة بقضية تفجير مرفأ بيروت عندما كان يجري استدعاء أهالي الضحايا للتحقيق في حين يتجول المتهمون بحرية وبحماية أمنية. مضيفة "تغريدتي كانت ضد النعرات والممارسات العنصرية، والآن يحاكمونني أنا بالعنصرية، إنه جنون".
وأكدت أن الدعوى القضائية المرفوعة ضدها تمثل استهدافاً واضحاً للصحافيين، واصفة القرار القضائي بأنه "سابقة خطرة على صعيد حرية الصحافة والتعبير والإعلام تدق ناقوس الخطر الكبير"، ومشددة على أن معركة الحريات في لبنان لم تنته. وتوعدت "لنر من سيربح في النهاية".
استقلالية القضاء
بدورها أكدت المحامية ديالا شحادة الوكيلة القانونية لصادق، أن الحكم بحق موكلتها "غير قانوني وغير عادل وسنتخذ مسار الاستئناف"، مستغربة "قلب المعايير الذي يعتمده القضاة".
وتساءلت شحادة "كيف لشخص انتقد فعلاً عنصرياً موصوفاً وموثقاً أن تلصق به هو صفة العنصرية ويصبح قيد المحاكمة؟"، مؤكدة أن "في ذلك رسالة واضحة إلى جميع اللبنانيين، والمعركة يجب أن تنطلق الآن لاستعادة "استقلالية القضاء".
وأوضحت أن "القضية كانت لدى النيابة العامة في بيروت، التي ردتها وتبنت الادعاء بجرمي القدح والذم فقط من دون التحريض على العنصرية وإثارة النعرات، لكن بعد إصرار شديد من قبل الوكيل القانوني للوزير جبران باسيل، وتشديده على النظر في جرم إثارة النعرات، تمت إعادة النظر فيها وتعديل توصيف الفعل، وهي صلاحية جائزة للقضاة. ولو كانت الإدانة بجرمي القدح والذم ما كنا لنستغرب إلى هذه الدرجة، على رغم أن توصيف ديما ليس فيه قدح وذم، فالتيار يفاخر بعنصريته، لكن أن يصل الأمر إلى تهمة العنصرية، فهو أمر غير مفهوم على الإطلاق".
انتقادات واحتفالات
الحكم "غير المألوف" أحدث إرباكاً وسجالاً كبيراً في صفوف الإعلاميين والناشطين والمدافعين عن الحريات، حيث وجهت انتقادات لاذعة للقضاء واستنسابية العدالة وصدور أحكام بالطلب لصالح السياسيين، لكن في المقابل عمت الاحتفالات صفوف مناصري "الوطني الحر"، الذي اعتبر أن القضاء أنصفه من الافتراءات، وهو ما جاء في تغريدة المحامي ماجد بويز التي ذيلها بلغة التهديد والوعيد "إنشالله تكوني اتعلمتي"، الذي اعتبر أن الحكم "رد اعتبار لكل صاحب حق".
بعد الانتقادات الواسعة التي طالت القاضي المنفرد الجزائي في بيروت روزين حجيلي نتيجة حكمها الذي وصف بالجائر وذي الخلفيات السياسية، خرج القاضي جان طنوس، وهو أيضاً من القضاة المقربين من التيار الوطني الحر، للدفاع عن زميلته، معلناً في تغريدة على حسابه عبر "تويتر" أن "قتل الكلام كقتل الرصاص، والقدح والذم يشكل جرماً، وأضراره متمادية، فالاتهامات تعلق في أذهان الناس إلى الأبد".
وأضاف أن "أحكام الإدانة بالجرم لا تشكل تقويضاً للحرية ولا تعدياً عليها، بل تطبيقاً للقانون وإحقاقاً للحق". وتابع أن "الطعن بالعقوبة متاح لكل محكوم عليه، لأن التقاضي هو على درجتين".