Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أوهام" عرض سوري يواجه الرقابة بالجسد الراقص

المخرج معتز ملاطية لي مزج بين الحركة والدراما في توليفة أداء شاملة

من العرض المسرحي الراقص "أوهام" (خدمة الفرقة)

ملخص

المخرج معتز ملاطية لي مزج بين الحركة والدراما في توليفة أداء شاملة

مرة أخرى يعيد الفنان معتز ملاطية لي الرقص إلى جادة الدراما في عرضه الجديد "أوهام" الذي قام بتصميمه والإشراف عليه مع فرقة "مختبر دمشق للرقص المعاصر" في المعهد العالي للفنون المسرحية، فعلى امتداد 50 دقيقة من زمن العرض يأخذنا الكريوغراف والمخرج السوري إلى ما يشبه متتاليات إيقاعية خاطفة قام بأدائها 16 راقصاً وراقصة على المسرح المتعدد في دار الأوبرا السورية، ولكن ضمن سياق درامي اقترب فيه الراقص من صيغة فنون الأداء الشاملة التي يلتقي فيها التمثيل بالرقص والموسيقى بالحركة.

يبدأ "أوهام" من عمق الخشبة لتنبلج منصة مائلة يتساقط عنها المؤدون والمؤديات وكأنهم قذفوا من السماء إلى المسرح. ومع انهمارهم الوجودي واحداً تلو الآخر بأزيائهم المائلة إلى اللونين الأحمر القاني والأسود (تصميم أزياء ألجي سلامة) يندلع صراع يعبر عنه المؤدون بارتطام أجسادهم بأرضية الخشبة. ومن ثم نهوضهم واجتماعهم وتفرقهم بآلية توحي بحركة حشود بشرية ذات أزياء كالحة تحاصر كلاً من الراقصين (الزهراء هابيل، وسليم رضوان، وكرم أبو قاسم)، إضافة إلى كل من نجيب الحكيم ووجد منصور ويوسف إبراهيم، الذين سيجدون أنفسهم أيضاً داخل حلقة مغلقة توصدها عليهم كائنات هلامية بأجسادهم، وتطبق عليهم الخناق، فتدفعهم إلى الامتثال لحركة الحشد، وعدم الشذوذ عن تعاليمه وأعرافه وتعليماته.

 

اعتمد مؤدو "أوهام" على أسلوبية الرقص المعاصر في معظم فقرات العرض، لكونه الرقص الذي يعطي حرية في تصميم الحركة، ويهب الراقصين والراقصات القدرة على مزاوجة هذا النوع من الأداء مع رقصات "الهيب هوب" و"البريك دانس" ورقص الصالونات. وتخلل العرض ما يشبه لوحات أتت كفواصل بين الفقرات الرئيسة. توضح ذلك من خلال إتاحة الفرصة للمؤديين الأساسين في "أوهام" لتغيير أزيائهم، وتوفير طاقتهم لأداء بقية لوحات أكثر استنزافاً لإمكاناتهم العضلية ولياقتهم البدينة. وهنا برزت لوحة العراك على منصة التمثال، التي تجسدت في منصة أقرب إلى منصة تمثال الحرية في نيويورك، ليكون الصراع هنا على أشده. ووفق حركة دائرية رافقتها مختارات موسيقة صاخبة بإيقاعات الطبول تارة، وهادئة منوعة تارة أخرى ذات مناخات نفسية جسدتها معزوفات البيانو والتشيللو في رقصات الفالس (مكساج محمود عكاش).

حاول مخرج "أوهام" الإطلالة على مناخات مبتكرة مع مجموع مؤدي العرض، وذلك من خلال لوحة جسدت أسطورة سيزيف الذي حكم عليه زيوس برفع صخرة إلى قمة الجبل، ومن ثم دحرجتها إلى أسفله، وحملها من جديد إلى القمة، كصورة للعذاب الأبدي في الميثيولوجيا الأغريقية. وهذا ما جاء في العرض في صورة جماعية ابتعدت عن تصوير آلام الإنسان الفرد لتصور آلام الجماعة البشرية، ونضالها المستميت في وجه قوى الغيب والطبيعة للظفر بالحياة والحرية والعيش الكريم.

 

تعاون مخرج "أوهام" مع راقصي الصف الأول في تصميم لوحات العرض، والوصول إلى صيغ بصرية لافتة على صعيد مسرح المساحة الفارغة الذي خلقت الإضاءة فيه (جواد أبو كرم) فراغها حول أجساد المؤدين والمؤديات، وتركت لهذه الأجساد إشغال المساحات المتبقية من الفضاء. مرة عبر تلوين الخلفيات، ومرات عبر اللعب بدرجات السطوع الأمامية، وتوضيح جماليات الجسد الراقص، وإبراز تعابير وجوه الراقصين وحضورهم العضلي على الخشبة، مع الحفاظ على توزع الكتل الراقصة بما يتناسب مع الفراغ المتروك على المسرح.

وبدت الحركة في العرض كأنها مشتقة من أحداث سورية معروفة ارتجلها المؤدون في فترة التمارين، ومن ثم عملوا على محاكاتها وتطويرها بعد ثلاثة أشهر من البروفات المتواصلة. هكذا يمكن اعتبار "أوهام" خطوة جديدة نحو الانعتاق من رقابة النصوص وسطوة لجان المشاهدة السائدة في العروض التقليدية. فانعدم التصريح بالحوار، لصالح فصاحة الجسد وقدراته الفائقة في تجسيد الأفكار، من دون أن يتعرض "أوهام" لإدانة في إسقاطاته السياسية والاجتماعية، ولتبقى هذه الإسقاطات خاضعة لأوجه عديدة من التأويلات والتفسيرات المتضاربة. ولاسيما فكرة الظفر بالحرية التي تطيح بها صخرة سيزيف، وترمي بالجميع أرضاً بعد الوصول إليها.

 

مفارقة تحيل إلى "أوهام" تحاول مجتمعات العالم الثالث تحقيقها في الواقع، لكن تحالف قوى الغيب والسلطة يجعل من الآمال المعقودة بالتحرر والانعتاق مجرد هوامات لا أكثر، وسجوناً لا مرئية تحيط بإنسان هذه المجتمعات، وتجعله عاجزاً أمام قائمة طويلة من الممنوعات والمحرمات. وترديه صريعاً أمام أول محاولة للتمرد على نواميسها، والخروج على طاعتها. وهذا ما جعل عرض "أوهام" أقرب إلى بيان جسدي صامت، لكنه صاخب في مدلولاته وتلميحاته الضمنية إلى الصراع على السلطة ومعها، وتصوير القهر الإنساني في تجليات الجسد، وثورته على جلاديه وكاتمي صراخه.

هذا الاحتجاج المبطن لا يلزم أحداً بقراءة أحادية للعرض، لكنه في المقابل يوفر متعة في متابعة صراع لا كلام فيه ولا مونولوغات مطولة، في حين يستطيع المتفرج الانغماس في العالم الداخلي للراقصين والراقصات، ومتابعة التأثير المتواصل لهذا العالم من خلال الحركة واندفاعاتها، فالأداء هنا ليس بالجسد وحسب، بل من خلال وقفات ولحظات سكون لا تلبث أن تتصاعد مع موسيقى مضطرمة توحي بصوت ضربات القلب. وهي تجترح بدورها سياقاً لا مرئياً لتعاقب أحداث نشعر بها من دون تأطيرها في قالب درامي تقليدي، بل في توجيه التركيز نحو الأبعاد الجمالية للجسد الراقص ولياقته الاستثنائية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من هنا تضافرت عناصر عدة في إغناء الصيغة الحركية لعرض من عروض المسرح الجسدي، إلا أنه افتقر إلى العلاقة بين الراقص والراقص الشريك، وركز إجمالاً على ما يشبه "كورساً راقصاً" يتحرك وكأنه أعضاء رجل واحد أو امرأة واحدة. وهذا ما أسهم في إبعاد الراقص السولو (الإفرادي) أو الرقص الثنائي لصالح تقديم جوقة تنتفض وتتلوى في حركة إيقاعية موحدة. فحتى على صعيد الراقصين الستة الأساسيين في "أوهام" ظلت صيغة الرقص موحدة مع اللعب على تنافرات بينية ومخاتلة، في الوقت الذي كان لا بد من خلق علاقات جديدة بين الكتل الراقصة، لا على صعيد الحركة الإيقاعية وحسب، بل بقدر إظهار شراكة فعلية بين المؤديين، وتحقيق لحظات مهمة على صعيد إحساس الراقص بشريكه خارج تعميم جسدية مشتركة للجميع.

يشعر المرء أن "أوهام" ظل يتدفق وفق مزاجين، الأول هو العرض الأساسي الذي يطرح مسألة الفرد وضريبة الاختلاف التي يدفعها في مجتمع يصر على تدجينه وتعبئته عقائدياً وسياسياً. أما الثاني فهو مزاج خاص برقصات الفالس وما يتصل برقص الصالونات. وجاء كفاصل مونتاجي بين اللوحات، مختلف في التعبير والتقنيات الجسدية المعتمدة عنها في المزاج الأول، الذي اختلف بدوره في المقترح الموسيقي والزي والضوء لصالح التنويع غير الضروري، وغير المنسجم مع مقولة العرض الأساسية.  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة