ملخص
نورا ناجي ترصد انهيار أحلام جيل من الشباب المصري
"30 يوم جري في المكان"، كان عنوان مشروع تفاعلي متعدد الوسائط، للفنان الراحل أحمد بسيوني، الذي قضى خلال أحداث ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 في مصر. هذا المشروع مارسَ عبره بسيوني إسقاطاً على النظام المصري السابق لحركة الثورة، الذي لم يحقق بعد ثلاثين سنة، ما يرضي طموح شعبه، وكان أيضاً ملهماً للكاتبة المصرية نورا ناجي، في روايتها الأحدث "سنوات الجري في المكان"، (دار الشروق – القاهرة)، والتي استطاعت عبرها، أن توثق سيرة الألم والتشظي، لدى جيل من الشباب، لم يقترف إلا الحلم. هذا من خلال خمسة شخوص، كانوا جزءاً من الثورة، أبصروا الحلم، تذوّقوه، احتفظوا برائحته، وأمسكوا به ثم عاصروا انهياره. منذ اللحظة الأولى للسرد، تجلت سمات ما بعد الحداثة، لا سيما مع تعدد الرواة، والانشغال بالموت، الذي لعب دوراً رئيساً في تحريك الأحداث، فكان سقوط "سعد" عضو هيئة التدريس في كلية التربية الفنية، مقتولاً برصاص القنّاصة في ميدان التحرير، لحظة انقلبت بعدها حياة بقية الشخوص رأساً على عقب، فتشاركوا جميعهم موتاً آخر وهم على قيد الحياة.
وعمدت الكاتبة إلى تكرار الإشارة إلى قتل البطل، برصاصة اخترقت إحدى عينيه، ووصلت إلى دماغه، لتبيان قسوة المشهد، وأثره في حياة أصدقائه، وما أسفر عنه من تحولات لحقت بهم... "مسحت الدماء عن وجه سعد، وجاءت نانا ولمسته ثم جرت هاربة إلى الخارج، دختُ للحظات، اخترقت رائحة الفورمالين أنفي وحرقت حلقي، تعثرتُ في الجثث على الأرض، عدت إلى غرفة الطبيبات وأخرجت حقيبتي من الخزانة، الساندويتش فيها بارد ومكرمش مثل جلد رضيع ميت، تناولت أول لقمة وتقيأت على الأرض، ثم انتهى كل شيء".
فككت ناجي الحواس الإنسانية، ومنحت كل شخصية، خللاً في واحدة منها، مستفيدة من اتساع الفضاء الزمني للأحداث، الذي امتد حتى ظهور وباء كورونا. وتمكنت عبر تلك المسافة، بين اختفاء حواسهم في الواقع وحضورها في الذاكرة، من الكشف عن دواخل شخوصها، وتعرية ما حلّ بهم من عطب. كما اعتمدت أكثر من نوع للراوي، فبينما منحت بعض الشخوص صوت السرد، عبر ضمير المتكلم، حرمت غيرهم هذا الصوت، لمصلحة راو عليم. واستخدمت في مواضع أخرى ضمير المخاطب. ومزجت كذلك بين أجناس أدبية متنوعة، من خلال استدعائها القالب المسرحي، الذي شكّل فصلين كاملين من الرواية. وعبر هذا التجديد في بنية النص، تمكنت من نقل صورة أكثر اتساعاً، تحوي من التفاصيل، ما سمح بتقديم رؤية أعمق، جمعت بين الصدقية، والحميمية، والموضوعية، في آن، من دون أن تؤثر في انسيابية السرد. وربما عزّز هذا العمق؛ المسافة الزمنية الفاصلة، التي تربو على عشرة أعوام، بين ثورة يناير، وقرار الكاتبة بالكتابة عنها، مما سمح لها بتجاوز فكرة توثيق الحدث، إلى رصد تبعاته وتأثيره في جيل صنعه، وما حدث من تصدع في عوالمه، نتيجة انهيار حلمه.
تسلل الفانتازيا
بين نسق أفقي وتذكر؛ تدفقت الأحداث. وحظيت شخصية "سعد البيومي" بالنصيب الأكبر من الاسترجاع، والارتدادات الزمنية العكسية، لا سيما وقد بدأ السرد من لحظة استشهاده. وكان موته سبيلاً تسللت عبره الفانتازيا، إذ لم يسكت الموت صوته، وإنما كان وسيلة فقط للتحرر من جسده، ورؤية نفسه من الخارج، واستعادة ما مرّ به قبل لحظة الاستشهاد. وقد طرقت الكاتبة عبر هذه الشخصية، قضايا الفقر، والقمع، والفساد، التي أجّجت مشاعر الغضب، وانفجرت أخيراً في 25 يناير 2011، فوظّفت حادث غرق "عبّارة السلام" في البحر الأحمر، وعدم تعويض أهالي الضحايا، وما كانت تعانيه الأسر من معيشة صعبة، ورزوح تحت خط الفقر، إضافة إلى الملاحقات الأمنية، كأسباب قادت الشخوص في النص إلى الانضمام للثورة.
كان المزج بين أصوات وأجناس وأزمنة داخل السرد سمة أصيلة اعتمدتها الكاتبة في نسيجها الروائي، كذلك مزجت – في ما ساقته من أحداث- بين الحقيقة والتخييل. فهي استدعت شخصية أحمد بسيوني، المعيد في كلية التربية الفنية، ومشروعه "30 يوم جري في المكان"، وسقوطه شهيداً في الميدان وهي أحداث وقعت بالفعل، ثم منحته من مخيلتها تفاصيل، وخلفيات مغايرة. ومنحته أيضاً اسماً آخر "سعد"، مستفيدة مما لهذا الاسم من دلالات ثورية. واستخدمت حاسة البصر عبر الألوان، التي منحتها سيكولوجية خاصة، في التعاطي مع بطلها، على نحو يتسق مع خلفيته الفنية. وتمكّنت عبر هذه الألوان من نقل الشعور الشفّاف - بعد إكسابه لوناً- إلى حيز الرؤية. فكان الأزرق لون الحزن، ولون البرد الذي استباح الجسد عقب رصاصة اخترقته. وكان الأسود لون الفقد والتلاشي، لون القمع ولون القلوب التي توقفت عن النبض وهي على قيد الحياة، أما الأحمر فكان لون الغضب، والأخضر لون الكذب والوحدة، والبرتقالي لون القلق والحنين.
ثيمة الفقد
تشاركت الشخوص جميعها ثيمة الفقد، الذي تنوّعت صوره بين فقدان الأب، وما يتبعه من فقدان الأمان المادي والمعنوي، وأيضاً فقدان الحبيب أو الشريك، وفقدان الصديق، إضافة إلى حالة عامة من فقدان الذات، وفقدان الحلم. وقد دفعت بهم مشاعر الفقد، للوقوع في براثن الفوضى الداخلية، التي أثمرت عطباً نفسياً، ورغبة في الهروب، والغياب. فبينما غابت ياسمين في عزلة نفسية بانتظار الموت، كان السفر، والمعارض الفنية، وإعادة تدوير أفكار "سعد البيومي"، وسيلة "مصطفى" في الهروب. أما "يحيى" فلاذ بالسطحية، ولجأ إلى المخدرات، رغبة في التعايش مع الواقع، وإن كانت بالانفصال عنه. في حين اختارت "نانا" الهروب بالزواج من رجل لا تحبه، والسفر إلى الخارج بعيداً من الوطن. وهكذا كان الموت المجاني لـ"سعد البيومي"، ونهاية الحلم، نقطة فاصلة، تحوّلت بعدها كل الشخوص. وأضفت هذه السمة من التحول، مزيداً من الدينامية على السرد، وغلّفته كذلك بغلالة من الحزن الشفيف. وقد أتاح ما تشاركته الشخوص من عطب، مساحة للكاتبة، أبرزت عبرها تناقضات النفس الإنسانية، التي تتراوح دائماً بين السعادة والحزن، الغياب والحضور، الضعف والقوة، الهدوء والصخب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واتسق مع رغبتها في إبراز تناقضات النفس والعالم، استدعاؤها تقنية التقابل، التي بدت في مواضع عدة من النسيج، لا سيما بين "سعد" المرح الذي اعتاد المنح، وبين صديقه "مصطفى" الانطوائي، الذي أعاد تدوير أفكار صديقه بعد رحيله، وكذلك بين أبويهما. فبينما كان أبو "سعد" حاضراً على رغم موته، كان أبو "مصطفى" غائباً على رغم حضوره، وكأنه قد تجرّع نصيباً من الهزيمة، فلم يستطع منح ابنه سوى مرارتها. كذلك برزت صور أخرى للتماثل، بدت في بطولة كل من "سعد" وأبيه، فبينما ضحى الأب بنفسه بعد غرق العبّارة من أجل إنقاذ آخرين، كرّر ابنه البطولة نفسها في الميدان، حين نبّه المتظاهرين لرصاص القنّاصة، وسارعَ لمساعدتهم. وبدا التماثل مرة أخرى في مصير الأب وابنه، وأيضاً في مصير كل من كان يحمل اسم "سعد" أو صفاته؟
استجلاء بواطن النفس
على رغم تشابه الأصدقاء الخمسة في اضطراب عوالمهم الداخلية، بعد ما حصدوه من هزيمة وخيبة؛ تباينت استجاباتهم، وحيلهم للتعايش، ووسائلهم للهروب، مما برّر تنوع ضمائر وأساليب السرد، التي استخدمتها الكاتبة مع كل شخصية. ونتيجة لذلك، تحول السرد من ضمير المتكلم، إلى ضمير الغائب، وفي موضع آخر من النص هيمن الحوار. ثم عمدت الكاتبة مع بلوغ المحطة الأخيرة من رحلتها السردية، والتي تلاقت فيها كافة الخيوط؛ لاستخدام ضمير المخاطب، في التعاطي مع شخصيتها الخامسة "نانا". فيتكشف أن الراوي، والمروي له، والبطل، والكاتب أيضاً، هم جميعهم الشخص نفسه. وقد عمدت ناجي لاستخدام الحلم بكثافة مع هذه الشخصية، فتمكّنت عبر رمزيته، من استجلاء بواطن النفس، وتفريغ كبتها الشعوري، وتفسير إحباطاتها، وشعورها بالعجز، والتيه، والجري في المكان... "تحلمين بأنك تسيرين في شارع واسع. تسيرين على أمل الوصول إلى موقف سيارات القاهرة، تجرين وأنت خائفة، لا تجدين شيئاً على رغم أنكِ تعتقدين أنك تلمحينها من بعيد، الشمس تحرق رأسك وعينيك، تقتربين... تقتربين، لا تصلين" (ص219).
عمدت الكاتبة إلى استخدام الوصف، في غير موضع من النسيج. وأتاحت عبره بعض الاستراحات السردية. كما استفادت منه في تعزيز تورط القارئ في عالم النص، وفي تبيان ما لحق بأبطاله، من انكسار وانفصالٍ عن الواقع، وأيضاً في تمرير بعض الإسقاطات، التي وشت بمناخ عام من اليأس، والإحباط: "ينظر الجميع إلى الأرض، يختبئون خلف كمامات زرقاء وسوداء وملونة. بدت الأشجار القليلة الصغيرة المتبقية على الأرصفة خضراء أكثر من اللازم. والبنايات صفراء أكثر من اللازم. والأسفلت أسود أكثر من اللازم. وكأن الموجودات كلها برزت قليلاً إلى الخارج، أو أنها نفضت عنها لوناً واحداً شاحباً كان يغطيها، مثل لون الموت".
ولم يكن الوصف وحده سبيل الكاتبة لتمرير إسقاطاتها، فقد عمدت الى استدعاء التراث عبر حكاية "حلّاق الملك"، ومرّرت من خلالها، رؤى ضمنية حول حتمية الحرية، ومآل القمع.