ملخص
"قرابة في الكون" كتاب جديد لصحافية أميركية يضم معلومات مدهشة من علم الأحياء الخارجية
حسبك لكي تعرف سبب توق البشر على مدى تاريخهم إلى البحث عن جيران لنا في الكون أن تتصور هذا المشهد: كرة كوكب الأرض الضئيلة إذ تدور بمن عليها من بشر وحجر ونبات وحيوان في فضاء شديد الشسوع، متراكب الغموض، قاسي الصمت.
حسبك أن تتخيل البشر حين يسكن ما بينهم من حرب، ويهدأ ما يشغلهم من تنافس على الموارد، وتخمد نيران بنائهم الحضارات باكتمال أو بانهيار، فإذا بهم يسألون عن المعنى، معنى كل هذا، معنى البناء ومعنى الهدم على السواء، والجوع والشبع، والنوم واليقظة، ففي أكثر الحالات يعز عليهم العثور على المعنى هنا، على هذا الكوكب الصغير، فيرفعون أعينهم إلى السماء، عسى أن يكون وراء نجمة من كل تلك النجوم شريك لنا يعذبه هذا السؤال، وعسى أن يكون هذا الشريك قد اقترب خطوة من إجابة لم نزل بعيدين عن الوصول إليها بعد آبائنا من ملتقطي الثمار.
لماذا حقاً نحن هنا؟ وفيمَ هذا الذي نحن فاعلوه من شر أو خير؟ حسبك أن ترى الأمر بهذه العين فتعرف أن توقنا إلى جيران عاقلين في هذا الكون الفسيح إنما هو توق محتمل إلى أخ أكبر، أو لعله في الوقت نفسه يأس من أن نعثر بأنفسنا على إجابة دونما عون من أحد.
تكتب أنالي نيوز (واشنطن بوست ـ 27 أبريل "نيسان" 2023) أن "البشر في القرن الـ21 يشعرون بكثير من الوحشة في هذا الكون. فعلى رغم أن تلسكوباتنا القائمة في الفضاء قادرة على رؤية أولى الثواني في عمر الكون، وعلى رؤية مزيد من الكواكب التي تدور في أفلاك خارج مجموعتنا الشمسية في شتى أرجاء الكون، فإننا لم نعثر بعد على أي شيء نرى فيه أثراً لحياة خارج كوكبنا، ولا حتى ميكروب. وكلما ازددنا معرفة ازداد احتمال أننا وحدنا".
غير أن الأمر لم يكن دائماً على هذه الحال. فيوهانس كيبلر الذي اكتشف مدارات الكواكب حول الشمس كان مقتنعاً من جراء أبحاثه بأن "الحياة وفيرة في الكون، بل لقد كتب خيالاً علمياً في القرن الـ17 حول عوالم فضائية، ليهيئ الناس لما كان يعده أمراً محتوماً. وعلى مدى مئات السنين بعد ذلك، آمن العلماء بأننا نعيش في كون يغص بالحياة".
حياة غير موجودة
في كتاب جديد بعنوان "احتمالية الحياة: العلم والخيال وسعينا إلى قرابة في الكون". تقول الصحافية جيمي غرين إن كل تلك الظنون والقناعات قد تغيرت في القرن العشرين، فقد "كشفت التلسكوبات القوية، للأسف، أن القنوات المريخية ما هي إلا تضاريس جيولوجية، وأن حفر القمر خالية من المدن السماوية. وعلى رغم وعد كارل ساغان بأننا لسنا وحدنا، فما من دليل يثبت أننا لسنا كذلك". وتمضي أنالي نيوز فتكتب أن اكتشافات القرن الـ20 العلمية هذه دخلت بـ"الإنسانية عصرها الفردي، عصر البحث في الكون عن حياة نوقن أنها غير موجودة. غير أن البحث نفسه كما تقول جيمي غرين هو المهم، فالبحث عن أصدقاء وسط النجوم هو الذي يجعل منا بشراً".
غير أن المرء لا يعرف هل بحث البشر عن أصدقاء خارج الكوكب اعتراف منا بأننا غير كافين لأنفسنا، وغير قادرين على الائتناس ببعضنا بعضاً، أم هو بالأحرى دليل على فضولنا الذي لا يرتوي ولا يرضى إلا باعتبار كل نقطة في هذا الكون باباً تدفعنا رغبة عاتية إلى أن نفتحه وإن أمكن أن نعبره ولا نقبل إلا بأن نلتقط صوراً لما وراءه، أم هو خوف من المجهول يتخفى وراء قناع الفضول، أم هو خوف في صورة تفكير تفاؤلي نخدع به أنفسنا ونهيئ لها أن هذا الكون الشاسع يخفي لنا مستعملين محتملين لغرفة دردشة عابرة للمجرات تضمن لنا سنين ضوئية من التسلية ودفء التواصل.
تكتب أنالي نيوز أن "كتاب جيمي غرين يمثل مسحاً مبهجاً وواسع النطاق يجعله واحداً من الكتب التي تثير آهات العجب جهيرة من فم من يقرأه في حافلة. ويرجع ذلك إلى حد ما إلى أن غرين تحشد في كتابها كماً كبيراً من المعلومات المدهشة. فهل تعلم، على سبيل المثال، أن خصوبة كوكب الأرض قد يكون سببها قمرنا العملاق؟ أو أن لويس باستور، الكيماوي الذي أثبت نظرية الأمراض الجرثومية، هو الذي حطم أسطورة الحياة على المريخ؟ غير أن الأهم من مثل تلك المعلومات هو قدرة غرين على دفعنا دفعاً إلى إعادة التفكير في كل شيء نتصور أننا عرفناه عن الحياة على الأرض".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في استعراضه الكتاب بمجلة "نيوريببليك" (11 يوليو "تموز" 2023)، يكتب فيليب ماسياك أن من أمتع لحظات الكتاب وأكثرها تأثيراً هي تلك اللحظات التي تتناول فيها غرين الحيوانات المتاحة من حولنا في حياتنا على الأرض، وهي التي قد تمثل نموذجاً لما يمكن أن تبدو عليه الحياة خارج الكوكب. "وتأملوا الدلافين. يتبين أن الدلافين غريبة بحق. إننا كثيراً ما نراها باعتبارها ثدييات سمكية ذكية تقوم بحيل وتصدر أصواتاً لطيفة ويطيب رسمها على قمصان الإجازات".
ويستدرك "الحق أن الدلافين، كما تشير غرين، شديدة التطور، لكن تطورها فصلها عن تطور سلالتنا الإنسانية قبل قرابة 100 مليون سنة. وعبر ذلك الوقت كله، تطور ذكاء الدلافين على أنحاء لا يمكننا حتى أن نتخيلها. وهذا الفقر في الخيال، بحسب بعض العلماء من أمثال جاسون بروك، قد يحول دون أن نطرح الأسئلة الصحيحة التي من شأنها أن تقودنا إلى الإجابات الصحيحة عن كيفية عمل عقول الدلافين. تستطيع الدلافين على سبيل المثال أن تتعرف على بعضها بعضاً من طريق تذوق البول. ومن يفكر في ذلك الأمر يجده منطقياً في ضوء أن الدلافين تعيش سابحة في عالم مائي، أما نحن البشر فلا يمكن أن يمثل لنا البول الوسيلة الاجتماعية الأكثر بديهية.
ومثلما ترى غرين، فإن مفتاح التوصل إلى هذا الاكتشاف كمن في قدرة بروك على التفكير من خارج الإطار البشري، فهذا هو الذي قاده إلى تخيل شيء عميق الاختلاف عنا، وغريب تماماً على أحد الثدييات. قال بروك لغرين (لقد أمكنني أن أتصور أن الدلافين تتذوق بول بعضها بعضاً فتحصل من ذلك على معلومات اجتماعية لأنني لم أفكر فيها باعتبارها بشراً ذوات زعانف)". فلو كان الخيال الإنساني الضيق، الذي يبحث عن الإنساني في كل شيء، بدلاً من البحث عن الخصائص المميزة لكل شيء ومحاولة فهمها، قد أعاق فهمنا لكائنات تشاركنا الكوكب نفسه مثل الدلافين أو غيرها، فكيف لا نتصور أن يكون ضيق الخيال عائقاً دون معرفتنا بكائنات من غير الكوكب أصلاً، ولا بد أن يكون المشترك بينها وبين البشر أقل من أن يذكر، إن لم يكن معدوماً تماماً؟
خيال علمي
تكتب أنالي نيوز أن أول ما تستهدفه جيمي غرين في كتابها هو العلم، إذ "تعرفنا غرين بأفكار من علم الأحياء الخارجية (أي دراسة الحياة في العوالم الأخرى) والباحثين الذين يدرسون كواكب المجرات الأخرى (من خارج نظامنا الشمسي) وتبين لنا إلى أي مدى تعتمد هذه العلوم على الخيال العلمي والاحتمالات الرياضية، فتكتب أن "العلماء يتخيلون أموراً كل يوم. يتخيلون مساراً كيماوياً محتملاً ويختبرونه. يتخيلون سطح كوكب بعيداً لا نكاد نعرف عنه شيئاً ويعدون ذلك بمثابة عمل فني.
ومن خلال الخيال العلمي نتخيل حياة الكائنات الفضائية بالطريقة نفسها"، لكن الحياة الوحيدة التي صادفناها هي الحياة على كوكبنا، ومن ثم فكل تكهناتنا عن الحياة في أماكن أخرى إن هي إلا محض خيال، ولكن غرين تطمئننا بأن ذلك أمر لا بأس فيه، لأن "الخيال العلمي أكثر من محض تسلية، إنما هو عمل توليدي يخلق احتمالات جديدة للحياة بعيداً من الأرض، وهي احتمالات صالحة وفعالة شأن أي شيء قد نقوم بتحضيره في مختبر".
يكتب فيليب ماسياك أن "من أحب ما في الكتاب أنه يتعامل بجدية بالغة مع (ستار تريك)، فالكتاب يتناول في فصله الأول قراءة مسهبة لحلقة تحكي عن سباق بين فريقين أو طاقمي سفينتين فضائيتين للوصول إلى نزر من حمض نووي يبدو أن فيه شيفرة لغز مجري هائل، ثم لا يتم العثور في النهاية إلا على قصة، إذ يظهر هولوغرام لإنسان عتيق يحكي أنه ينتمي إلى مجموعة الحياة الذكية الأولى في الكون كله. ويحكي أن تلك الجماعة الأولى قد جابت الكون كله تفتش عن غيرها فلم تعثر على أثر لأي مثيل لها في الكون الفارغ كله. وبدلاً من الاستسلام لليأس، قررت تلك المجموعة أن تزرع حمضها النووي في النجوم، عسى أن تظهر سلالات أخرى على مثل هيئتها يوماً ما.
فهل يمكن أن يتبين يوماً ما أن الحياة التي نرجو أن نصادفها وراء ظلام هذه السماء ما هي إلا حياة نحن زرعناها بأنفسنا قديماً؟ وهل يمكن أن يحدث العكس، فنكتشف أننا نحن نثار نثرته أسلاف لنا قبل مئات السنين بهدف أن يعثروا يوماً ما علينا أو نعثر عليهم؟
بعيداً من هذه الأسئلة، يكتب ماسياك أن غرين ترى في قصة (ستار تريك) هذه قصة للوحشة في كون فارغ، وترى فيها أيضاً قصة للأمل. "قصة عن فكرة احتمال وجود أقارب في كل مكان يمكن النظر إليه، بل حتى حين ننظر في أنفسنا وذلك لأن (كل فرد هو مجتمع أفراد. فبداخل كل منا أصوات كثيرة، لكل منها رغباته، وأسلوبه، بل ورؤيته للعالم). ثمة كثير مما لا نفهمه، حتى عن الأشياء التي يمكننا أن نراها، ونقص المعرفة هذا يمكن أن يتسبب في شعور بالعزلة، بل وبالرعب. والكائنات الفضائية، حتى المرعب منها، يمكن أن تساعد في تبديد هذا الرعب وحل هذا الوضع".
ينطلق الكتاب - بحسب ما يكتب فيليب ماسياك - من تلك الحكاية ليبين أن جانباً كبيراً من "احتمالية الحياة" يتناول مدى فضائية - بمعنى غرائبية ومجهولية - عالمنا نفسه بالنسبة إلينا. و"تبرع غرين في تعرية طبقات الكليشيهات التي نضفي بها الألفة على كوكب الأرض الغريب المحيط بنا. ومن المشكلات التي تصفها غرين، على سبيل المثال، مشكلة تخيلنا حياة خارج الأرض لا تكون في جوهرها شبيهة بحياة البشر. فغالباً ما ينتج العلماء والفنانون كائنات فضائية كثيرة الشبه بنا، سواء أهي شبيهة بآبائنا أو حتى تمشي على قدمين أو ترى بأعين في وجوهها. وللإنصاف، تشير غرين إلى عدد من الخبراء الذين يتكهنون بأنه في ضوء مدى صعوبة تطور حياة، فإن من الممكن تماماً إن قابلنا حياة على كواكب أخرى أن تكون لكائنات كبيرة الشبه بنا.
لكن ليس هذا محل إجماع، فكثير من الخبراء يذهبون إلى أن الحياة في أماكن أخرى قد تكون شديدة الاختلاف، غريبة غرابة جذرية، لدرجة أنها قد لا تعد حياة في نظرنا، بل إن المدهش هو أن سؤالاً ضخماً يواجه العلماء الباحثين عن حياة على كواكب أخرى حول ماهية الحياة نفسها، وهل سنعرفها أصلاً إن نحن رأيناها؟".
يكتب فيليب ماسياك أن "غرين هي نفسها باحثة. فكل صفحة من كتابها تقف بأناقة على الحافة ما بين العجب والأسى. فهي تتساءل عما لو أن (كل كوكب مأهول إنما يحتوي سلالته الشاعرة بالوحشة) وتعتقد أننا (نرجو أن يكون الكون معموراً لأن بديل ذلك موحش للغاية)".
والحق أن الوحشة هذه ربما لن تنتفي بظهور كواكب معمورة، ومجرات مأهولة بكائنات ذكية راغبة في التواصل معنا، إنما المؤكد أنها يمكن أن تنتفي إذا ما تعلم البشر كيف يقيمون روابط حقيقية مع ما يحيط بهم، سواء القريب قرب الفراشات والطيور والحيوانات الأليفة، أو البعيد عنهم، الممعن في البعد، من قبيل الكائنات الفضائية الغريبة التي لا دليل على وجودها بعد. لعل الوحشة إنما تنجم أصلاً عن تقسيم لا يبدو البشر قادرين على الهرب منه أو تخيل غيره، أعني التقسيم الكريه إلى الأنا والآخر.
ربما يدفع كتاب "احتمالية الحياة" قارئه إلى التفكير بأن مشكلتنا الأساسية في البحث عن حياة خارج الأرض، سواء كان دافعها تبديد الوحشة أو الفضول المحض إلى المعرفة، هي أننا نبحث عن أنفسنا، وعن حياة نتصور أنها لا بد أن تكون نسخة من الحياة الوحيدة هنا، كائنات تولد من أمثال لها، وتعيش على الغذاء مما يحيطها، وتنمو وتتدهور وينتفي وجودها، في حين أن البحث ربما يجب أن يكون بلا توقعات مسبقة، ربما يجب أن ندرس ما نصادف من أنماط وجود في الكون، نتأمل الأجرام في السماء بوصفها هي نفسها كائنات عاقلة محتملة، دورانها له معنى، وقربها وبعدها عن نجومها له دلالة، ربما يجب أن ننظر في الكون بحثاً عن لغة من دون أصوات أو حروف، عن وعي يتجلى بطرق غير التي درجنا على أن يتجلى بها الوعي. ربما يقودنا البحث عن الموجود فعلاً، لا عما نريد وجوده، إلى الأنس بما نراه بالفعل في الكون لا بما نريد أن نراه، ربما نجد رسائل مكتوبة فعلاً لكننا لم نعرف بعد كيف نفك شيفرتها ونحل طلاسمها.
العنوان: The Possibility of Life
Science، Imagination، and Our Quest for Kinship in the Cosmos
تأليف: Jaime Green
الناشر: Hanover Square