Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفيلسوف إرنست كاسيرر اختتم تاريخ المثالية الألمانية

رائد الإنسية العقلانية والرمزية الملهمة واستجلاء معاني الوجود

الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر (جامعة ييل)

ملخص

رائد الإنسية العقلانية والرمزية الملهمة واستجلاء معاني الوجود

يجسد الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر (1874-1945) صورةَ الاختتام المجيد في تاريخ المثالية الألمانية. تألق بفضل عملَين فلسفيين شهيرَين: "مشكلة المعرفة" Das Erkenntnisproblem in der Philosophie und Wissenschaft der neueren Zeiten، و"فلسفة الأشكال الرمزية" Philosophie der symbolischen Formen. من خصائص فلسفته أنه ألفَ في عمارته النظرية بين مختلف العلوم الأنتروبولوجية والاجتماعية، فاستطاع أن ينشئ من تبايناتها أنظومةً معرفيةً تستند إلى مقام الرمز في استجلاء معاني الوجود. فإذا بخلاصاته في فلسفة الرمز وفلسفة اللغة تستثير أغنى الاجتهادات الفكرية المعاصرة خصوبةً، لا سيما في حقلَي الفِسارة (علم التفسير) والبنيوية. ورث الفلسفة النقدية الكانطية، واجتهد في التوفيق بينها وبين فلسفة التاريخ والالتزام الإنسي.

حقبة برلين: اكتشاف قيمة الرمز والأسطورة

درس كاسيرر الفلسفة والأدب الألماني والتاريخ والفن في جامعة برلين ولايبتسيش وهايدلبرغ. أما الحدث الذي أثر فيه فلسفياً، فالدروس الجامعية التي ألقاها عليه عالم الاجتماع الفيلسوف الألماني غيورغ زيمل (1858-1918) متناولاً فيها فلسفة كانط. حرضه أستاذُه فيلسوفُ الكانطية المحدثة هرمان كوهِن (1842-1918) على الاعتناء بالعلوم الوضعية، لا سيما الرياضيات والفيزياء، من أجل فهم كانط (1724-1804) فهماً أفضل. فأعد أطروحة الدكتوراه في جامعة ماربورغ، وعالج فيها "نقد دِكارت المعرفةَ الرياضية والفيزيائية". عاد إلى برلين يبحث عن منصبٍ تدريسي جامعي، وما لبث أن حصل عليه عامَ 1909 بفضل فيلسوف الفِسارة الألماني ڤيلهلم ديلتاي (1833-1911).

 

في برلين اعتنى بنشر أعمال كانط الكاملة في عشرة مجلدات، معاوناً أستاذَه كوهِن الذي توفي قبل أن يرى العمل مُنجَزاً. صدرت المجموعة كلها في دار نشر ابن عمه برونو كاسيرر، وزينها إرنست بمجلدٍ ختامي استعرض فيه "حياة كانط ومذهبه" Kants Leben und Lehre. وعلاوةً على ذلك، اجتهد أثناء هذه الحقبة في الاستدلال على المبادئ التي ينبغي أن ينهض عليها المذهبُ الإنسي، خصوصاً في ألمانيا. فنشر عامَ 1916 بحثَين: عالج الأول تاريخ الأفكار ومسار الروح في ألمانيا Freiheit und Form، في حين أخذ الثاني يتحرى الأبعاد المثالية في أعمال هُلدرلين (1770-1843) ويحلل علاقة الفكرة بالصورة، بحسب ما استقر عليه عنوانُ الدراسة المنشورة Hölderlin und der deutsche Idealismus. Idee und Gestalt.

حقبة هامبورغ: استثمار الخلاصات العلمية

في عام 1919 عُيِن كاسيرر أستاذَ الفلسفة في جامعة هامبورغ الناشئة. فإذا به يواظب على أبحاثه في فلسفة العلوم، فينشر بحثاً أصيلاً يستثمر نظرية أينشتاين (1879-1955) النسبية استثماراً فلسفياً. اللافت أن أينشتاين نفسه قرأ المخطوطة قبل نشرها وأعجب بها وعلق عليها مزوداً المؤلفَ بضعاً من الملاحظات العلمية الثمينة. من خلاصات هذه الدراسة أن نظرية النسبية لا تهدم الفيزياء الكلاسيكية، بل تُكمِلها وتتوجها، وأن التقريب ممكنٌ ومفيدٌ بين هذه النظرية ونسبية كانط النقدية. فضلاً عن هذا، استعان كاسيرر بأبحاث عالم الرياضيات الألماني داڤيد هيلبرت (1862-1943)، لا سيما بكتابه "في اللامتناهي" Über das Unendliche، واستدخل بضعاً من خلاصاته في كتابه "فلسفة الأشكال الرمزية".

 

شاءت المصادفة أن يلتقي في هذه الأثناء مؤرخ الفن الألماني أبي موريتس ڤاربورغ (1866-1929) ويطلع منه على كنوز مكتبته الفنية التاريخية الأدبية Aby-Warburg Archiv التي جمعها من أجل دراسة التعبير الرمزي وتحليله تحليلاً يخالف أصول النقدية الكانطية المحدثة. في محضر ڤاربورغ المصاب باكتئابٍ نفسي حاد، أدرك كاسيرر أن صديقه هذا مقتنعٌ بأن المجال المكاني الحديث نشأ حين أبطل عالم الرياضيات والفلك الألماني يوهانس كِبلر (1571-1630) صدارة الدائرة وتفوقها العلمي واستبدل بها القطع الإهليلجي. من جراء تغير المنظور الفني، تبدل الشكلُ واغتنى الرمزُ بأبعادٍ إلهاميةٍ. في كتاب "الفرد والكون" Individuum und Kosmos in der Philosophie der Renaissance، صرح كاسيرر بأن القطع الإهليلجي أولُ الأشكال الرمزية بحسب التسلسل الزمني ووفق الإدراك الفلسفي الدقيق.

لا بد أيضاً من ذكر الأبحاث التي أنشأها كاسيرر في هذه الحقبة، متناولاً اللغة بحسب النظرية التي أنشأها فيلسوفُ اللغة البروسي ڤيلهلم فون هومبولت (1767-1835) الذي اشتُهر باسم "كانط اللسانيات". لا ريب في أن عالم اللسانيات هذا أثر في كاسيرر حين رسم أن الجملة المبنية على الفعل تضطلع بالوظيفة الأساسية التي أسندها كانط إلى ملَكة الحُكم في الفكر النقدي. بيد أن كاسيرر لم يعتنق المذهب البنيوي في تحليل اللغة، بل كان أقرب إلى تمهيد سبيل اللسانيات التكوينية التحويلية التي طفق عالم اللسانيات الأميركي نعوم تشومسكي (1928-....) ينادي بها لاحقاً. حاول عامَ 1930 أن يعين موقعَ فلسفته في المشهد الفلسفي العالمي، فأنشأ مقالاً مهماً عنوانُه "الروح والحياة في الفلسفة المعاصرة" Geist und Leben in der Philosophie der Gegenwart.

حقبة المنفى: الحتمية الفيزيائية

 

استبق كاسيرر الأحداث الدموية في ألمانيا لدى بلوغ الحزب النازي سدة الحُكم، فغادر عامَ 1933 هامبورغ، ويمم شطر أكسفورد ليقيم فيها سنتَين، وينتقل في إثرها إلى السويد ليعلم في جامعة غوتبورغ ويكتسب الجنسية السويدية. في هذه الأثناء كان مواظباً على التأليف الفلسفي والنشر في الدوريات العلمية العالمية المرموقة، الإنجليزية والأميركية والفرنسية والسويدية. أما البحث الأبرز في هذه الحقبة فكان كتاب "الحتمية واللاحتمية في الفيزياء الحديثة" Determinismus und Indeterminismus in der modernen Physik الذي نشره في جامعة غوتبورغ السويدية. في ذروة نضجه الفلسفي، كان مدركاً أن مشكلة السببية أساسيةٌ في البحث الفلسفي. على رغم تعلقه بمذهب الحتمية، إلا أنه كان مُصراً على تنويع سبُل الشرح ورموز المعادلات، لا سيما في حقل فيزياء الكوانتُم.

في عام 1941 استضافته جامعة يال الأميركية للتدريس بموجب عقدٍ أكاديمي مدتُه سنتان لم يجدده مجلسُ العمداء. فما لبث أن انتقل إلى نيويورك ليدرس في جامعة كولومبيا قبل أن ينطفئ نورُه في الثالث عشر من نيسان (أبريل) 1945. فأعفاه الموت من معاينة أهوال الحرب العالمية الثانية وفظائعها، لا سيما بعد أن ناضل نضالاً بطولياً من أجل نصرة الإنسان المزدان بقيَم الارتقاء العقلي والرفعة الأخلاقية والسمو الروحي. في يال كتب بحثاً موسعاً باللغة الإنجليزية عنوانُه "بحثٌ في الإنسان: مدخلٌ في فلسفة الثقافة الإنسانية" An Essay on Man. An Introduction to a Philosophy of Human Culture.

تجديد الإرث النقدي الكانطي

من الضروري في هذا السياق التذكيرُ بالذهنية التحررية التي كان كاسيرر يعتصم بها على رغم انتسابه الصريح إلى مدرسة ماربورغ الكانطية المحدثة. لذلك لم يرضَ بالحصول على منصبٍ تدريسي في جامعة ماربورغ، عاصمة الكانطية، والإعداد لوراثة أستاذه اللامع كوهن، بل آثر الانتقال إلى جامعة برلين والاكتفاء بمنصب تدريسي متواضع، وفي يقينه أن حرية الفكر أثمنُ من مناصب الدنيا كلها. حين أعلنت جامعة برلين عن رغبتها في جمع أعمال كانط بإشراف ديلتاي، كان كاسيرر يُعد طبعته العلمية التي احتوت على عشرة مجلدات. ذلك بأن الإرث الكانطي لم يكن موضعَ إجماعٍ في الأوساط الفلسفية الألمانية. كان بعضهم يَعد كانط أبا الفلسفة الألمانية ومؤسسَ مثاليتها الحق، في حين كان بعضُهم الآخر يضعه في منزلة الحلقة التي اختتمت حقبةً من حقبات هذه الفلسفة.

أمانةً على الإرث الكانطي العظيم هذا، أصر كاسيرر في كتابه "حياة كانط ومذهبه" على الأثر البالغ الذي تركه الفيلسوف النقدي في وعيه. ومع ذلك، أعلن صراحةً أن كانط أضحى ينتمي إلى ماضي الفلسفة المجيد، إذ لا يستطيع منهجُه النقدي أن يستهل زمناً فلسفياً أصيلاً. من خصائص السيرة التي استودعها كاسيرر هذا الكتابَ أن كانط لم يحكم بالدينونة المطلقة على الفلسفة الجامعية الألمانية التي اختبرها في القرن الثامن عشر، ولم يُهمل إرث عصر الأنوار الفلسفي. أما كتاب "نقد العقل النظري" فلم ينسب إليه كاسيرر مقام الصدارة في أعمال كانط، بل أظهر لنا أن انعطافة كانط حصلت عامَ 1770 في البحث الذي تناول شكل العالم الحسي والعقلي ومبادئه، إذ ميز كانط الحساسية من العقل، وأسند إلى الفاهمة قدرةَ التنظيم الهندسي الذي يرتب معطيات الحساسية ترتيباً معقولاً قابلاً الإدراك.

تجديد نظرية المعرفة

 

حاور كاسيرر مؤسسَ الفِنومِنولوجيا المعاصرة هوسرل (1859-1938) حواراً كانطياً، فجعله يدرك الأثر الطيب الذي خلفه كانط في الفِنومِنولوجيا. غير أن الكانطية غيرُ الفِنومِنولوجيا، ولو أن كاسيرر دعا القسم الثالث من كتاب "فلسفة الأشكال الرمزية" (فِنومِنولوجيا المعرفة)، ولم يُعنونه "نظرية المعرفة". السبب في هذا التمايز أن هوسرل اعتنى بالوعي ونشاطه القصدي الذي يُنشئ العالم إنشاءً، في حين كانت الكانطية تعتني بالعقل ووظيفته التأليفية العفوية، لا سيما على مستوى الفاهمة. إذا كانت المعرفة تتطلب نظراً ناقداً، على نحو ما أظهره لنا نقدُ العقل، فإن تاريخية الوجود الإنساني تستوجب الاعتناء بتعاقب الأطوار الفكرية في أزمنةٍ مختلفةٍ. ذلك بأن ألمعية الفكرة لا تنتمي إلى زمنٍ انقضى، بل تعاصر جميع الأزمنة وتنطوي على طاقةٍ تكيفية تمددية تجعلها تنغل في جميع البناءات المعرفية المنضبطة في أنظومةٍ متسقةٍ متماسكةٍ.

في هذا السياق، استحضر كاسيرر موقف هيغل (1770-1831) من العلوم الوضعية التي كان يعاين فيها دليلاً على فساد الأمَم وانحطاطها. ليس المطلق الهيغلي اختتاماً للتاريخ، بل افتتاحٌ واعدٌ يشرع الزمن على آفاق الابتكار. في كتاب "الفرد والكون"، ذكرنا كاسيرر بالفرضية التي اعتمدها هيغل المؤمنُ بأن ثقافةَ عصرٍ من العصور إنما تنعكس في فلسفته. ولكنه سرعان ما انتقد هيغل، إذ أعلن أن الأفكار، شأنها شأن النظرات، تتلاقى، ولكن من غير أن يستثيرها الروح المطلق الذي افترضه هيغل في أصل الحراك الكوني. الروح، في نظر كاسيرر، فردي ذاتي يحمله الإنسان، فيصبح روحاً ترانسندنتالياً اقتضائياً بفضل ما تقتضيه الحقيقة من رفعةٍ وسمو في جميع ميادين الوجود.

الرمزية المُلهِمة

من المنصف القول إن فلسفة كاسيرر تتجلى خصوصاً في كتابَيه الأساسيين: "مشكلة المعرفة، وفلسفة الأشكال الرمزية". من خصائصها أنها سعت إلى الإعراض عن الأنتربولوجيا الفلسفية الكلاسيكية واستبدلتُ بها أنتروبولوجيا جديدة تستدخل في حقلها البحثي خلاصات العلوم الفيزيائية والعلوم الاجتماعية. أما الخلفية الهادية فالاجتهاد في استثمار ثورة كانط النقدية، لا سيما في ميدان التفكر في بنى المعرفة القبْلية الاقتضائية المجاوِزة الترانسندنتالية. بخلاف فلسفة المطلق الهيغلية وفلسفات التاريخ النظرية، ارتأت الأنتروبولوجيا الجديدة هذه أن تعرف الإنسان حيواناً رمزياً يغترف ماهيتَه من صميم التفاعل الثقافي الأرحب الممهور برمزية النشاطات الإنسانية.

 

يميز كاسير الرمزَ من الإشارة، فيذهب إلى أنه يشتمل على النشاط الفكري الذي ينبسط في حقول ثقافية شتى، منها الأسطوريات واللسانيات والمنطقيات والجماليات. في عام 1921 عرف الرمزَ فقال: "نعني بالشكل الرمزي كل طاقةٍ يبذلها الروحُ ليُسند إلى إشارةٍ حسيةٍ مضمونَ دلالةٍ روحيةٍ geistiger Bedeutungsgehalt تلائم هذه الإشارة ملاءمةً وثيقةً". اللافت أنه، في استخدامه اصطلاحَ الطاقة، لا يستند إلى الفيزياء الحديثة أو إلى الروحوية spiritualisme البرغسونية، بل يستلهم التراث الفلسفي الهليني الذي ترجم الاصطلاح بالنشاط energeia، ومن ثم استعان به هومبولت ليميز هذا النشاطَ من نتاجه أو ثمرته ergon. أما العديل الألماني الذي يوازي، في نظر كاسيرر، اصطلاحَ الرمزي symbolisch، فالصفة التي تُعبر عن المعنى بالصورة sinnbildlich.

يستجلي الباحثون بعضاً من القربى بين هذه الرمزية ونظريات الأشكال Gestalttheorie التي تفترض أن دماغنا يمنح الأشكال المرسومة أمامنا معانيَ شتى لا تحملها أصلاً في موضوعيتها المجردة المستقلة عن رؤيتنا. قد ترمز الطاولة التي نعاينها في الغرفة إلى أمرَين مختلفَين: إما إلى طاولة الطعام إذا زُينت بغطاءٍ مزركشٍ ووُضعت عليها الصحون، وإما إلى طاولة العمل المكتبي إذا انتشرت عليها الأوراق وعلَتها الكتب. غير أن رمزية كاسيرر ترتبط أيضاً بحدس الماهية Wesenschau، وقد اعتلن لنا فِنومِنولوجيا في هيئة المعنى الجوهري الذي نستخرجه من شتيت الأغراض التي يقصدها وعيُنا. أما الاقتران الأوثق فيَظهر في ارتباط هذه الرمزية بالنقد الذي اعتمده كانط وطبقه على الحساسية، حين أدرك أن الانتقال من مستوى الحساسية إلى مستوى الفاهمة يتطلب حدساً لطيفاً أطلق عليه اصطلاح التخطيطية أو الترسيمية Schematismus التي تعاين الصلة المنعقدة بين المعطى الحسي والانضباط في مقولات الفاهمة، وكذلك أيضاً بين الاختبار المحسوس والحُكم التذوقي الجمالي.

عقلنة الأسطورة البدائية واستثمار رموزها الصالحة

 

يرسم كاسيرر أن الرمز تعبيرٌ كوني عالمي عن نشاط الروح الثقافي الإبداعي. لذلك اجتهد في إنشاء نحوٍ فقهي يضبط بأحكامه وظيفة الرمز في تعابيره الخاصة التي تنبثق منه في اللغة والفن والأسطورة والدين. من أحكام هذا النحو القواعدي أن يجمع هذه التعابير ويرتبها ويُسند إليها مقاماً معرفيا يراعي طبيعتها الإيحائية الفريدة. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن كاسيرر لم يُفرد للدين بحثاً قائماً بحد ذاته، بل اكتفى بمجلد "الفكر الأسطوري" Das mythische Denken الذي عالج فيه المسألة الدينية بحسب منهجيةٍ صارمةٍ تفترض أن الشعائر أو الطقوس الدينية تتقدم زمنيا على العقيدة التي تمنح العالمَ والذاتَ الإنسانيةَ شكلَهما الرمزي.

لم يتوانَ كاسيرر عن استخدام منهجيته في معالجة أساطير القرن العشرين، لاسيما أسطورة العرق المتفوق، وأسطورة الإبادة الجماعية التي تُنقذ الأرض من رجس الأشرار، وأسطورة الشعائر التعظيمية التي يفرضها الزعماء المؤلهون والأسياد المقتدرون على أقوامهم من أجل إخضاعهم. من أبلغ ما قاله في الأسطورة أنها "تيارٌ بدائي جياشٌ منبجسٌ من أعماقٍ مجهولةٍ. في السياسة الحديثة، وُضعت سدودٌ له ومسالكُ [...] فانضبط انضباطاً يوافق الحاجات السياسية". في لهيب العنف النازي، أدرك سريعاً أن البشرية يمكنها أن تستثمر الأساطير القديمة استثماراً حديثاً حتى تسوغ قبائح أفعالها الجرمية. لذلك لا يجوز أن نرمي الأسطورة في خزائن الماضي العتيقة، بل يجب أن نستدل على آثارها المدمرة في مصطرع الاضطراب الكوني الجارف. لم يخطر بباله أن ينزع طابع الأسطورة Entmythologisierung عن عالم الحداثة، على نحو ما صنع اللاهوتي البروتستانتي الألماني رودولف بولتمان (1884-1976)، بل كانت له الجرأة الأدبية، وهو المتحدر من أسرةٍ يهوديةٍ، أن يعلن جهاراً أن عقيدة الدم والتراب Blut und Boden التي أطلقها منظرُ النازية الأيديولوجي المتطرف ريخارد ڤالتر داره (1895-1953) في دراسته العرقية Neuadel aus Blut und Boden، إنما تنغرس في التربة السامية التي انبثقت منها اليهودية عينُها.

ومن ثم، ينبغي النظر نظراً موضوعيا نزيهاً في قيمة الأساطير ومقامها وضرورتها الطبيعية في بناء عمارة الإنسان الفكرية، بحيث يستطيع العقل أن يستخرج للفكر البشري رسومَه وخطوطَه وصيَغه ونماذجَه الأساسية. إذا كان للدين اليهودي، ولكل دينٍ آخر، من فائدةٍ خلاصيةٍ، فإنها ناشبةٌ في صميم الأخلاقيات الرفيعة التي ترتقي بالإنسانية إلى مرتبة الوحدة الحضارية. جواباً عن سؤال كانط (ماذا يجوز لي أن آمل؟)، تجرأ كاسيرر فأسند إلى الفلسفة مهمةَ البحث عن ينبوع الوحدة: "لا يمكن الفلسفة أن تتخلى عن مبدأ وحدة العالم المثالي هذا".

الاختلاف القاتل بين الأسطورة والرمز

 

في كتاب "فلسفة الأشكال الرمزية" يعارض كاسيرر الأسطورة بالرمز، ويبين ما للثقافة من قدرةٍ تحريريةٍ. ذلك بأن الإنسان حيوانٌ رمزي لا ينفك ينتج المعنى، أي يبني العالم الذي يحرره من فردانيته الانعزالية ويُعتقه من فطرته الطبيعية. اللغة وسيلةُ هذا الانعتاق، بواسطتها يمكننا أن ننظر في مقام الرمز. لكل حقل من حقول النشاط الإنساني "نحوُه" الخاص أو قواعدُه وأحكامُه التي تناسبه. كل ما يبدعه الإنسانُ في العلم والفن والحياة الاجتماعية والدين يعبر عن وحدةٍ حيويةٍ ناشطةٍ تختلف عن الوحدة الهيغلية التي يحييها الروح المطلق، إذ إنها تجسد الإنسانية جمعاء في سعيها إلى تحقيق ذاتها. ومن ثم، تتجلى الإنسانية في منزلة الروح الفاعل في التاريخ. بما أن التاريخ مسرحُ حريتنا، فإن كاسيرر لم يجازف في استنباء النهاية. الأرجح أن التاريخ لا ينتهي، إلا إذا افترض المرءُ انقراض الجنس البشري في الأرض. بعد أن عاين كاسير فظائع الحرب العالمية الأولى، أدرك أن التخيلات الأسطورية تحرض الذهنية الإيديولوجية على الخراب الكوني، إذ إن الأسطورة تجمد الرسم الثقافي، في حين أن الرمز يعزز تنوع الإبداع التصويري، لا بل يستثير التناقض الخلاق بين الأشكال الرمزية المتقابلة.

ومن ثم، استند كاسيرر إلى الرمزية لكي يتجاوز انسدادات المذهبَين العقلاني والتجريبي اللذَين كان يصران على اعتماد نظريةٍ في الحقيقة تعاين في المعرفة نسخةً طبقَ الأصل عن الأشياء. خلافاً للميتافيزياء القديمة التي كانت تترجح بين القول بصدارة الكينونة والقول بصدارة المعرفة، بين القول بصدارة الموضوع والقول بصدارة الذات، انبرى العلم الحديث، بحسب كاسيرر، ينجز لنا مؤالفةً موضوعيةً ما برحت تجود أداءها المعرفي. ذلك بأن الموضوعية العلمية الحديثة تعني الثبات الذي ينشأ رويداً رويداً من معارضة الفرضيات بعضها ببعض وتقويمها المتبادل، بحيث تصطفي العلوم الرياضية والفيزيائية النموذج العملاني الأنسب بفضل تراكم الاختبارات التقويمية. والحال أن كاسيرر كان مؤمناً بأن الثبات في المسعى العلمي يعبر عن ماهية الرمز في الحقل الثقافي.

تنقية الدين من شطحات المخيلة الأسطورية

لذلك استخدم الوظيفة الرمزية من أجل التوفيق بين الأسطورة والفن والدين وسائر الأشكال الثقافية والعلم. فعَمد إلى إحصاء الأشكال الثقافية وتحليلها تحليلاً يعاين فيها كيفيةً من كيفيات تكون الحقائق المعرفية الموضوعي. فإذا به يكتشف طابعها النسباني المقترن بالاختلافات الناشبة بينها، وفي الوقت عينه يجمعها في تصورٍ أنظومي يحويها على تباين تجلياتها.

عاين كاسيرر في الأسطورة شكلاً ثقافيا ينبغي إخضاعُه لمعايير النقد الكانطي حتى تعتلن موضوعيتُه العلمية. بيد أن المضمون الأسطوري ليس كالموضوع العلمي المستند إلى مرجعيةٍ تضبط كل ارتباطاته، بل يمتلك قيمةً جوهريةً، إذ إنه كائنٌ شخصي يمتلك قدرةً فاعلةً على غرار المثال الأصلي النموذجي الذي نادى به عالم النفس السويسري كارل يونغ (1875-1961). أما مقصدُ الوعي الأسطوري الأساسي فالمقدس الذي تختبره الأديان. ومن ثم، ينبغي التمييز بين بنية الأسطورة وبينة الدين، بحيث يتبين لنا، بحسب كاسيرر، أن الدين، بواسطة الأضاحي والشعائر والصلوات، يبدل تبديلاً جوهريا في الأسطورة. العالم، في التصور الأسطوري، مؤلفٌ من ملامحَ وهيئاتٍ متجسدةٍ، في حين أن الإلهيات، في التصور الديني، تتجاوز الحسيات التاريخية والتكونات الثقافية، فتتيح لنا أن نختبر التسامي اختباراً وجدانياً جوانياً. ومع ذلك، يضطر الدين، في شكله الخارجي، إلى أن يصون عالم الملامح والهيئات صونَ التنقية الجذرية الصارمة. إذا كان منطق الأسطورة يقوم على التمييز بين المقدس والدنيوي المدنس، فإن منطق الدين يصون التوتر الناشط بين المطلق والوهم. ذلك بأن تاريخ الأديان أظهر لنا انبثاق الوعي الذاتي الذي يستند إلى اختبار الإله الشخصي الواحد ترمز إليه الصوَرُ والهيئاتُ التي ما برحت تعتريها شوائبُ التعبير الأسطوري.

بناء الثقافة في عالم الإنسان

لا شك في أن الوعي الإنساني يبتكر أشكالاً ثقافيةً شتى من أجل بناء العالم. من بين هذه الأشكال التعبيرُ اللغوي، وصوغُ المفهوم أو المفهمة العلمية، والحدسُ الأسطوري، والتصوراتُ الدينية. أما الجامع المشترك فالاختبار الرمزي الذي يستنبط المعنى من جوف الوقائع الحسية، بحيث تكتسب الأمور بُعدَ المعقولية وترتدي لباس المعنى الهادي. بيد أن الدلالات الرمزية لا يمكن أن ندركها إلا في سياق القرائن الثقافية التي تكتنفها. كل سياقٍ يجسد المحضن الرمزي الأرحب الذي ينهج لنا السبيل إلى بلوغ الواقع، شرطَ مراعاة الشروط القبْلية التي تنعقد، على الطريقة الكانطية، في مقولات المكان والزمان والعدد والسببية.

من صفات الرمز أنه يستضيف الالتباس استضافةً عفويةً تلقائيةً، إذ إن طبيعته الإلهامية تنطوي على وجهَين متلازمَين: الدلالة المباشرة، والإشارة الأبعد. لا ريب في أن مثل هذه التقاطبية بين الأقرب والأبعد تجعلنا نعي الأبعاد الكلية التي ينطوي عليها الاختبارُ الإنساني. لذلك يسهم المجاز والكناية في بناء العالم الثقافي ونحت آفاق المعنى الإنساني الأرحب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان كاسيرر شديدَ الحرص على تعزيز المقام الإنساني وترسيخ سلطة العقل وتوطيد مرجعية العلوم والتدقيق في الصلاحية المعرفية الإبيستِمولوجية. لا ريب في أن مثل هذه الموضوعات أضرمت الخلاف الفلسفي الحاد الذي انفجر في المحاورة التي نشطت بينه وبين هايدغر (1889-1976) في مؤتمر داڤوس العامَ 1929، بحسب ما ذهب إليه بيتر غوردون في كتابه التوثيقي Continental Divide. Heidegger, Cassirer, Davos. لم يكن يوافق كانط على الفصل القاطع بين حقل الطبيعة الذي يتيح عملَ العقل النظري، وحقل الحرية الإنسانية الذي يظل عصيا على المعرفة الموضوعية. كان يدرك أن كانط نفسه استدرك خطأ التطرف في الفصل بين الحقلَين، لاسيما في كتاب "نقد ملَكة الحُكم". ليس من الضروري أيضاً، في نظر كاسيرر، اعتماد الفصل القاطع بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان، على نحو ما ذهب إليه ديلتاي، وما بناه ماكس ڤيبر (1864-1920) من سوسولوجيا استيعاب المعنى الثقافي، وما صاغه غادَمر (1900-2002) من فِسارة الاستدلال على فائض المعنى في الاختبار الوجداني. بما أن نشاط المفهوم لا يقتصر على إحالةٍ دلاليةٍ جوهريةٍ ملموسةٍ Substanzbegriff، بل ينعقد انعقادَ الوظيفة الفاعلة Funktionsbegriff، فإن الإنسان المعاصر ينبغي أن يطور عِلماً في الثقافة يدرك إدراكاً رمزياً نتاجَ الحضارة، من غير أن يَسقط في محنة البحث عن الجوهر الأفلاطوني المنحجب. بفضل مبحث الأشكال الرمزية يمكننا أن نتجاوز عقم التحليل السببي الآلي في استنطاق عبَر التاريخ.

اختلف هايدغر وكاسيرر في تفسير الترسيمية الترانسندنتالية الكانطية، فأصر كاسيرر على أنتروبولوجيا المعرفة النقدية، في حين تشبث هايدغر بالنقد الذي ساقه أستاذُه هوسرل وبه أطبق على العلوم الإنسانية. كان كاسيرر مُصراً على تعزيز الأبعاد الإنسانية التي تنطوي عليها الزمنية والمحدودية في كتاب كانط "نقد العقل المحض"، وكان يروم أن يستنقذ المعرفة من إرباكات النسبانية التي أصابتها من جراء تعظيم هايدغر مسعى التأمل الحر في معنى الكينونة. لا بد، في نظر كاسيرر، من مناصرة مبدأ الصلاحية المعرفية التي تتزين بها الحقيقة في علوم الطبيعة وعلوم الإنسان، في حين اعتصم هايدغر بنقد العقل الحساب وآثر الوثوق بأنطولوجيا التجلي الوهاب ينهج للإنسان سبيلاً خفراً إلى رعاية اعتلانات الكينونة واحتجاباتها.

ومن ثم، أحس الحاضرون خطورةَ المواجهة الفكرية بين فيلسوف الكينونة التقليدي المحافظ الحريص على استثمار روح التراث اليوناني والألماني، وفيلسوف الكانطية الإنسية العقلانية النقدية المدافع عن كونية الإنسان وحقوقه الأساسية. أظهرت المحاورة الفلسفية الشيقة هذه الاختلاف الحاد بين فكر هايدغر الشعري التأملي الاستذكاري الصوفي اللاعقلاني اللاإنسي، وفلسفة كاسير العلمية العقلانية الإنسية. في رسالةٍ إلى المناضلة النسائية أستاذة الفلسفة التربوية إليزابِيت بلوخمان (1892-1972)، اعترف هايدغر لاحقاً بأن وداعة كاسيرِر ونبل أخلاقه وسماحة فكره فضائلُ منعت النقاش من بلوغ الحدة الجدلية الضرورية من أجل إظهار إشكالية العدم الرابض على وجودنا الممهور بالقلق، وإشكالية جوهر الإنسان في أقصى مضامينه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة