ملخص
قرن على صدور "القصيدة الهندية" لهرمان هسه التي ترجمت إلى ما يزيد على 40 لغة
هرمان هسه (1877 – 1962) روائي من طراز خاص، ولعل أجمل رواياته هي حياته نفسها. إنه من الأدباء الذين لا يكتبون إلا عما تجيش به صدورهم، وما تكابده أرواحهم، عما مروا به وخبروه وعانوه. وعلى رغم عدد أعماله الضخم (أحصى أحد الباحثين أكثر من 200 كتاب وكتيب أصدرها هسه، ما بين شعر وقصة ورواية وتأملات، عدا آلاف المقالات ومراجعات الكتب)، فلا يمكن اعتبار عمل من أعماله سيرة ذاتية محضة، لكن معظم ما كتبه يقترب كثيراً أو قليلاً من سيرته الذاتية، وتعتبر بعض أعماله تنويعات واضحة على سيرته الذاتية، مثل "تحت العجلة" و"دميان" و"ذئب البراري" و"سدهارتا". وكلها تتناول مواضيعه المحورية: بحث الإنسان عن طريقه الخاص الذي يحقق له السعادة، والإنصات إلى صوت القلب، والبحث عن التوازن بين الروحانيات والدنيويات، والتحرر من الضغوط كافة وكل أشكال السلطة، سواء السلطة الأبوية أو الدينية أو السياسية. وعلى رغم اقتراب أعماله من السيرة الذاتية، لم يكن ينقصه الخيال، مثلما نرى في رواية "سدهارتا" التي أعتبرها شخصياً من أجمل ما كتب.
ولد هرمان هسه في الثاني من يوليو عام 1877 في مدينة كالف بجنوب ألمانيا، وكان الابن الثاني للمبشر المتحدر من إستونيا يوهانس هسه، أما أمه ماريا فكانت ابنة مبشر وباحث مشهور في اللغات والآداب الهندية هو هرمان جوندرت، وولدت في الهند.
تميز هرمان هسه منذ الطفولة بإرادة قوية وعزيمة صلبة، واتسم منذ الصغر بروح التمرد. أدخله أبوه معهداً للدراسات اللاهوتية كي يصبح قساً ومبشراً مثله، لكنه هرب منه بعد أن قضى فيه سبعة أشهر. ونجد أصداء تلك الفترة في روايته "تحت العجلة"، وكذلك في "سدهارتا".
سيرة كاتب
في عمر الـ15 حاول الانتحار، ودخل مصحة نفسية، ثم عمل طوال عام في ورشة لتركيب ساعات أبراج الكنائس، وبعدها شرع يدرس الأدب دارسة حرة في مكتبة المنزل، واستطاع التغلب على أزمته النفسية، ثم عمل مساعداً في مكتبة في توبينغن، وبعدها انتقل للعمل في مكتبة للكتب القديمة في بازل بسويسرا حيث استقر.
نشر أول أشعاره في ديوان بعنوان "أغان رومانسية"، وكان آنذاك في الـ22 من عمره. وبعد خمس سنوات، في عام 1904 نشر أولى رواياته "بيتر كامنتسند". وفي العام نفسه تزوج ماريا برنولي، وتفرغ للكتابة الإبداعية والصحافية. وتوالت بعدها أعماله التي حققت نجاحاً كبيراً، ومنها "تحت العجلة" (1906)، و"دميان" (1919)، و"سدهارتا – قصيدة هندية" (1922)، و"ذئب البراري" (1927).
بعد أن انفصل عن زوجته تزوج مرة أخرى عام 1924، غير أن الزواج الثاني لم يستمر سوى عام واحد. ثم تزوج للمرة الثالثة عام 1931، وهي الزيجة التي كتب لها الاستمرار حتى وفاته في التاسع من أغسطس عام 1962 في مدينة مونتانيولا بالقرب من لوجانو في إقليم تيسين السويسري.
وكان هسه من المعارضين القلائل للنزعة العسكرية الألمانية، سواء في الحرب العالمية الأولى أو الثانية، لذا منعت ألمانيا النازية في عام 1938 أعماله، ووصفتها بالرخاوة. وفي عام 1943 نشر هسه عمل حياته الذي استغرقت كتابته 12 سنة، وهي رواية "لعبة الكريات الزجاجية" (نحو 900 صفحة، وصدرت في جزئين، ونقلها إلى العربية مصطفى ماهر). وبعدها بثلاث سنوات نال جائزة نوبل التي منحت له باعتباره أديباً سويسرياً، إذ كان حصل على الجنسية السويسرية عام 1923 بعد أن أقام فيها 25 عاماً.
موجات استقبال أعماله
منح هسه جوائز عديدة، أبرزها – بعد جائزة نوبل – جائزة السلام الألمانية عام 1955. واختلف تقييم أعمال هسه باختلاف العقود، ويمكن ملاحظة موجات في استقبال أعماله. لاقت أعماله المبكرة قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، صدى واسعاً ونجاحاً جماهيرياً ونقدياً كبيراً. وبعد الحرب العالمية الثانية وحصوله على جائزة نوبل شهدت أعماله رواجاً كبيراً، لا سيما بين الشباب العائد من الحرب مصدوماً. هذا الشباب الذي راح يبحث عن مغزى حياته وعن طريقه وجد في أعمال هسه مراده ومبتغاه، أو كما عبر عن ذلك الأديب توماس مان: "لقد أصاب هسه بدقة بالغة عصب تلك الفترة".
غير أن النقد الأدبي الألماني كان ينظر إلى أعماله منذ أواخر الخمسينيات نظرة مستهينة، وربما لعبت دوراً في ذلك، معارضة هسه الصريحة للنزعة العسكرية في ألمانيا، ونأيه بنفسه عن الانخراط في القضايا السياسية الآنية. وعندما توفي الأديب الكبير عام 1962، كان أصبح طي النسيان. لكن سرعان ما أعادت حركة الهيبيز في أميركا اكتشافه، ثم الحركة الطالبية في أوروبا. مرة أخرى عادت أعمال هسه لتحتل صدارة الاهتمام نظراً إلى الأسئلة التي تطرحها والأجوبة التي تقدمها، لا سيما رواية "ذئب البراري" ورواية "سدهارتا". وهكذا غزت أعماله قوائم أفضل المبيعات مرة أخرى، ويقدر ما بيع منها في العالم كله بنحو 120 مليون نسخة (حتى عام 2007). وبذا يعتبر هسه الأديب الألماني الأشهر في ما يتعلق بترجمة أعماله وقراءتها على مستوى العالم كله.
وشهد العالم العربي اهتماماً كبيراً بأعمال هسه منذ الستينيات، وكان الأكاديمي المصري مصطفى ماهر صاحب السبق في التعريف به عندما ترجم "بيتر كامنتسند" والعمل الضخم "لعبة الكريات الزجاجية". وترجمت أعمال أخرى لهسه عن الإنجليزية، مثل "تحت العجلة" (ترجمها فؤاد كامل بعنوان "الطفل الموهوب")، و"دميان" (ترجمها ممدوح عدوان)، و"ذئب البراري" (ترجمت أكثر من مرة بأكثر من عنوان)، و"نرسيس وغولدموند"، و"سدهارتا"، وكذلك كتابه "رحلة إلى الشرق". وربما تكون رواية "كلاين وفاغنر" )ترجمة أحمد الزناتي عن الألمانية، 2022) هي أحدث ما ترجم لهسه.
"سدهارتا" الذي بلغ هدفه
شرع هسه يكتب "قصيدته الهندية" في ديسمبر عام 1919، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى التي خلفت دماراً غير مسبوق، وراح ضحيتها نحو 9 ملايين إنسان. كانت فترة انهيار قيم، وسقوط إمبراطوريات، وجدت صداها في عنوان المؤلف الضخم الشهير الذي وضعه أوسفالد شبنغلر: "سقوط الغرب"، وهو عنوان كان يعبر عن الحالة النفسية لملايين في أوروبا.
وتعتبر "سدهارتا" من أكثر الأعمال الأدبية الألمانية تأثيراً في العالم كله، إذ بلغت مبيعات نسخها وترجماتها ما يزيد على 20 مليون نسخة، وترجمت إلى ما يزيد على 40 لغة، وكذلك إلى عديد من اللهجات الهندية.
وكان هسه تعرف مبكراً على أفكار الهندوسية والبوذية عبر الجد والأب والخال، ويمكن القول إنها طبعت تفكيره، إذ رأى فيها اقتراحات جيدة لحل مشكلات أوروبا المادية، لذا ينظر النقاد إلى "سدهارتا" باعتبارها جسراً بين الثقافتين الشرقية والغربية. وكان هسه ارتحل إلى الهند في عام 1911، مسقط رأس والدته، وكان لتلك الرحلة تأثير كبير في نفسه، وربما نمت هناك بذرة "سدهارتا". بعد عودته من الهند تعرض لأزمة نفسية كبيرة إثر وفاة والده في عام 1916، ومرض زوجته الأولى بالفصام (الشيزوفرينيا)، ومرض ابنه الأصغر، وكذلك تعاسة حياته الزوجية. كل ذلك دفعه إلى البحث عن علاج نفسي لدى أحد تلاميذ عالم النفس المشهور كارل يونغ، ثم لدى يونغ نفسه. وفي تلك الفترة شرع يكتب "سدهارتا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتستلهم الرواية قصة حياة بوذا (556 – 476 ق.م.)، وعن ظروف كتابتها قال هسه في مقدمة الطبعة الفارسية (عام 1958) إنها "اعترافات رجل نشأ وتربى في أجواء مسيحية، لكنه هجر الكنيسة مبكراً، وحاول جاهداً أن يفهم الديانات الأخرى، لا سيما العقائد الهندية والصينية". وأضاف هسه أنه حاول العثور على "المشترك في كل العقائد والأشكال الإنسانية للتدين، الشيء الذي يعلو على كل الاختلافات القومية".
ومع أن رواية "سدهارتا" تستلهم الثقافة الهندية، كان هسه يعتبرها "أوروبية للغاية". وعلى رغم موضوعها الروحاني فإنها تخلو تماماً من الوعظ، إذ إنها تصف فحسب الدروب والمتاهات التي يسلكها سدهارتا (ويعني اسمه "الذي بلغ هدفه") خلال البحث عن طريقه في الحياة، وخلال المواءمة بين الاحتياجات الدنيوية والروحية. "سدهارتا" تؤكد قيمة الفردية، وهو ما لا تفعله التعاليم البوذية والهندوسية، فالطريق إلى الحكمة لا يقود في رأي هسه عبر اتباع التعاليم الدينية وأداء الطقوس وتقديم القرابين، مثلما تقول الهندوسية والبوذية، بل عبر الفردانية، والبحث عن الذات بعيداً من الجماعة، وبعيداً من سلطة المعلمين وسلطة رجال الدين.
وهناك ترجمات عدة عربية لـ"سدهارتا"، تتفاوت في دقتها أو اقترابها من الأصل، لعل أكثرها شيوعاً ترجمتان عن الإنجليزية، الأولى للمترجم فؤاد كامل، والثانية للكاتب والمترجم السوري ممدوح عدوان. أما الترجمة التي أنجزتها جيزلا فالور حجار عن الأصل الألماني فتتسم بالحرفية الشديدة التي تعوق القراءة في كثير من الأحيان.
واليوم، وبعد مرور 100 عام وعام على صدور "سدهارتا" للمرة الأولى عام 1922، ما زال هذا العمل الفريد جديراً بالاكتشاف، وجديراً بالانغماس في تلك الرحلة التي قام بها سدهارتا باحثاً عن التوازن بين الروح والجسد.