ملخص
مخاوف متصاعدة من تدخلات الذكاء الاصطناعي في الانتخابات على المستوى العالمي وحتى العربي عبر قدرات خارجة ومطورة له.
التاريخ يعود إلى عام 2024، المرشح الرئاسي الأميركي جو بايدن، يفوز بدورة ثانية لرئاسة البلاد، بعد إعادة انتخابه. الصين تغزو تايوان، واجهات المحال التجارية مغلقة، و500 بنك إقليمي قد انهارت ومعها الأسواق المالية، وطوفان من المهاجرين غير الشرعيين يعبرون نهراً وقد اجتاحوا أميركا، وقوات الأمن تنتشر في سان فرانسيسكو التي جرى إغلاقها بسبب الجرائم.
كل ذلك في مقطع فيديو لم يتخط 32 ثانية، يتضمن عدة صور، تحت عنوان "ماذا لو تمت إعادة انتخاب أضعف رئيس قد شهدناه؟"، ومع التساؤل صورة للرئيس الأميركي جو بايدن ونائبة الرئيس، كامالا هاريس.
وعلى رغم أن عام 2023 لم ينته بعد، إلا أن مقطع الفيديو الذي جرى ترويجه لصورة استشرافية لمستقبل أميركا، ونشره الحزب الجمهوري في أبريل (نيسان) الماضي، بعد إعلان بايدن نيته الترشح للانتخابات الرئاسية في العام المقبل، صنع حالة جدل كبيرة، ضمن سلسلة أكبر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على اليسار العلوي لمقطع الفيديو، جملة تفيد بأن المادة المنشورة والتي جاوزت ملايين المشاهدات في عدد من المنصات على مواقع التواصل الاجتماعي، تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي. وسبقها صور منشورة يظهر فيها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب وقوات أمن تلقي القبض عليه، ليتبين في ما بعد أن الصورة محض إنتاج ذكاء اصطناعي. ما بين صورة ترمب وفيديو بايدن ما يلقي مزيداً من التخوف في شأن الانتخابات وعالم السياسة لا في أميركا وحدها، وإنما في العالم كله، بما في ذلك العالم العربي.
مجلس الأمن يتدخل
خلال يوليو (تموز) الجاري، عقد أول مؤتمر صحافي للروبوتات، وتحديداً في السابع من الشهر الجاري، بهدف إثبات أهمية الذكاء الاصطناعي والروبوتات، للمساعدة في تحديات بشرية تتعلق بالجوع والمرض. لم تمض أيام، حتى عقد مجلس الأمن، الذي يضطلع وفق ميثاق الأمم المتحدة بالمحافظة على السلام والأمن الدوليين، ووضع خطط لإنشاء نظام للتسليح، وتحديد الأخطار التي تهدد السلام، جلسة كانت بعنوان "الذكاء الاصطناعي... الفرص والأخطار للسلم والأمن الدوليين".
بات الذكاء الاصطناعي، محل قلق وتخوف، إلى حد كبير، على جبهات مختلفة، التسليح والسلام والأمن والسياسة والانتخابات من بينها، لكن هذه الأخيرة كانت ضمن سلسلة من مخاوف صناعة المواد المزيفة، وقدرتها على تضليل الملايين بشكل احترافي، يعتمد على التزييف العميق، فتحدثت دول وحكومات وعلماء حول أخطاره على ذلك العالم، الذي يتم الاعتماد فيه على قياسات الرأي العام، وما يحركها من إجراءات وتصريحات ومعلومات.
تخوف عربي
في يونيو (حزيران) الماضي، بدا التخوف العربي من تأثير الذكاء الاصطناعي على الانتخابات، خلال الملتقى الرابع للإدارات الانتخابية العربية بمقر الأمانة العامة للجامعة، وفيها قال الأمين العام المساعد بالجامعة العربية حسام زكي، إن "دور الإعلام في الانتخابات في عصر التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي شهد تغيرات متلاحقة، ليست كلها إيجابية".
وبحسب زكي، فإنه على رغم الفرص التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة لتطوير العملية الانتخابية، وإسباغ درجة أعلى من الشفافية على كافة مراحلها، وإتاحة قدر أكبر من المعلومات لجمهور الناخبين حول المرشحين وبرامجهم فإن بعض التجارب في السنوات الأخيرة "تشير إلى أدوار غير حميدة يمكن أن توظف التكنولوجيا الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي للقيام بها على نحو ينزع الصدقية عن العملية الانتخابية أو يقوض الثقة في نزاهتها وعدالتها".
ولفت الانتباه إلى أنها اتجاهات يتعين دراستها على نحو مستفيض، وبما يحصن التجارب الانتخابية في الدول العربية من هذه المشكلات المستجدة.
بروباغندا رقمية
الأكاديمي المتخصص في العلاقات الدولية والإعلام، محمد فراس النائب، اعتبر بدوره أن حقل السياسة ليس بمنأى عن الذكاء الاصطناعي، الذي يعده رأس حربة في ذلك المجال، من خلال اللعب على وتر التأثير في الجمهور، والناخبين ضمناً، عبر وضع الخطاب السياسي وفق منهجية تدعم صياغة التوجهات الانتخابية، وهو أمر تعززه أساليب "البروباغندا الرقمية".
ويرى المستشار في كلية الإعلام بالجامعة الأميركية في الإمارات، أن الذكاء الاصطناعي سيكون سلاحاً ذو حدين، سلباً وإيجاباً على مسارات المشهد السياسي، والانتخابات المتعلقة بذلك المشهد، مضيفاً "يمكن للقائمين على الحملات الانتخابية الاستفادة من كم المعلومات الضخم عن المرشحين والخصوم ونقاط قوتهم ومكامن ضعفهم، وثغرات برامجهم وحملاتهم الانتخابية على سبيل المثال".
ورأى "النائب" أن الذكاء الاصطناعي سيوفر سرعة ودقة تحليل البيانات المتوافرة، وسيبقى التلاعب الانتخابي موجوداً بشكله التقليدي إلى جانب شكله المتطور أيضاً عبر الذكاء الاصطناعي، لكنه اعتبر أنه من المبكر الحديث عن تأثيرات جوهرية لاستخدامات تلك التكنولوجيا على المشهد السياسي العربي "لكن، في المقابل، ستكون لهذا الأمر تأثيرات على الرأي العام العربي في إطار مواقع التواصل الاجتماعي".
لكن أحمد سامر وزان، وهو أكاديمي متخصص في العالم الرقمي، نبه إلى أن العالم العربي، مثله مثل أي عالم آخر، ستواجهه مشكلات في الانتخابات في شأن الذكاء الاصطناعي، مثلما قد يحدث مع أي بلد آخر، لافتاً الانتباه إلى ضرورة إعادة النظر في الأمر "وسنرى في الانتخابات الأميركية ما قد يعطينا في العالم العربي دروساً للتعامل مع أخطار الذكاء الاصطناعي خلال تلك الانتخابات".
الانتخابات الأميركية
في مايو (أيار) الماضي، وبينما كان سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن إيه" التي كانت وراء إصدار "تشات جي بي تي" أمام لجنة بمجلس الشيوخ الأميركي، متحدثاً عن الذكاء الاصطناعي، قال إن استخدام تلك الخاصية للتدخل في نزاهة الانتخابات مبعث قلق كبير، مشيراً إلى وضع قواعد وإرشادات توجيهية للأمر. وحين سئل عن الذكاء الاصطناعي الذي يجب خضوعه للترخيص، قال إنه "ذلك الذي بوسعه توجيه قناعات محددة وتلاعب بمعتقدات الأفراد".
تعددت الآراء في تلك الجلسة، فالسيناتور كوري بوكر، اعتبر الذكاء الاصطناعي مثل مارد لن يحبس في قنينة، معتبراً أنه بمثابة "انفجار عالمي". فيما ذهب سيناتور آخر إلى أن هناك احتمالية لخطورة التضليل مع اقتراب انتخابات أميركا في 2024، مدللاً بصورة ترمب أثناء قبض شرطة نيويورك عليه، وهي صورة مزيفة جرى استخدامها بواسطة الذكاء الاصطناعي.
قبل تلك الجلسة وخلال أبريل (نيسان) الماضي، كان الرئيس الأميركي جو بايدن، قد اجتمع مع مجموعة من خبراء لدراسة أخطار التطورات السريعة للذكاء الاصطناعي، ومدى تأثيره في الأمن القومي الأميركي. وهي جلسة كانت في أعقاب دعوة عدد من خبراء التكنولوجيا وعلماء بارزين، لوقف تطوير الذكاء الاصطناعي، خشية أن يتحول إلى أداة قوية تهدد قطاعات مختلفة.
لكن الرئيس الأميركي عاد في يونيو الماضي، وتحدث عن أخطار الذكاء الاصطناعي من جديد، خلال فعالية له في سان فرانسيسكو، والتحيز والمعلومات المضللة، وهي أمور تدخل بالتأكيد في نطاق الانتخابات وعالم السياسة. آنذاك قال بايدن "إدارتي ملتزمة حماية حقوق الأميركيين وخصوصيتهم ومعالجة التحيز والمعلومات المضللة".
جزء من اللعبة السياسية
وفي ذلك يقول محمد فراس النائب، إن قلق البيت الأبيض والأنظمة السياسية عالمياً مبرر، وينبع من إدراك متزايد من الحكومات لأخطار الذكاء الاصطناعي والظواهر الناجمة عنه وإمكانات استخدامه في التأثير والتلاعب بالعقل البشري وتوجهاته "وهذا أساس اللعبة السياسية".
يشير النائب إلى أن الذكاء الاصطناعي، بات جزءاً من اللعبة السياسية، وقد يكون اللاعب الأساسي في المستقبل، وسيتوقف مدى تأثيره في قدرة السياسيين على استخدامه وتطويعه لمصالحهم وتوجهاتهم "وبطبيعة الحال، علينا القبول بهذا المستجد التكنولوجي والعمل معه عبر إيجابياته، في محاولة لتجنب سلبياته على الحضارة البشرية".
مخاوف قديمة تتجدد
استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، في الانتخابات الرئاسية، ليس بالأمر الجديد، وكان لها دور في الانتخابات الرئاسية الأميركية، في أعوام مختلفة، ما بين 2008 ثم 2012 و2016، وفي انتخابات 2020، باستخدام حسابات تنشر صوراً ومقاطع فيديو ومعلومات مضللة، حتى إن دونالد ترمب استخدم رسوماً مزيفة لبايدن، في الانتخابات الرئاسية عام 2020، لكن الأمر بات أيسر وأقرب إلى الواقعية بشكل كبير، بواسطة الذكاء الاصطناعي، الذي يتطور يوماً بعد آخر.
يقول تيدي جوف، وهو المسؤول عن المحتوى الرقمي، خلال حملة إعادة انتخاب الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، إن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، تستطيع خلق عوالم جديدة من المعلومات المضللة، لم يمكن تخيلها من قبل، معتبراً أن تبعات تلك المعلومات ستكون كبيرة، يجب الحذر منها، لا سيما قبل انتخابات الرئاسة الأميركية التي تنطلق في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، لما لها من حساسية خاصة، بحسب ما نقلت عنه "وول ستريت جورنال".
المواد المزيفة
يقول الأكاديمي المتخصص في التكنولوجيا الرقمية بجامعة زايد وجامعة تولوز الفرنسية، أحمد سامر وزان، في تصريح خاص، إن الذكاء الاصطناعي، سيصبح لاعباً مقلقاً في عالم السياسة، ومن الممكن مساعدة بعض الأدوات مثل "تشات جي بي تي" لبعض الحملات الانتخابية، بالتأثير في أصوات الناخبين، واستخدام الصور والفيديوهات أيضاً، لكنه يلفت إلى أن هناك موقفاً إيجابياً له علاقة بالحديث عن ذلك التأثير "أصبحت لدى البعض خبرة في شأن المواد المزيفة عكس السنوات الماضية، وباتت لديهم شكوك أيضاً في ما يرون".
وزان اعتبر، أن استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل المعلومات والبيانات أمر جيد، طالما أنه يستخدم في إطار قانوني وأخلاقي، وهو أمر سيسرع عملية التحليل وربما التنبؤ، وسيساعد أصحاب الحملات الانتخابية في كسب الوقت "الخطورة تكمن في التضليل، لكن أي استخدام غير ذلك فهو مشروع ولا مشكلة فيه".
يلفت المتخصص في الشأن الرقمي، محمد الحارثي، إلى بعد آخر، وهو قدرة الذكاء الاصطناعي، على تحليل كم هائل من المعلومات والبيانات، وقدرته على التعلم العميق، كأمر محتمل، وهي قدرة الآلة على تعلم أمور، ربما لا يستطيع البشر فهمها أو مجاراتها "وفي تلك الحالة ستكون للذكاء الاصطناعي خطورة أكبر متى استخدمت للتضليل في فترات الانتخابات".
يضاهي الذكاء البشري
ما يقوله الحارثي، يعيد التذكير بما قاله رجل الأعمال الأميركي، إيلون ماسك، حول وصول الذكاء الاصطناعي، لمرحلة يضاهي خلالها مستوى الذكاء البشري في عام 2029، أي بعد ستة أعوام من الآن.
كان ذلك في حلقة نقاشية حضرها الآلاف، حين كان ماسك يتحدث عن شركته الجديدة "إكس إي آي" المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، والساعية لفهم حقيقة طبيعة الكون. والذكاء الاصطناعي العام الذي قصده ماسك، يسمح لهذا النوع من الذكاء بإدراك حقيقة الأشياء والتعامل معها من دون تجربة مشابهة، وهو الأمر الذي لا يزال يميز البشر عن الذكاء الاصطناعي.
يرى الحارثي أن ذلك في حال حدوثه، فستكون المخاوف أكبر، على رغم تصريح ماسك بأن ذلك يخدم البشرية، ويسعى لاستمراريتها "القدرة على التضليل العميق آنذاك ستصبح أكبر، ستخدم حملات انتخابية تلعب على ذلك التضليل"، منبهاً إلى ضرورة أن تكون هناك تطبيقات تستطيع الكشف عن المعلومات المضللة أو المواد المنتجة بالذكاء الاصطناعي بغرض التزييف "لأن التزييف الآن بات أقرب إلى الواقعية، وهناك حاجة ماسة الآن لاستباق الأمر".
ما بين متخوف من الذكاء الاصطناعي ومرحب به وفق شروط، فإنه بات واقعاً ولاعباً في عوالم عدة، فقد استجوب رئيس الوزراء الياباني في مارس (آذار) الماضي، بأسئلة من اقتراح "تشات جي بي تي"، وصاغت الأداة نفسها في فرنسا، تعديلاً لمشروع قانون للألعاب الأولمبية لعام 2024، ودعا الرئيس الصيني، لإدراج الذكاء الاصطناعي في سياسة بلاده الخارجية، واستخدامه لتعزيز دبلوماسية بكين، بعد إخضاعه لإجراءات تعمل على ألا يهدد الأمن القومي للبلاد وقيمها الاشتراكية.
سباق التطوير لا يتوقف، والمخاوف كذلك، تنظر دول بعين الريبة للذكاء الاصطناعي، وتسعى أخرى للحاق بذلك التطور الكبير على أمل الاستفادة منه، فيما يعاد نشر مواد فنية قديمة تنبأت بسيطرة ذلك الذكاء على العالم، وإخضاع البشر لها، وهي مخاوف باتت محل تساؤل من كثيرين.